لعل القاسم المشترك الأبرز في هرم السلطة هو مسقط رأس كبار الدولة في إيران حيث مشهد ثالث محافظة سياسية بعد طهران وأصفهان في تخريجها للقادة والرؤساء، إذ ينحدر المرشد الأعلى، آية الله علي خامنئي، ورئيس الجمهورية، إبراهيم رئيسي، ورئيس البرلمان محمد باقر قاليباف منها. التجانس في کسب المناصب الثلاثة من أصل الأربعة الرئيسية هي سيطرة مشهدية على السياسة الإيرانية. وإن الحيّز الذي يشغله المشهديون لم يکتف بهذه المناصب إنما تنوع وجودهم داخل مؤسسات الدولة في العاصمة طهران؛ أرفعها عسكرياً قيادة فيلق القدس للحرس الثوري، حيث حلّ الجنرال إسماعيل قاآني خلفاً لقاسم سليماني.
محافظة مشهد (خراسان رضوي) المحاذية للحدود الأفغانية في شمال شرقي إيران وحاضنة مرقد ثامن أئمة الشيعة الإمام علي بن موسى الرضا، تشتهر بقدسيتها لدى أتباع أهل البيت، وقد حصد أبناؤها في الحوزات الدينية أيضاً ألقاباً رفيعة في الحاضر والماضي، حيث المرجع الأعلى للشيعة في العراق آية الله علي السيستاني والمرجع الأبرز في حوزة قم الإيرانية آية الله وحيد خراساني.
المرشد الأعلى علي خامنئي مع الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي/رويترز
سياسياً يرى الباحث في علم الاجتماع، عباس عبدي، أن الوضع يرتكز على العلاقات الفردية أكثر مما هي علاقات ومصالح حزبية أو جماعية حيث لا وجود للأحزاب القوية والمؤسسات المدنية الفاعلة في إيران. لذلك يصبح الأمر طبيعياً أن يتعاقب على المؤسسات السياسية أبناء حي أو مدينة أو محافظة ما، عند دخول أحدهم الساحة السياسية؛ إما لظروف الزمالة أو القرابة أو الجيرة التي تتسم بعامل الثقة، وفق شرح عبدي. كما أن الموضوع لا يتعلق بفئة معينة دون غيرها، فالمعرفة والثقة بالأشخاص تأتي على حساب العلاقات الفردية لا المؤسساتية.
وعند تسلم خامنئي منصب المرشد الأعلى بعد ثماني سنوات من رئاسة الجمهورية إبان الثورة الإيرانية، فالاختيار بالطبع كان يقع على شخصيات ممن يعرفهم المرشد ويثق بهم، کما يقول عباس عبدي، والسياسي محمد علي أبطحي المنحدر من مشهد أصلاً.
أما العوامل الأخرى في تواجد رجال مشهد على سدة الحكم أکثر من غيرهم في نظر الباحث الاجتماعي عبدي؛ أنهم أكثر تديّناً، والعامل الآخر أن المدينة شهدت نمواً وتطوراً ملحوظاً بعد حكم الجمهورية الإسلامية نسبة بباقي المدن لما تحتل من مكانة دينية لدى الإيرانيين، فهي المقصد السياحي الأول، يزورها نحو 30 مليون شخص سنوياً، مما ساعد في توسيع الترابط والتواصل بين الطبقة النخبوية في مشهد وأصحاب القرار على صعيد البلاد.
التقارن والمواءمة في وصول المشهديين إلى هرم السلطة بهذه الدرجة وعزها الباحث التاريخي حجت صالح إلى كفاءة الأفراد، وإن ما حدث اليوم هو نتاج طبيعي، حيث إن خامنئي يتولى مهام المرشد الأعلى منذ 1989، وإن قاآني كان مساعداً للجنرال قاسم سليماني فاحتل مكانه بعد اغتياله عام 2020، كما أن رئاسة قاليباف للبرلمان في العام نفسه جاءت نتيجة لثقة النواب، أما تسلم إبراهيم رئيسي منصب الرئيس عام 2021 يأتي وفقاً للعملية الانتخابية.
أما البيئة التي ترعرع فيها من تولى قرار طهران، فيوضح الباحث صالح وهو من المحافظة نفسها؛ وجود مدرسة دينية فاعلة في مشهد التي خرجت العديد من رجال الدين، منهم السيستاني وخامنئي ورئيسي، وأما الجنرالان قاليباف وقاآني اللذان بزغ نجمهما في الحرب العراقية الإيرانية في الثمانينات من القرن الماضي فظهورهما نابع من وجود كوادر عسكرية مميزة في معسكرات مشهد. کما أن اکتساب المشهديين مقاليد الحكم في طهران بهذا المستوى من التناغم جاء تدريجياً عبر مخالطتهم معشر السياسيين ولم يحدث في وهلة واحدة، حسب السياسي الإصلاحي محمد علي أبطحي.
الاهتمام بمشهد يأتي على حساب مكانة صاحب المدينة كما يسميه الأهالي، حيث الإمام علي بن موسى الرضا، ولي عهد المأمون العباسي الذي دفن بجوار قبر الخليفة هارون الرشيد في منزل حُمَيد بن قحطبة في قرية سناباد عام 203 للهجرة، فبعد قرون تحوّلت مدينة سميت “مشهد الرضا” وتعني محل شهود الإمام الرضا. وفي بزوغ الدولة الحديثة المعاصرة اعتنى شاه إيران محمد رضا بهلوي بالمدينة ودشن فيها جامعة ومطاراً وسكة حديد وأماكن ترفيهية كما افتتح طريق مشهد – طهران (900 كلم). كل هذا ولم يكن بلاط الملك فاضياً من رجال مشهد، فقد عمد الشاه عام 1957 على تنصيب منوشهر إقبال المنحدر من نفس المحافظة رئيساً للوزراء.
وفي تلك الحقبة ورغم جسامة مشهد في مؤسسة الحکم، كانت المحافظة من المناطق الثائرة في منتصف القرن العشرين ضمن ثورة 1979م، حيث أبرز مفكري الثورة الإسلامية الذي كان لهم دور بتوعية الجماهير ضد الشاه هم أبناء المحافظة؛ منهم علي شريعتي ومرتضى مطهري، وهذا الحراك النضالي؛ فكرياً وسياسياً وعسكرياً كان نقطة التحول في العلاقات بين المشهديين والإيرانيين غداة انتصار الثورة وسقوط النظام الملکي على يد الثوار.
مشهد اليوم ثاني أكبر مدينة إيرانية بعد العاصمة طهران من حيث عدد السكان والاقتصاد والسياسة والصناعة والطب والثقافة والفن والاستثمار والتطور المدني، كما أنها تشتهر بخصوبة أراضيها التي يزرع فيها الزعفران. تاريخ المدينة لا يتجاوز الـ600 عام، لكنها حازت على اکتراث الدولة التيمورية والصفوية حتى في القرن الـ18 أصبحت عاصمة الدولة الأفشارية. فمزار ثامن أئمة الشيعة هو منارة الدولة الإيرانية ورمزها، يجاوره رجال الدين ويقصده الملوك والقادة السياسيون. وقابل عناية الدولة على مر التاريخ في شؤون المدينة رغبة أهلها في تعليم أبنائهم وإلحاقهم بالجامعات والمدارس الدينية.
وحتى في الوسط الثقافي والفني فقد تبوّأ الفنان المشهدي مکانة محمودة، أمثال؛ محمد رضا شجريان ومهدي أخوان ثالث ومعظم نجوم السينما في إيران، ولعل قول وزير الثقافة يبرز مکانتهم بشكل جلي: “استطاعت مشهد أن تساهم في خلق أبرز الأحداث الثقافية خلال المئة عام المنصرمة”.
وقبيل ظهور الإسلام كانت مشهد قرية ضمن منطقة طوس جزءاً من إقليم خراسان الذي يتوزع اليوم بين إيران وأفغانستان وتركمانستان، وهو العاصمة للإمبراطورية البارثيين ما قبل الميلاد.
ولكن هذه الهيئة من حضور رجالات مشهد في الدولة لا يسبب إزعاجاً للمواطن الإيراني ولا خطراً على النظام حسب تعبير السياسي أبطحي والباحث الاجتماعي عبدي، حيث سبق وكانت بعض من المدن الإيرانية تحتل نفس المكانة التي عليها مشهد الآن؛ كأسرة لاريجاني المنحدرة من شمال إيران، وقد تولت منصبين مهمين؛ رئاسة السلطة التشريعية والقضائية في آن واحد، كما أن الأصفهانيين يتمتعون بباع طويل في السلطة أبرزهم بعد الثورة آية الله الخميني، وأن محافظة سمنان وسط إيران توالت على رئاسة الجمهورية مرتين حيث مسقط رأس الرئيسين أحمدي نجاد وروحاني.
ما من شك أن المشهديين أصحاب قول في القرار السياسي الإيراني، ولا يمكن تجاهله حتى في الغد البعيد، فحظوظ إبراهيم رئيسي الذي بات يلقب اليوم بآية الله الدكتور كبيرة لتسلم منصب المرشد الأعلى بعد خامنئي، خاصة وهو نائب رئيس مجلس خبراء القيادة، كما يدعم رئيسي معسكر المحافظين المتمسك بمؤسسات الدولة، وإن صح هذا القرار، فالمأمول أن تبقى القيادة العليا في نظام الجمهورية الإسلامية بيد أهالي مشهد.
المصدر: عربي بوست