من لم يكن عربيًا حرًا ضد كل أشكال التبعية والظلم والفساد؛ من لم يكن عربيًا توحيديًا موحدًا مبرأ من كل أشكال الطائفية والمذهبية والشعوبية؛ من لم يكن مع الشعب العربي في كل مكان ضد كل أشكال الإضطهاد والترويع والتجويع والتهجير؛
من لم يكن أصيلًا حريصًا على ثوابت هويته الحضارية والأخلاقية والتاريخية؛
من لم يكن نهضويًا تحديثيًا تنمويًا؛
من لم يكن بناءّ إيجابيًا متفاعلاً مع تطلعات شعبه للحرية والكرامة والمشاركة؛
من لم يكن ديمقراطيًا متحررًا في ذاته وكينونته وكيانه؛
من لم يكن متسلحًا بعقل متفتح وتفكير موضوعي علمي نقدي؛
من لم يكن متجاوزًا لذاتيته مستمسكًا بعروة الجماعة والنظام والتنظيم؛
فليس لناصر حاجة في تدبيج المديح وإطلاق العواطف.
جمال عبدالناصر ليس زمنًا ماضيًا.
ما لم يكن جمال رؤية ونهجًا وقدوة للمستقبل الحر المتقدم؛ فلا قيمة كبرى لكل مشاعر الحب الوفاء.
ما لم تترجم كل مشاعر الحب إلى حركة إيجابية منظمة تهدف للتصدي للحرب على الوجود العربي المستهدف من كل جهات العالم النافذ السائد؛ فلن تنفع جمال عبد الناصر الغائب الحاضر دائمًا وأبدًا.
ما لم يترجم الوفاء والعهد بسعي يومي حر دؤوب منظم لتحرير الأرض العربية والإنسان العربي؛
فلن يصل منه شيئًا نافعًا يريح جمال عبدالناصر في مثواه حيث روحه الطاهرة النبيلة الأصيلة تحلق في سماوات المجد والعزة والكرامة.
ما لم تترجم سيرة جمال عبدالناصر إلى سلوك يومي للمؤمنين بفكره المؤيدين لرمزيته كزعيم وقدوة، فلن تنفعه في مثواه كل عبارات التبجيل والحنين إلى زمن كان فيه القائد وكانت أيامه سجلًا للعزة والكرامة والاستقامة.
ما لم يكن جمال عبدالناصر دعامة المستقبل العربي بما صنعته وحققته تجربته وبما تلهمه من دروس وعبر وثوابت؛ فلن تنفعه كل زياراتنا وصوره تملأ المنصات والشوارع.
ما لم تكن صورته كرمز وسلوك وقيم في القلب أولًا ثم على خطى المسير والعطاء والعمل، فلن تنفعنا ملايين الصور والهتافات والأشعار.
ما لم تكن كل قصائد الحب والمدح والتقدير سجلًا للإنجازات وتصورًا للمستقبل.
ما لم تكن بناء لأجيال لم تعايش جمال عبدالناصر وزمانه؛ تتحضر بها لبناء المستقبل؛ تتزود بها للدفاع عن هويتها الوطنية وشخصيتها المستقبلية ؛ فلن تكون أكثر من تراث معنوي.
ما لم يتم نقل تراث عبدالناصر وخلاصات تجربته وقيم سلوكياته كشخص وقائد ورمز ومسؤول؛ إلى وجدان ووعي شباب العرب المتمسك بأمته والحريص على وجودها وتحررها ودورها؛ فلن تنفعنا مئات الأسماء الرنانة وعشرات التشكيلات والتنظيمات التي تحمل اسمه وترفع صوره.
ما لم يتولى محبو جمال عبدالناصر تحصين الأجيال الشبابية التي لم تعاصره فيما تتعرض لأخطر وأخبث حملات التشويه وتزييف الوعي وتغيير الهوية مقدمة لسلخها عن الإنتماء للأمة والشعب والأوطان؛ فإن كل ما تسطره من كتابات لمديحه والدفاع عنه؛ لن تقوى على الصمود والإستمرار كحقيقة تاريخية موضوعية ذات فعالية في توجيه المستقبل وبنائه حرًا كريمًا.
ما لم يطهر ” ناصريون ” رؤاهم من زيف الخلط بين الكيان الوطني والسلطة السياسية؛ فإنهم يضيفون إلى حملات تشويه تراث عبد الناصر تشويهًا ذاتيًا يصادق على الربط بين الوحدة القومية والشوفينية.
ما لم يطهر بعض الناصريين تشويهًا أصاب وعيهم أدى بهم إلى تبرير العنف والإجرام بحق الشعب بلغ حد التدمير الممنهج والتهجير والقتل الجماعي بالتعذيب والقصف؛ فإنهم يعطون المبررات لأعداء الأمة لتسويغ إنكارهم لوجودها وهويتها ورفضهم للإنتماء إليها.
ما لم يتحرر بعض الناصريين من وهم الخلط بين القمع والعنف والإجرام كوسيلة للدفاع عن السلطة وحجة الرد على تهديد يطال السيادة الوطنية؛ فإنهم يصادقون على اتهامات أعداء تجربة عبدالناصر وربطها بالدكتاتورية.
ما لم يطهر الناصريون صفوفهم من أتباع هذا النظام أو ذاك؛ عربيًا أم إقليميًا شعوبيًا؛ الذين يلعبون دور حصان طروادة في صفوف الحركة الناصرية؛ فإنهم سوف ينتقلون من خيبة إلى خيبة ومن فشل في توحيد قواهم إلى فشل آخر.
ما لم يتحرر الناصريون من وهم الأسماء اللامعة التي تكلست وأصيبت بمرض التجذر في ذاتية مفرطة نرجسية؛ فإنهم يتركون أنفسهم لهؤلاء يقودونهم إلى مزيد من التشتت والشرذمة وضعف الفعالية الميدانية.
وبمقدار ما يتجاوز الناصريون كل شعور حزبي فئوي وكل إحساس بالتميز والتفرد بالخصائص القومية الشريفة المنزهة؛ بمقدار ما يستطيعون تشكيل حركة تغيير ومواجهة نضالية جامعة ينخرط فيها كل الوطنيين والمخلصين أيًا كانت خلفياتهم الحزبية أو العقائدية حتى أؤلئك الذين لا يملكون في قلوبهم مشاعر حب لجمال عبدالناصر. ممن ولاؤهم لأمتهم وشعبهم متحررين من التبعية مخلصين لقضايا الوطن.
الناصريون المتحررون المتجاوزون لذاتياتهم هم الأقدر والأجدر بجمع القوة الوطنية العامة في إطار جبهوي متكامل يذود عن الأمة ووجودها المهدد بالتبديد وعن مجتمعها المهدد بالتآكل.
ما لم يدرك الناصريون أن الأمة اليوم تواجه خطر الزوال وليس دورها أو صلاحيتها فقط، فإنهم لن يرتقوا إلى مستوى الوفاء والعهد الذي يقطعونه للرمز والقدوة كل يوم. فهذا يقتضي منهم التقدم لحمل المسؤوليات النضالية وخوض شرف مواجهة الأخطار بشجاعة وإقتدار، وتسمية مصادرها وكشفها وتعريتها وتجريدها من قواها وأسلحتها وأذرعها.
ما لم يتجدد الناصريون ويجددون أساليب عملهم ويطورونها بما يناسب الزمن الراهن وما فيه من متغيرات خطيرة على كل صعيد؛ فإنهم يحكمون على أنفسهم بالإنزواء والتحول التدريجي إلى حنين للماضي لا يغير في واقع الحال شيئًا.
تجربة جمال عبدالناصر دعامة المستقبل العربي المنشود.
أما جمال عبد الناصر الإنسان والمسؤول فذاك رجل من نوع آخر تفوق على كل رؤساء وزعماء ورموز جميع الأمم والشعوب منذ بدء نهضة أوروبا والغرب وحتى اليوم.