حسناً فعلت مجموعة الناشطين السوريين حين تمكنت من ترتيب لقاء مع زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كلجدارغلو، الأسبوع الماضي، في إسطنبول. وقال الناطق باسم المجموعة طه الغازي إنه يأتي في إطار سلسلة من اللقاءات تشمل غالبية الأحزاب السياسية التركية في السلطة والمعارضة. فبهذا اللقاء، الأول من نوعه، ربما وفرت المجموعة فرصة لكلجدار أوغلو ليرى سوريين بعينيه، ويتبادل معهم الحديث، للمرة الأولى منذ بداية موجات النزوح السوري إلى تركيا، أو ربما للمرة الأولى في حياته. فكلجدار أوغلو الذي تصدر الأخبار، في شهري تموز وآب الماضيين، بتصريحاته الشهيرة عن عزم حزبه على إعادة اللاجئين السوريين إلى بلدهم «في غضون سنتين» يحتمل جداً أنه لم يلتق أياً منهم ليسمع عن أسباب لجوئه إلى تركيا أو عن الأوضاع الصعبة التي يعانون منها فيها. ذلك أن اهتمامه، وحزبه، بموضوع اللاجئين السوريين لم يتجاوز يوماً استثمار بعض مظاهر التبرم التي أظهرها المجتمع المضيف تجاه السوريين، ليضيفها إلى أسباب أخرى، اقتصادية وسياسية، لتحويلها إلى مكاسب انتخابية محتملة في صناديق الاقتراع. لا يتفرد زعيم الحزب العلماني بهذا الموقف، بل تشاركه فيه جميع الأحزاب السياسية في تركيا تقريباً، سواء في السلطة أو المعارضة. تتسابق تلك الأحزاب في استثمار موضوع السوريين الذين لا يرونهم كأشخاص من لحم ودم وملامح وجه وصوت، بل مجرد كائنات غير مرئية تعبر عنهم كلمة «سوريون» لهم صفات ملتصقة بهم، ويتسببون في مشاكل، ويتحملون مسؤولية الصعوبات التي يعاني منها المجتمع التركي.
كان لافتاً، في هذا الخصوص، أن طه الغازي ذكر جميع الأحزاب التي تنوي مجموعته أن تلتقي مع ممثليها أو قادتها، فغاب اسم حزب بارز في جبهة المعارضة هو الحزب الخيّر بقيادة مرال أكشنار. هذا الحزب الذي تأسس، قبل عامين، بعد انشقاقه عن حزب الحركة القومية بقيادة دولت بهجلي، هو أكثر الأحزاب استثماراً لموضوع اللاجئين السوريين، ويطلق أركانه بكثرة تصريحات معادية لهم ومحرضة ضدهم. أحد أشهر الوقائع، في هذا الباب، كان الشعار الانتخابي الذي رفعته إحدى مرشحات الحزب في الانتخابات البلدية قبل عامين: «لن نترك منطقة فاتح للسوريين!» وهي المنطقة المحافظة في قلب إسطنبول التي يقطنها عدد كبير من السوريين.
أمام صعود شعبية الحزب الخير، وفقاً لاستطلاعات الرأي التي تعطيه الآن 18٪ من أصوات الناخبين، كان لا بد لرئيس بلدية بولو من حزب الشعب الجمهوري أن يهدد بضرب فواتير الماء للسوريين بعشرة أضعاف ما يدفعه الأتراك في مدينته، لكي يتمكن الحزب من مجاراة شريكه القومي في «تحالف الشعب». أما كلجدار أوغلو الذي ووجه بانتقادات على تصريحه بشأن إعادة السوريين، فقد اضطر لـ«توضيح» موقفه بما سيزيده سوءًا، فقال: «نحن لن نعيدهم رغماً عنهم، بل طوعاً، وسنودّعهم بالطبل والزمر»!
أما في لقائه «السري» مع وفد النشطاء السوريين، فقد دخل في تفاصيل «خطته» بشأن تلك الإعادة: ستساهم تركيا، بعد وصول حزبه إلى السلطة، في إنهاء الحرب الأهلية في سوريا، وتأمين بيئة مستقرة وآمنة لعودة السوريين، وتقوم الشركات التركية ببناء البنية التحتية لحياة مستقرة، وفي حال استمر وجود مخاطر على أمن العائدين، فالحل هو النموذج القبرصي، أي إرسال قوات حفظ سلام من الأمم المتحدة تفصل بين مناطق النزاع. ونفى كلجدار أوغلو تلقيه دعوة من نظام بشار لزيارة دمشق. عموماً كان كلام الزعيم العلماني المعارض دبلوماسياً مع الوفد السوري، وأجوبته على أسئلتهم أقرب ما تكون إلى الارتجال، أي بدون تصور مسبق واضح للمشكلة التي يتحدث حولها أو الحلول التي اقترحها. فلم تختلف هذه جوهرياً عن الحلول التي يقول بها الحزب الحاكم، باستثناء «النموذج القبرصي» الذي استثار ردة فعل صحيفة «آيدنلك» الناطقة باسم حزب الوطن التي اعتبرت هذا الاقتراح مدخلاً لتقسيم سوريا، ودعوة لدخول القوات الامبريالية! أغرب ما في الأمر هو «سرية» اللقاء من وجهة نظر حزب الشعب الجمهوري الذي لم يصدر أي بيان له حول اللقاء وما دار فيه. كذلك تجاهلت الصحف القريبة من الحزب حدوث اللقاء، وكأنه شيء يخجل الحزب من الإعلان عنه، أو حتى إيراد خبر بشأنه. كل ما نعرفه عن اللقاء ومضمونه جاء على لسان طه الغازي. المنابر التركية القليلة التي أشارت إلى حدوث اللقاء ـ وهي بعيدة عن الخط الذي يمثله الحزب العلماني نقلت تصريحات الغازي باعتبارها المصدر الوحيد للخبر.
واضح من هذا التجاهل أن الحزب لا يريد «إفساد» مفاعيل تصريحات كلجدار أوغلو في تموز وآب التي ربط البعض بحق بينها وبين أحداث العنف التي شهدتها العاصمة أنقرة واستهدفت سوريين في منطقة التنداغ، من حيث أثرها التحريضي. فكلامه المعتدل نسبياً، أي الأكثر تعقلاً، مع النشطاء السوريين قد تجعله يخسر ما كسبه في التصريحات السابقة، حسب تصوراته وأوهامه.
الواقع أن فكرة تكسُّب الأحزاب السياسية في تركيا من ضخ خطاب معاد للسوريين، أو الأجانب بصورة عامة، لأصوات الناخبين، هي مجرد فكرة افتراضية، قد تصح أحياناً بالتشابك مع شروط أخرى، لكنها لا تشكل رائزاً ثابتاً عند الناخبين، ولا عند أكثريتهم. فلدى هؤلاء أمور أكثر أهمية تجعلهم يصوتون لهذا الحزب أو ذاك. في حين يلعب التحريض ضد اللاجئين أو الأجانب دوراً تخريبياً يزعزع الأمن العام ولا يفيد أحداً أو حزباً.
تشير استطلاعات الرأي الدورية (أسبوعية، شهرية) التي تجريها شركات محترفة إلى تراجع شعبية حزب العدالة والتنمية باطراد، ومعه حزب الحركة القومية. وإذا كان يصح تفسير صعود شعبية الحزب الخيّر بانتقال أصوات «الحركة القومية» لصالحه، فلا ينطبق ما يماثله على الأصوات التي يفقدها «العدالة والتنمية» (الإسلامي) فهي لا تنتقل إلى «الشعب الجمهوري» (العلماني) بل تخرج من اللوحة السياسية، وقد ينتقل قسم صغير منها إلى حزب «دواء» بقيادة علي باباجان، أو حزب المستقبل بقيادة أحمد داوود أوغلو، وكلاهما منشقان عن «العدالة والتنمية» ولا يشكل كلاهما ثقلاً مهماً في الحسابات السياسية إلى الآن.
برغم جميع التحفظات المذكورة أعلاه، يبقى أن لقاء نشطاء سوريين بممثلي الأحزاب السياسية في تركيا هو خطوة إيجابية في الاتجاه الصحيح، تأخرت كثيراً وليتها بدأت قبل سنوات. فالتواصل المباشر وتبادل الكلام من شأنهما إزالة سوء الفهم والأحكام المسبقة وغيرها مما يغذي النفور والنزعات العدائية.
المصدر: القدس العربي