جمعت الدولة السورية في دساتيرها وقوانينها قضايا كثيرة، ولكنها كانت إسلامية بما يخصّ دين رئيس الدولة، ودور الشريعة في الدستور والقوانين وفي الأحوال الشخصية، والأخيرة تفرض قوانين في مسائل الإرث. ظل النظام الذي حكم سورية منذ السبعينيات فردياً وأسرياً، واستبدادياً، ووظّف الأديان والطوائف من أجل ديمومة سلطته وتأبيدها. استَغلت، من جهة أخرى، المؤسسات الدينية حاجة النظام لها، ولعبت أدواراً كبرى في إعادة تشكيل الوعي الديني وطيّفته، وكاد هذا الوعي أن يصبح هوية مجتمعية، بعد أن كانت القومية تشكّل تلك الهوية. وعادت الهوية الدينية لدى فئات كثيرة، بعد السنوات الأولى للثورة، لتصبح المسيطرة على شكل الوعي؛ والسوريون متدينون في أغلبيتهم، وطائفيون في مكان ما أيضاً. تكرّس الوعي الطائفي لمنع تشكّل الوعي الاجتماعي والطبقي، ما سمح للنظام السوري تغيير قوانين الاقتصاد نحو الليبرالية المضبوطة لصالح السلطة من دون مقاومةٍ تُذكر، ولكنها أصبحت تتحكّم بحركة الاقتصاد بعامة أيضاً.
أزمة النظام، وفساده ونهبه، أمور كانت تستدعي وعياً غير طبقي “تخديري”، وبالتالي دُفِعَ المجتمع، الذي كان قومياً ويسارياً في أغلبيته قبل السبعينيات، ليصبح بعدها دينياً وطائفياً ومذهبياً كذلك. وهذا تعميمٌ غير حميد هنا، يؤكد أن الطائفية في سورية انقسمت، سياسياً، إلى طائفيةٍ سنية، وتحالف الأقليات. جرى تهميش الأولى، وجرى تقريب الثانية من منافع السلطة. وانفجر الظلم “الطائفي” منذ 2013 بشكل واسع. التعميم دائماً يشوّه الواقع، ويأتينا بحقائق لتشويه الوعي، حيث الطائفية ليست الشكل الوحيد للوعي.
قلت إن النظام فردي وأسري. هذا هو أساسه. وللحفاظ على هذا الأساس، استَغل كل الآليات والأدوات لإخضاع المجتمع، وكان حلفاؤه من كل الطوائف، والذين استفادوا منه اقتصادياً منها جميعاً. كانت الغلبة في أجهزة الأمن والجيش، ولا سيما في المناصب العليا، لصالح الطائفة العلوية، ولكن ذلك لم يكن تعبيراً عن أيديولوجية طائفية راسخة أو “علوية سياسية” ما، وإنما كان تعبيراً عن “عائلةٍ حاكمة” تبتغي الحفاظ على ديمومتها، وتسلّطها. وضمن ذلك استَغلّت كتلة كبيرة في الطائفة العلوية المفقرة “المؤتمنة” وأبقت مناطقها فقيرة، وهذا يقتضي دراسته. وبالتالي، لم يكن أمامها إلا الوظائف الدولتية وبكل أشكالها.
السؤال هنا، كيف يمكن أن نصف النظام أعلاه علمانيا، وهل هذا صحيح؟ لم يكن علمانياً، ولا إسلامياً، كان نظاماً فردياً طغيانياً، وعمل على تغيير قوانين الدولة من “الاشتراكية” إلى الرأسمالية، وهذا ما فعله بدءاً من السبعينيات. مشكلتنا التي أصبح النقاش حولها كثيراً هي كيف نتخلّص من الطائفية التي أُسّس لها منذ السبعينيات، وبشكل غير مباشر، حيث لم يكن النظام طائفياً كذلك. كان إسلامياً في دين رئيس الدولة، وطائفياً في الأحوال الشخصية، وفي غلبة الأحوال الشخصية السنية على بقية الأحوال. أعطى النظام المستبدّ حقوقاً واسعة للمؤسّسة الدينية السنّية، بمذاهبها وطرائقها المتعددة، ورعى بقية المؤسّسات الدينية بشكل هامشي، وهمّش بشكل كليٍّ المرجعيات العلوية. الفكرة الأخيرة، استبدلها برجال دينٍ جُدد، يشار إليهم عادة بأنهم كانوا ضباطاً أو صف ضباط، وهذا يوضح التسييس المبالغ فيه. وقد رفضت المرجعيات التاريخية ذلك التطييف، المهمّش بدروه. كان هدف انتعاش الطائفية في سورية ديمومة السلطة، وتشويه الوعي القومي والوطني ومختلف أشكال الوعي الحداثي؛ وعدا ذلك هناك إرث تاريخي للطائفية، وهناك صراعاتٌ طلّت برأسها بقوّة قبل السبعينيات وبعدها أيضاً؛ منطلقها ومآلها طائفي. تفكيك سرديات الوعي الطائفي التي تشكلت أساسيٌّ للانطلاق نحو دولة حديثة، دولة تمثل كل السوريين.
بعد العام 2013 بشكلٍ خاص هناك سيطرة للوعي الطائفي، ولكن هناك أيضاً رفض كبير لها، سيما أن نتائجها الواقعية كارثية، على “شعب” النظام و”الشعب” الذي ثار عليه. إذا، هناك وعي جديد، رافض للوعي الطائفي، ولكنه ليس متبلوراً، وأوّليّاً في تعبيراته الوطنية، وغير واعٍ بدقةٍ بأفكار المواطنة وحقوق الإنسان، والعلمنة، بوصفها أفكارا تخصّ تحييد الدولة عن الأديان والأديان عن الدولة، وبقصد تشكيل دولة حديثة.
اتجهت كتلة من المثقفين السوريين نحو خصومةٍ متهافتةٍ وكاذبة، ولم تدخل في نقاشاتٍ عميقة بشأن مشكلات النظام وأشكال تطييفه المجتمع والصراع، وكذلك لم تناقش أشكال تطييف الثورة، وتشويه الصراع الشعبي المجتمعي. هنا، لا تفيد بشيءٍ التعميمات السطحية الفجّة، أن كل مثقفي الأقليات طائفيون، وكل مثقفي المعارضة ديموقراطيون وغير طائفيين! ومن هذه البضاعة الفاسدة. أيضاً التلطّي خلف العلمانية، ومن دون ربطها بالانتصار لحقوق السوريين، ورفض النظام وممارساته، وتحميله مسؤولية مآلات الوضع السوري يعدُّ تفكيراً فاسداً، وليس بالضرورة أن يكون طائفياً، وقد يكون طائفيا. الطائفية في الوعي تظهر من خلال أفكار وسياسات ومواقف تنصر طائفةً وتناهض أخرى، وعبر أفكارٍ اجتثاثية للآخر، وغير رحيمةٍ أبداً. ظهر في أتون الثورة من أيّدَ النظام بطرقٍ شتّى، وليس بالضرورة أن يكون انطلاقاً من الطائفية، وهناك من أيّدَ الثورة وكذلك ليس انطلاقاً من الطائفية، وهناك من أيّدَ النظام لاعتباراتٍ طائفيةٍ وكَفّرَ الثورة والسنّة. وبالعكس هناك من كَفّرَ العلويين وبقية الأقليات الدينية. هذا بدوره لا ينتج وعياً مناهضاً لكل رؤيةٍ طائفيةٍ أو أحاديةٍ أو إقصائية.
هناك أفكار تؤكّد أن العلمانية مسألة مجتمعية وصيرورة مفتوحة، تربط ترسّخها بالعلم والعمل والصناعة والطب والثقافة الحديثة والقوانين المنظّمة للعلاقات المجتمعية، وأن ذلك كله لا يمكن إيقافه، وهو من سمات العصر، وهذا يجري في سورية وفي كل مكان في العالم. القضية ليست هنا، ولا يمكن اعتبار ما ذُكِرَ هو الشكل الوحيد الممكن، أي التدريجي. وباكتماله، تنتقل العلمانية من المجتمع إلى الدولة، وتفرض سيطرتها. الدولة، أيّة دولة، هي تمثيلٌ للطبقات القوية، وتتمثل فيها مصالح الطبقات الأخرى، وبدرجةٍ أدنى، ووفقاً لقوة الطبقات النقيضة. دولتنا الحديثة رأسمالية مشوّهة، ومحكومةٌ بعائلة، ويخضع لها الجيش والأمن ومختلف أنظمة الدولة وسلطاتها. إذا، أنفي الصفة الطائفية عن السلطة، ولكنها تستخدمها كما تستخدم أدواتٍ أخرى من أجل تأبيد سيطرتها.
الآن، وبعد عشر سنوات من الحرب والأحقاد، وتطييف كبير، ماذا سيكون شكل الدولة االمقبلة. ستكون دولة رأسمالية، هذا أولاً، وستكون السلطة فيها خاضعةً للتسوية السياسية التي ستنتج عنها “هيئة انتقالية” أو مجلس عسكري أو سواه؛ الدستور أيضاً سيخضع لتلك التسوية. الدستور بالذات سيكون للروس دور كبير فيه. المسألة الطائفية التي حاولت تفكيك بعض أوجهها، نقول إنها مسألةٌ قابلة للصراع والنقاش والحوار المفتوح. ما يخفّف من غلواء حضورها إبعاد أي تدخلاتٍ سياسيةٍ على أساس الدين، أو تشكيل الجيش الجديد وفقاً للاعتبارات الطائفية. لقد أثبتت تجربة العراق أو لبنان، القديمة، بشكلٍ قاطع، فشل أيّة أسس طائفية لبناء الدولة أو الجيش أو السلطة أو أي تشكيل سياسي للدولة، وبغض النظر عن شكل النظام السوري ما قبل 2010.
سورية معنيةٌ بطرح مختلف الآليات التي استُخدِمت فيها الطائفية، من النظام والمعارضة والمثقفين، وهذه مهمة كبرى ليكون ممكناً الاستناد إلى المواطنة وشرعة حقوق الإنسان ومساواة المرأة في الحقوق، وهذا غير ممكن من دون فصل الدين عن الدولة، وتحديده عبر إجراءات علمانية، تمنع تسخير الدين أو الاعتماد عليه من أجل السيطرة على المجتمع والسلطة السياسية. سورية المتعدّدة طائفياً ودينياً وقومياً لا يمكنها النهوض دون إبعاد هذه الهويات الطائفية، وجعل الدين مسألةً شخصية، وبعيداً عن التسييس. ومن هنا تأتي العلمانية مدخلا لطيِّ المشكلات الطائفية، وأية التباسات ووجوه طائفية تحت مسمّيات علمانية أو ديموقراطية وسواه كثير.
المصدر: العربي الجديد