ربما أكثر ما يحزن أن لا نتعلم شيئًا من التجارب القاسية رغم دفع أثمانًا غالية قد تكون أحيانًا غير قابلة للتعويض في زمن قصير. والأسوأ من وقوع الكارثة على الصعيد المادي هو عدم تغيير البنية الفكرية التي أدت إلى هذه الكارثة مما يعني إمكانية إنتاج كارثة جديدة في أي وقت
كمثال عملي سآخذ حادثة ١١ سبتمبر. للدراسة التي بدل من تحليلها تحليلًا منطقيًا حاولنا تشتيت انتباهنا بتحليلات متناقضة تخلط ما سبق بما لحق بعقدة المؤامرات والتفصيلات الجزئية. ولو عدنا لتحليل السياق قبل الحدث ومن خلال بيانات تنظيم القاعدة نفسه وتصريحات بن لادن العلنية أو المنقولة عنه، عن طريق أعضاء أو مقربين تبين أن الاستراتيجية التي بناها وكان مقتنعًا بها، هي أن توجيه ضربة قوية للولايات المتحدة سوف تؤدي إلى انهيارها أو انهيار سيطرتها على العالم سياسيًا واقتصاديًا.
وبالفعل فقد نجح في توجيه أقوى ضربة ممكنة لها وأظن أن تأثيرها أقوى من ضربة نووية تمكنت من كل رموز سيطرتها في آن معًا. ولكن النتيجة النهائية هل كانت كما توقع التنظيم؟ أظن بأن العكس تمامًا ما حدث، وهو تعزيز سيطرة الولايات المتحدة على العالم أكثر سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا.
ورغم أن احتمال انهيارها كان واردًا لو كانت الظروف الموضوعية مواتية، وأعني لو أن العالم كان لديه الاستعداد أو الرغبة أو التواطؤ. لترك هذا الانهيار يحدث من تلقاء نفسه، أو تساهم فيه حتى لو بالحياد. لكن ما حدث فعليًا أن كل دول العالم تقريبًا من حلفاء أو أصدقاء أو أعداء قد ساهمت في عدم السماح لهذا الانهيار بالحدوث، لأن العالم كما هو على أرض الواقع مختلف عما كان في التصور الذهني لابن لادن، المبني أساسًا على قياس للقرن السابع الميلادي وإعادة التجربة من الهجرة إلى بناء دولة إسلامية ثم محاربة الروم والفرس في وقت متزامن، الذي عبر عنه بالجهاد ضد السوفيات والأميركان والانتصار.
لكن ما كان غائبًا عن ذهن بن لادن وتنظيم القاعدة والكثير من القوى التي تنهل من نفس القاعدة المعرفية بأن العالم قد تغير وتعقد إلى درجة تجعله بعيدًا عن هذا القياس. فالولايات المتحدة التي بنت النظام الدولي الجديد على أسس وعلاقات معقدة متشابكة ربطت فيها الاقتصاد والأمن والاستقرار الدولي ارتباطًا عضويًا بها. فجعلت أي احتمال لانهيارها أو حتى اهتزازها دمارًا شاملاً فراغًا قاتلًا واختلالاً لا يمكن للعالم احتماله. وهذا ما جعل أوربا وروسيا واليابان والصين تهب لإنقاذها وإعادة استقرارها بأسرع ما هو ممكن. بعد انهيار البورصة والعملة. الذي كان يمكن أن يستمر لولا ذلك.
لقد نجحت الضربة أمنيًا وعسكريًا بأقصى مما هو متوقع وذلك كان نتيجة دراسة وتخطيط دقيق لا يمكن إنكاره أو التقليل من أهميته أو حرفيته. لكنها فشلت سياسيًا وأقصى بكثير مما هو متوقع بما لا يقاس، بسبب قصور الرؤيا والانفصال عن الواقع القائم فعليًا على الارض فدفعنا كأمة وكأجيال ثمنًا غاليًا ومازلنا.
لكن ما أعاد إثارة الذاكرة واستعادة الذكرى الآن مع انتشار فايروس كورونا هو انتشار وتداول كم كبير من المقالات والفيديوهات التي تتنبأ بانهيار الولايات المتحدة، نتيجة هذه الجائحة وتبني عليها قصورًا من الأحلام الزائفة وركامًا من الحسابات الخاطئة.
إن ذلك يؤكد استمرار العقلية والذهنية التي أنتجت كارثة أيلول/سبتمبر وأن مفاعيلها قابلة لإنتاج كوارث جديدة نتيجة الانفصال عن الواقع، والفشل في ماهية التعلم من التجارب مهما كانت قاسية.
377 2 دقائق