قبل أن تنطلق الحكومة اللبنانية في مناقشة الملفات الضاغطة على اللبنانيين، اختار رئيسها نجيب ميقاتي أن يسلك طريق فرنسا أولاً بهدف نيل دعم دولي وللقول إن حكومته غير متروكة وتحظى بالتغطية السياسية وفي مقدمها باريس بالدرجة الأولى. ويظهر أن الرئيس ميقاتي يريد أن يكون في موقع قوي بطرحه برنامج عمل حكومته مع الرئيس إيمانويل ماكرون قبل بدء جلسات حكومته التي يترأسها عادة رئيس الجمهورية ميشال عون عند حضوره، خصوصاً أن الجلسة الأولى يُفترض أن تناقش ملف الطاقة أولاً وهي قضية بحثها ميقاتي في باريس إضافة إلى المفاوضات مع صندوق النقد وخطة الدعم الدولي الإنساني للبنان والذي كانت باريس استضافت مؤتمراً دولياً افتراضياً بشأنه ونجم عنه دعماً للبنان بقيمة 350 مليون دولار شرط البدء بالإصلاحات.
لكن حكومة ميقاتي التي يقول إنه يسعى إلى تطبيق المبادرة الفرنسية ويستند إلى دعم باريس “عرّابة” التشكيل الحكومي بالاتفاق مع طهران، تحمل في طياتها الكثير من التناقضات، لكن الأقوى فيها هو من يملك القوة والثلث المعطل والقدرة على التعطيل وأخذ الأمور إلى سياقات مختلفة، لذا الاختبار الأول أو امتحان الحكومة الأول سيكون في كيفية إقرار مشاريع تشكل بالنسبة الى اللبنانيين أولوية مطلقة إلى جانب تحسين وضعهم المعيشي. فالكهرباء والمحروقات يشكلان ملفاً أساسياً وينعكسان على كل القطاعات، فيما الملفات الأخرى كالتدقيق الجنائي والتفاوض مع صندوق النقد ملفان مكملان. ولأن تشكيل الحكومة قام على المحاصصة بين القوى السياسية والطائفية وإن حصل ذلك بضغط إيراني وفرنسي، فإن الهيمنة السياسية لتحالف ميشال عون و”حزب الله” تطغى على عمل الحكومة.
في الاختبار الأول لحكومة ميقاتي سيتبيّن حجم الهيمنة السياسية وقدرة الثلث المعطل على فرض خياراته ومشاريعه. ففي الكهرباء لا يزال رئيس “التيار الوطني الحر”، صهر عون، يتمسك بخطته السابقة ومن بينها إنشاء معمل سلعاتا، علماً أن لا جدوى لهذا المعمل وفق الخبراء وأيضاً في البرامج الدولية، فإذا قرر عون وتياره السياسي الذي يتزعمه باسيل بالتحالف مع “حزب الله” إسقاط خطة ميقاتي، سيظهر مدى قدرة هذه الهيمنة والثلث المعطل على التحكم بقرارات الحكومة، أو في قدرة المكونات المختلفة في الحكومة ضمن المحاصصة على التأثير في خياراتها.
إقلاع الحكومة لا يقتصر على هذه الملفات، فهناك قضايا ضاغطة لا بد من قول كلمة الفصل فيها. التحقيقات في انفجار مرفأ بيروت المروّع سيكون أحد الملفات المتفجرة على ما يشهده من تجاذبات وتهديدات بحق المحقق العدلي القاضي طارق البيطار، حيث وُجهت أصابع الاتهام إلى “حزب الله”، فيما المعطيات تؤشر إلى أن هذا الملف آيل إلى التصعيد في شكل خطير خصوصاً بعد الهجوم على البيطار والدعوات القضائية للإطاحة به ومن أجل اغلاقه كي لا يفتح ملفات متصلة به وهي غاية في الخطورة ومرتبطة بما كان يحدث في المرفأ في وقت سابق.
ملف ترسيم الحدود البحرية أيضاً هو مسألة خلافية، وللمفارقة أنه يرتبط بالطاقة التي تشكل أولوية بالنسبة إلى اللبنانيين، وهي أزمة لا يمكن للبنان أن ينهض من دون إيجاد حل لها. وبينما تتفاقم أزمة الوقود في لبنان، وتتداخل فيها عوامل إقليمية من بينها استيراد النفط الإيراني الذي أعطى قوة إضافية لـ”حزب الله”، إلى اتفاق الغاز المصري واستجرار الكهرباء الأردنية عبر سوريا والتي تحتاج إلى وقت طويل، فضلاً عن النفط العراقي لتغذية معامل الكهرباء اللبنانية، جاء القرار الإسرائيلي بتكليف شركة هاليبرتون الأميركية لحفر 5 آبار في منطقة متنازع عليها، ليضغط على لبنان وليعيد إحياء الحديث عن الترسيم نفسه ويظهر الخلافات اللبنانية حوله بعدما توقفت المفاوضات بشأنه وخسر لبنان الكثير من عناصر قوته التي كانت قائمة عند طرح خط الترسيم بـ860 كلم مربعاً.
سيكون ملف الترسيم ضاغطاً على الحكومة اللبنانية، فإذا كان ميقاتي أعلن أنه يستعجل ترسيم الحدود للإفادة من ثروات لبنان، فإن عليه العمل على حسم الوجهة في هذا الشأن ومن بينها إما تعديل المرسوم وتوسيع الحدود إلى 2290 كلم مربعاً، وهو ما سيفتح الباب على ضغط أميركي جديد أو أن يحيله إلى لجان متخصصة لإعادة درسه. وفي الحالتين لن يتمكن لبنان من وقف التنقيب الإسرائيلي بعدما تأخر كثيراً في الاعتراض، ولذا سيبقى رهينة قوى إقليمية ودولية ولا يستطيع حتى تأمين حاجاته الأساسية.
الوقائع كلها تشير إلى أنه لن يمضي وقت طويل كي تظهر المنازعات بين القوى السياسية والطائفية التي رعت تشكيل الحكومة في تسوية ملتبسة لن تعمر طويلاً بسبب قصر مدة الحكومة أولاً والخلافات العميقة بين قواها حول التوجهات السياسية والاقتصادية وبفعل موازين القوى المختلة لمصلحة التحالف الأقوى الممانع بين رئيس الجمهورية ميشال عون و”حزب الله”. تركيب الحكومة نفسه قد يشهد معارك بين مكوناته حول الملفات التي لها أولوية باعتبار أن لكل طرف مصالح وحسابات يريد أن يكرّسها. هذا يعني أن التسوية التي شكلت الحكومة والتي جاءت بعد ضغوط فرنسية – إيرانية وغض طرف أميركي أو بموافقة غير معلنة، وأيضاً بموافقة داخلية أجبرت القوى السياسية والطائفية المتنازعة على السير بها، لن تعمر طويلاً، إذ إن القوى ستسعى إلى إعادة تعويم دورها، باستمرار التركيبة ذاتها وإدارة البلد بالطريقة نفسها، بينما يحاول ميقاتي الموازنة في مواقفه كرئيس للحكومة من ملفات خلافية قد تظهر في مرحلة لاحقة وتفجر الحكومة.
المصدر: النهار العربي