حاول كيسنجر خلال المفاوضات حفظ سلامة الدولة اليهودية وأمنها، في وقت عدّ فيه القادة الإسرائيليون وجوده في دائرة صنع القرار الأميركي كفيلا بحماية مصالحهم لأنه يهودي، أما القادة العرب فاعتقدوا أن يهوديته كفيلة بدفع إسرائيل إلى قبول تنازلات كبيرة.
واشنطن- يتعرّض كتاب مارتن إنديك الجديد “سيد اللعبة: كيسنجر وفن دبلوماسية الشرق الأوسط” (Master of the Game: Henry Kissinger and the Art of Middle East Diplomacy)، لتاريخ مشاركة هنري كيسنجر -مستشار الأمن القومي ووزير الخارجية الأميركي السابق- في مفاوضات سلام الشرق الأوسط، وتبعات ذلك على الصراع المستمر حتى اليوم.
ويتناول الكتاب تفاصيل مهمة كيسنجر عقب “حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973″، التي أفضت إلى بناء آلية لعملية سلام الشرق الأوسط في السنوات التي أعقبت الحرب.
شغل إنديك سابقا منصب سفير الولايات المتحدة لدى إسرائيل مرتين، ومساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى والمبعوث الأميركي الخاص للمفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية. ويقدّم في كتابه، الذي جاء في 688 صفحة، تحليلا عن قرب لواحدة من أكثر الشخصيات تأثيرا في تاريخ السياسة الخارجية الأميركية في النصف الثاني من القرن الـ20.
وحصلت الجزيرة نت مبكرا على نسخة من الكتاب الذي يتاح في الأسواق الأميركية يوم 26 أكتوبر/تشرين الأول الجاري.
عن “سيّد اللعبة”
يعيد إنديك القارئ إلى السبعينيات، حين أجرى كيسنجر مفاوضاته مع رئيس مصر السابق أنور السادات، ورئيسة الوزراء الإسرائيلية غولدا مائير، ورئيس سوريا حافظ الأسد، والملك الأردني حسين بن طلال، والملك السعودي فيصل بن عبد العزير آل سعود، ليسرد بالتفصيل الطريقة التي تمكّن بها من المناورة مع قادة الشرق الأوسط نحو السلام.
يقول إنديك “إذا كانت الدبلوماسية فن نقل القادة السياسيين إلى أماكن يترددون في الذهاب إليها، فإن كيسنجر كان سيد اللعبة”.
ويستند الكتاب إلى آلاف الوثائق التي رفعت عنها السرّية من الأرشيف الأميركي والإسرائيلي، ومقابلات واسعة ومتكررة مع كيسنجر نفسه، فضلا عن لقاءات جمعت الكاتب بكبار مسؤولي ملفات عملية السلام في الدول المعنية.
وفي لقاء بمجلس العلاقات الخارجية قبل أيام، حضرته الجزيرة نت، أشار إنديك إلى سببين دفعاه إلى إنجاز هذا الكتاب عن كيسنجر.
يتعلق الأول بعمق كيسنجر وقوته في وضع أساس بذور الدور الأميركي الجوهري في عملية السلام بين العرب والإسرائيليين، ويقول إنديك إنه كونه المبعوث لعملية السلام خلال عهدي بوش وأوباما، وسفيرا مرتين لدى إسرائيل، “كان عليّ التعلم جيدا مما قام به كيسنجر”.
ويرى إنديك “غياب وجود عرض تفصيلي ضمن عشرات الكتب التي تناولت تاريخ كيسنجر عن دوره حين كان وزيرا للخارجية في النجاح في التوصل إلى 3 اتفاقيات، اثنتان بين مصر وإسرائيل، وواحدة بين إسرائيل وسوريا عقب حرب أكتوبر/تشرين الأول”.
ويقول إن السبب الثاني شخصي، “ففي أكتوبر/تشرين الأول 1973 كنت طالبا أستراليا أدرس العلاقات الدولية في الجامعة العبرية بإسرائيل، وكنت متطوعا في أحد المستوطنات القريبة من قطاع غزة، عندما وقعت الحرب، وكنت أسمع كل يوم طائرات النقل الأميركية الضخمة من طراز (سي- 5 إيه)، وهي تنقل كل شيء من عتاد عسكري من مدرعات ودبابات، وغيرها”.
ويضيف” كنت أستمع إلى راديو بي بي سي لمعرفة آخر التطورات، وإلى تحركات كيسنجر التي أسهمت في التوصل إلى وقف إطلاق النار. في هذه اللحظات، تعهدت لنفسي بالعمل على إيجاد السلام بين إسرائيل وجيرانها العرب؛ وبدأت حياتي المهنية من هذه النقطة، والآن أنهيها أيضا معها.. العودة إلى الأصل”.
سردية كيسنجر
وينقل الكتاب عن كيسنجر قوله إن “السلام في الشرق الأوسط كان مشكلة وليس حلا، والرغبة في السلام تحتاج إلى إيجاد نظام مستقر في هذه الجزء الشديد التقلب من العالم”.
وحسب إنديك، تتمثل أهم إنجازات كيسنجر في التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار الذي أنهى حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، والاتفاق بين إسرائيل وسوريا الذي حافظ على السلام في مرتفعات الجولان مدة 40 عاما، واتفاقين لفض الاشتباك أخرجا مصر من الصراع مع إسرائيل، وأرسيا الأسس لمعاهدة سلام بين البلدين.
وفي الوقت الذي عانت فيه الولايات المتحدة من تبعات تدخلها المكلف في فيتنام من ناحية، ومن ناحية أخرى تدهور مكانة الرئيس ريتشارد نيكسون وتركيزه بسبب فضيحة ووترغيت، استخدم كيسنجر دبلوماسيته الماهرة لتهميش الاتحاد السوفياتي في خضم الحرب الباردة وبناء نظام شرق أوسطي بقيادة الولايات المتحدة.
وبدلا من محاولة حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني بضربة واحدة، كما كان يأمل الرئيسان جيمي كارتر وبيل كلينتون لاحقا، كتب إنديك أن وساطة كيسنجر لوقف إطلاق النار والوصول إلى اتفاقيات محدودة مؤقتة كانت أسلوبا حكيما، لأنها حافظت على استقرار هش من دون أن تهدف إلى الكثير.
يؤكد إنديك أن “الواقعية الكيسنجرية” هي الحل لمعضلة السياسة الخارجية الليبرالية الطموحة، ويقول إن “التدرج الواقعي لكيسنجر وفّر طريقا وسطا بين الطموح في السلام الشامل من جانب، واليأس والجمود وبقاء الأوضاع كما هي عليه. وآمن كيسنجر بأن الطريق نحو السلام لا بد أن يبقى تدريجيا وبطيئا، وقد يكون غير متكافئ في كثير من الحالات”.
ويوضح الكتاب أن كيسنجر آمن بأن السلام سيتحقق عندما يستنفد العالم العربي كل البدائل، ويعتاد مع مرور الوقت وجود إسرائيل. ومن خلال اختيار عملية تدريجية، بدلا من الاندفاع السريع نحو تسوية شاملة، قدمت دبلوماسية كيسنجر اعتمادا على طريق طويل نحو السلام. وفي غضون ذلك، كان الهدف هو الاستقرار، وتجنّب أي شيء يمكن أن يعكر صفو عملية السلام مع تعليم الطرفين الصبر وبناء بعض الثقة المتبادلة.
ويرى إنديك أن دراسة كيسنجر للعلاقات الدولية وتركيزه على مرحلة الاستقرار الأوروبي في القرن الـ19 حكما رؤيته للعالم، سواء في التعامل مع الصين أو مع الاتحاد السوفياتي أو بين العرب واليهود.
ويعتقد إنديك أن نجاح كيسنجر وفّر دروسا في “كيفية الحافظ على السلام عقب الحرب”، في وقت لم يؤمن فيه ببناء السلام على أنه هدف في حد ذاته، بل كوسيلة للحفاظ على الاستقرار والنظام. وآمن كيسنجر أن السعي الحماسي للسلام ينتج العكس كما وقع في بداية الحرب العالمية الثانية، وكما حدث في عهد الرئيس كلينتون! فهذا التسريع يهز الاستقرار. لذا، يجب أن تكون الأهداف محددة ومحدودة واقعية في كل مرحلة حتى لا تنتكس عملية السلام وتصعب إعادتها مرة أخرى، كما هو الحال اليوم!
إنديك تعرض للمنحة التي قدمها الرئيس أنور السادات للولايات المتحدة في طرده الخبراء السوفيات من مصر عام 1972 من دون أن يحصل على ثمن (مواقع التواصل الاجتماعي)
مِنح السادات المجانية
يُفصّل الكتاب ما عدّه كيسنجر مناورة ومبادرة جادّة قام بها الرئيس المصري أنور السادات، ولم تلتفت إليها واشنطن إلا متأخرًا، فقد أرسل مستشاره للأمن القومي حافظ إسماعيل إلى واشنطن في فبراير/شباط 1973 حاملا مبادرة للسلام.
قابل كيسنجر إسماعيل واستمع إليه، وأجّل الرد من دون جدية ومن دون استعجال على الرغم من تأكيد إسماعيل على ذلك.
عرض كيسنجر الفكرة على نيكسون، ثم ناقش الأمر مع السفير الإسرائيلي لدى واشنطن، إسحاق بيريز، الذي قلل من أهميتها ورفضها، كما فعلت غولدا مائير التي قضت على المبادرة، وقالت “انسوها”.
وتعهّد كيسنجر بالعودة للمبادرة بعد إجراء الانتخابات الإسرائيلية التي كانت مقررة في ديسمبر/كانون الأول 1973، لكن السادات ذهب إلى الحرب في أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه.
وقبل ذلك، فاجأ الرئيس المصري العالم بقرار طرد 20 ألفا من الخبراء السوفيات من مصر يوم 18 يوليو/تموز 1972، وكان رد الفعل الأميركي دليلا كافيا للتعرف على أهمية هذه الخطوة وخطورتها، فقد قال كيسنجر “لو اتصل الرئيس السادات تليفونيا بواشنطن وطلب أي شيء قبل طرد الخبراء من مصر، لكان حصل على ما أراد، إلا أنه قدم هذا العمل الجليل لنا مجانا”.
ولكن الكتاب يشير إلى أن السادات اعتمد على حسابات مختلفة، ورأى أن التخلص من الخبراء كفيل بتحريره من عبء موافقة الاتحاد السوفياتي على أي عمل عسكري في المستقبل.
ويقول إنديك متحدثا عن كيسنجر “تصورنا أن السادات غبي، ولا يمكن له القيام بشيء ذي قيمة، ولم يكن كذلك”.
كيسنجر يحذر من تغيير جذري في النظام الدولي بسبب كوروناهنري كيسنجر يتحدث في الأيام الأخيرة عن تغيرات جذرية في النظام الدولي بسبب كورونا (الجزيرة)
رؤية كيسنجر لفلسطين والفلسطينيين
عدّ كيسنجر منظمة التحرير الفلسطينية منظمة إرهابية، وكان يرى ياسر عرفات مسؤولا عن قتل دبلوماسيين أميركيين في الخرطوم عام 1972.
وبسبب خبرته الأوروبية، تعامل كيسنجر مع الدول ذات السيادة، وترك نائب رئيس “السي آي إيه” (CIA) ليقابل عرفات في المغرب ليقنعه بعدم إثارة الفلسطينيين نحو العنف أو الفوضى أثناء المفاوضات، وبالعمل على احتوائهم ولو حتى حين.
وآمن كيسنجر بأهمية اللاعبين الكبار أولا، ورأى أن الجماعات غير الدول، ومن هنا تعامل بوجه أساسي مع مصر وسوريا وإسرائيل في اتفاقيات فض الاشتباك الثلاث.
ولم يكترث كيسنجر بالأردن رغم إلحاح الملك حسين، وتركه للمرحلة اللاحقة، وركز على إستراتيجية مصر أولا، وكان له ما أراد.
يهودية كيسنجر ونشأته ومعضلة الحياد
أبلغ كيسنجر المؤرخ نيل فيرجسون “أنه من الصعب أن تكون جزءا من شعب عانى ما عاناه اليهود على مدار ألف عام من دون أن يكون لديك إحساس قوي بهويتك، وإحساس بالواجب تجاه عقيدتك اليهودية”.
ويشير الكتاب إلى أن كيسنجر خسر 13 من أفراد عائلته على يد النازيين والهولوكوست، كما قُتل كثير من زملائه في المدرسة.
ويوضح إنديك أن تجربة كيسنجر المبكرة أثناء فراره من ألمانيا النازية إبان الحرب العالمية الثانية جعلته يشعر بخيبة الأمل إزاء “المثالية الويلسونية التي سعت إلى السلام لإنهاء جميع الحروب”، وهذا ما دفعه إلى التعامل مع ملف عملية السلام بحذر وتشكك كبير.
في الوقت ذاته، كان من المعروف عن الرئيس ريتشارد نيكسون ميوله المعادية للسامية، وحساسيته من يهودية كيسنجر، ولم يعهد إليه بملف العلاقات العربية الإسرائيلية إلا في السنوات الأخيرة من حكمه، وتركه لفوستر دالاس بضع سنوات. لذا، لم يشرف كيسنجر على ملف الشرق الأوسط إلا قبل اندلاع حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973.
وحاول كيسنجر تاريخيا، وخلال المفاوضات، حفظ سلامة الدولة اليهودية وأمنها في وقت عدّ فيه القادة الإسرائيليون وجوده في دائرة صنع القرار الأميركي كفيلا بحماية مصالحهم لأنه يهودي، أما القادة العرب فاعتقدوا أن يهودية كيسنجر كفيلة بنيله ثقة إسرائيل، وهو ما سيدفعها إلى قبول تنازلات كبيرة.
وبين هذا وذاك، استغل كيسنجر رؤية الأطراف له لتحقيق ما رآه مصلحة أميركية، طبقا لتحليل مارتن إنديك.
المصدر: الجزيرة نت