تُوحي القيمة الرقمية لمشروع موازنة سوريا في العام 2022، بتفاؤل مفرط في أوساط مخططي السياسات الاقتصادية بحكومة النظام. تفاؤل يستند إلى رهانٍ بحصول انفراجات سياسية كُبرى في الإقليم، لصالح نظام الأسد، تنعكس اقتصادياً. الأمر الذي يعني أنه في حال كان هذا التفاؤل في غير محله، فإننا سنكون أمام مشهد مُستنسخ من المشهد الاقتصادي العام لسوريا خلال 2021: ليرة منفلتة يسعى المركزي بكل الطرق للجم انهيارها، وبلطجة على التجار والصناعيين لتحصيل أكبر قدر ممكن من الإتاوات والضرائب لنجدة الخزينة المفلسة، بصورة تُطفّش المزيد من رأس المال المحلي إلى الخارج، وحلقات جديدة من مسلسل الارتباك والفوضى والعجز عن تغطية المواد المدعومة حكومياً، من محروقات وخبز وسلع تموينية.
وبخلاف موازنة العام 2021، التي كانت القيمة الرقمية لها –قياساً بأسعار الصرف حينها-، متحفظة. جاءت القيمة الرقمية لمشروع موازنة 2022، أكثر جرأة لجهة الرهان على قدرة حكومة النظام على زيادة تمويل بعض بنود الإنفاق لديها.
ففي نهاية العام 2020، أصدر رأس النظام، بشار الأسد، موازنة العام 2021 بقيمة 8.5 تريليون ليرة سورية. وكان سعر صرف الدولار الواحد حينها بحدود 2865 ليرة. أي أن القيمة الرقمية لموازنة 2021، حين إصدارها، كانت بحدود 2.9 مليار دولار. وهي قيمة أقل من القيمة الرقمية لموازنة العام 2020 (قياساً بالدولار)، التي صدرت بـ 4 تريليون ليرة سورية، حينما كان سعر صرف الدولار بوسطي 900 ليرة سورية، أي كانت قيمتها الرقمية بحدود 4.4 مليار دولار. أي أن مخططي السياسات الاقتصادية بحكومة النظام خفّضوا تقديراتهم لموازنة سوريا من 4.4 مليار دولار، في العام 2020، إلى 2.9 مليار دولار في العام 2021. مما يعكس درجة ملحوظة من التحفظ حيال قدرة الحكومة على الإنفاق، في نهاية العام 2020.
ويمكن فهم ذلك بطبيعة الحال. فعام 2020، كان أحد أسوأ السنوات على سوريا، وفق المعايير الاقتصادية. إذ نال تفشي وباء كورونا العالمي من اقتصادها، وضاعفت أزمة رامي مخلوف مع رأس النظام من انهيار ثقة المستثمرين المحليين بالاقتصاد السوري، فازداد تهريب العملة إلى الخارج. وتعرضت الليرة لأقسى انهياراتها على الإطلاق. فانهارت من 900 للدولار الواحد عشية 2020، إلى2865 للدولار الواحد عشية العام 2021.
أما موازنة العام 2022، فتُوحي بتقديرات مُعاكسة لدى المخططين. إذ أن قيمتها الرقمية بالليرة التي ارتفعت بنسبة 56% لتصبح أكثر من 13 تريليون ليرة سورية، تعكس ارتفاعاً رقمياً -قياساً بالدولار- بنسبة 30% مقارنة بموازنة العام 2021. وباعتماد سعر الصرف الجاري الآن، 3500 ليرة للدولار الواحد، تكون القيمة الرقمية للموازنة المقترحة لعام 2022 بحدود 3.8 مليار دولار، مقارنة بـ 2.9 مليار دولار لعام 2021.
هذه الـ 900 مليون دولار الزائدة، تنعكس في بنود النفقات الجارية بمشروع الموازنة للعام القادم. وأبرزها، بند الدعم الاجتماعي، الذي سيُموّل بحوالي 1.5 مليار دولار، مقارنة بـ 1.2 مليار دولار في عام 2021. أي أن حكومة النظام تخطط مبدئياً لزيادة الدعم الاجتماعي (دعم المحروقات والخبز والسكر والرز)، بنسبة 25%.
هذه الزيادة دفعت متخصصين للحديث صراحةً، لصحيفة “الوطن” الموالية، عن مخاوفهم حيال الكيفية التي ستُموّل بواسطتها. وهذه المخاوف مفهومة بطبيعة الحال. ذلك أن المشكلة ليست بكيفية تغطية العجز المعلن بمشروع موازنة العام القادم، والمُقدّر بـ 4.4 تريليون ليرة سورية (1.2 مليار دولار)، بل بالإجابة على سؤال: من أين تعتزم حكومة النظام توفير الإيرادات المتوقعة في مشروع الموازنة والمُقدّرة بـ 9.2 تريليون ليرة سورية (2.6 مليار دولار)؟ الإجابات التقليدية لهكذا تساؤل، تندرج ضمن بنود الضرائب، وسندات الخزينة. والأخطر بهذا الصدد، طباعة المزيد من العملة. وبما أن التهرب الضريبي يضرب أطنابه في سوريا، وسندات الخزينة غير مغرية، وغير كافية مع الإشارة إلى أن النظام أجبر المصارف على شراء إصدارات عدة من سندات الخزينة خلال العامين الماضيين، أمام ما سبق، يبدو أن خيار طباعة المزيد من العملة، هو الأرجح. كما حدث تماماً في مطلع العام 2021. إلى جانب ذلك، ستبقى الجباية الضريبية الفوضوية والتي لا تخلو من إجراءات بلطجة ضد رأس المال المحلي، وسيلة مستقرة لتمويل الخزينة خلال العام القادم. وهي الوسيلة ذاتها التي دفعت لهجرة المئات إن لم يكن الآلاف من الصناعيين والتجار من البلاد، خلال العام الجاري، بإقرارٍ من بعض مصادر النظام، ذاتها.
الاحتمالات آنفة الذكر، بخصوص تمويل إيرادات الخزينة، ستكون واردة بشدة، في حال لم يكن تفاؤل مخططي السياسات الاقتصادية بحكومة النظام، في محله. ذلك التفاؤل -الذي دفعهم لتقدير رقم أعلى لموازنة العام القادم، ليس فقط قياساً بالليرة السورية، لكن قياساً بالدولار أيضاً- يبدو مفرطاً وفي غير محله، ليس لأن الانفراجات السياسية الإقليمية لصالح النظام، غير مرجحة، بل لأن استقرار انفراجات كهذه وتحولها إلى مردود اقتصادي مُباشر، خلال العام القادم، فيه استعجال ملحوظ في الرهان من جانب المخططين الاقتصاديين بدمشق. وإن كان هذا الرهان في غير محله، كما أشرنا، فهذا يعني مجدداً، ليرة منفلتة، يمكن توقع انحدارها إلى ما بين 4500 وحتى 5000 ليرة مقابل الدولار الواحد، خلال العام القادم. ناهيك عن استقرار مشهد طوابير المحروقات والخبز والمواد التموينية، وانقطاعاتها. من دون أن ننسى، المزيد من فرار رؤوس الأموال المحلية جراء تكتيكات الجباية “البلطجية” التي يعتمدها النظام.
المصدر: المدن