أسماء الزرعوني، روائية إماراتية، لها العديد من الروايات، وهذا أول عمل أقرأه لها. (شارع المحاكم) هي رواية مكتوبة بلغة المتكلم، على لسان شخصيتها المحورية سلوى، تبدأ أحداثها من إمارة الشارقة في ستينات وسبعينات القرن الماضي، وتصل مآلات بعض الشخصيات الى الفترة الحالية. تعتمد الرواية على تتبع واقع شخصيات الرواية وتطور واقعهم المجتمعي، مركزة على شخصياتها النسوية وامتدادهم العائلي والاجتماعي.
تبدأ الرواية من سلوى الشخصية المحورية في الرواية وهي تسترجع ايام بداية نضجها، ومراهقتها، وتبلور عواطفها مع صديقاتها في المدرسة، أو الحي الذي تسكنه في امارة الشارقة، وذلك في اواخر ستينات القرن الماضي وما بعده. مجموعة من الصديقات لكل منهنّ حكايتها وحبها ومسارها الخاص. سلوى وموزة وشيخة وزهرة المختلفة بالمذهب الديني عنهم، انها شيعية، وهذا يعني ضمنا انهم سنّة. كان السائد في ذلك الوقت أن الفتاة عندما تدخل في سن المراهقة وتنضج تكون جاهزة للزواج، الزواج هو اول اولوية اجتماعية تنتظر كل فتاة لتعيشه بأسرع وقت، والسائد ايضا ان كل فتاة تكون منذورة لابن عم أو ابن خال، وأن الزواجات يجب أن تكون متناسبة بالحسب والنسب والامكانيات بين المتزوجين جميعا. لا أحد يخرج عن القاعدة، الأمهات والآباء والأخوة الذكور يحمون هذه المعايير والضوابط في تزويج الفتيات، واللواتي يكن ملزمات بقرارات العائلة، وغالبا لا يستشرنّ في مصير حياتهم الزوجية القادمة. هذا واقع الاهل والمجتمع، لكن الفتيات اللواتي تتفتح داخلهن العواطف لم يكنّ ينضبطن بهذه القواعد، خاصة أن أجواء الإمارات وقتها قد توسعت بوجود الكثير من العرب القادمين للعمل أو التعليم، والذين كانوا مهوى افئدة الصبايا في روايتنا هذه.
سلوى ابنة عائلة ثرية، الاب يعتبر عينا من الأعيان المهمين في حيّه، تعيش مع امها وابيها وأخيها سلطان، عندهم الكثير من الخدم من جنسيات مختلفة. سعد العماني سائقهم الذي يعمل عندهم لخدمتهم في شؤون المنزل وتوصيل سلوى الى المدرسة او قضاء اي حاجة لها أو للعائلة. أحبت سلوى سعد وهو بادلها هذا الحب، واعترفا لبعضهما بذلك، اتفقا ان يعدل سعد من وضعه ويسارع ليتقدم لخطبتها، فقد اصبحت جاهزة قد يخطبها أحد اولاد عمومتها أو أخوالها في أي وقت. اتفقت مع سعد أن يترك العمل عندهم ويذهب متطوعا في الشرطة الإماراتية ويعود ضابطا محترما يطلبها من أهلها. عانت سلوى الكثير بغياب سعد، كانت تتواصل معه عبر الهاتف وخفية عن اهلها. تتبادل المعلومات والأسرار مع صديقاتها، كنّ يتشاورنّ في كل شيء، ويتبادلنّ الرأي والمواقف حول كل مستجد بحياتهم، فلكل واحدة منهنّ حكاية حب متعثر أو يبحث عن مخرج له، لعله ينجح. سلوى تتواصل مع سعد بشكل دائم، تستعجله أن يأتي لخطبتها قبل ان يتقدم أحد من اقربائها، هناك أحاديث حول ذلك. وعندما أصبح جاهزا ليأتي لخطبتها، قررت ان تفاتح أمها بالأمر، حدثت امها وكانت استجابتها قاسية جدا، لقد رفضت بالمطلق، كيف تتزوج خادمها؟ وهي ابنة ابوها وهو أحد أعيان المدينة، وسعد غريب، طلبت أمها منها ان تمنعه من المجيء، وإلا تخبر اخاها فيعاقبها وإياه. فُجعت سلوى بموقف امها وأخبرت سعد بذلك، واتفقا على ان تهرب معه الى بلده عُمان ويتزوجا هناك وبعد ذلك سيرضخ أهلها للأمر الواقع. هربت سلوى مع سعد، وصل الى بلده، تزوجا زواجا شرعيا وعاشا ثلاثة ايام سوية. علمت الام بهرب ابنتها أخبرت اخاها سلطان، ذهب سلطان بصحبة أمه وراء سلوى الى عمان، حصل ذلك بسرية كاملة، دون علم الأب، وخوفا من الفضيحة في الحي وبين الناس. وصلوا الى بلدة سعد بعد ثلاثة أيام، اجبروا سعد على تطليق سلوى؟ واعادوها معهم تحت الضرب والتهديد، وبعد أشهر ظهر الحمل عليها، اعتمدت امها على اجهادها حتى أجهضت وأسقطت جنينها. ثم زوجوها من أحد اقربائها، عاشت في بيت الزوجية عشرين عاما انجبت الاطفال وكبروا، وبقيت قصتها مع سعد غصة في حياتها لم تستطع نسيانها. كما جاء من ذكّرها بنفسه، انه عزوز ابن الحارة الشقي الذي كان يملأ حيطان الحي بعبارات الغزل، وصارحها قبل مغادرته الحارة بانه أحبها وان كل ما كتبه كان عنها. غادر ونسيته، ولكن دعيت للشرطة لتراجع أمر سيارتها المحجوزة، وتكتشف عزوز وقد أصبح ضابطا ذكرها بنفسه. هي صارت جدة وهو تزوج وأصبح عنده اولاد، لكنه لم ينسى سلوى حبه الأول، لذلك عندما عرف أنها مالكة السيارة احضرها ليسامرها عن أيام زمان، حيث كان يهيم في حبها.
لا تتحدث الرواية هكذا بشكل خطي كمسار واحد عن سلوى والصبايا، بل بشكل شبكي عنهنّ جميعا. ونحن هنا نعتمد تتبع كل فتاة على حدى لتركيز القراءة وسهولتها.
كان لسلوى ثلاث صديقات أساسيات في حياتها لكل منهن قصة حب، ومسار لهذا الحب.
صديقتها شيخة احبت صلاح المصري، واصرت عليه، فرضت على أهلها قبوله، وهددتهم بأن تهرب معه، ان لم يستجيبوا. خاف الاهل من الفضيحة، قبلوا على مضض، واشترطوا أن يتزوجا ويغادرا إلى مصر دون رجعه. وأخبروا ابنتهم انها من لحظة زواجها يعتبرونها ميتة ولن يتواصلوا معها. ولن يورثوها اي شيء في مستقبل الأيام. تزوجت شيخة، خرجت من بيت أبيها كأنها خارجة في جنازة، غادرت وعاشت مع زوجها وانقطعت عن أهلها والحارة.
زهرة الشيعية أحبت عبد الرحمن، هو مختلف المذهب، يعني سني، اشترطت عليه تغيير مذهبه لكي ترضى به زوجا. بقي هذا الموضوع عقبة أمام زواجهما معا. تركها وغادر وقتا طويلا. عاد الى الشارقة وفتح دكانا للأشرطة الموسيقية والغنائية، علمت زهرة أنه تزوج، حزنت لخسارته….
أما موزة التي أحبت وليد العراقي، ذلك الشاب الذي جاء الى الحي وسكن به، كان يتجول على دراجة آلية، ويصدح بيته بأغاني عبد الحليم حافظ وناظم الغزالي، لكن وليد مات فجأة؛ قيل إنه من ماس كهربائي، وجد مرميا في البحر. البعض قال انه قُتل، لم يحتمل رجال الحي هذا الشاب الأعزب، يغارون منه على نسائهم وبناتهم. مات وترك عوشة الفتاة الوحيدة في الحي التي اعترف لها وليد بحبه، لذلك حزنت كثيرا.
استسلمت موزة لقرار العائلة تزويجها من ابن عمها سعود الذي يدرس في مصر، جاء وتزوجها، غادر بسرعة الى مصر، لم يكمل شهر العسل معها. علمت بعد وقت انه متزوج من امرأة مصرية، وأنها حامل وانجبت له إبنا، وهي حامل أيضا. لقد وطّدت حياتها على العيش بوجود زوجة اخرى لزوجها، مع ما عنى ذلك من معاناة وألم وحرمان وغيره.
كما يظهر في الحي متغير جديد، لقد وُجِد امام أحد ابواب الحي صباحا طفلة لقيطة، استغرب أهل الحي ذلك. والحقيقة أن الطفلة هي ابنة فهدة، التي سكنت وأهلها في الحي حديثا، فهدة التي كان عقد قرانها على زوجها، وكانت قد حصلت بينهم عشرة جنسية، أدت لحملها، ولأنه توفي قبل حفل الزواج الرسمي بأسبوع، اعتبرت غير متزوجة، لذلك اخفت حملها بمعرفة والدها ووالدتها، الذين انتقلوا للعيش في الشارقة وفي هذا الحي، مداراة للفضيحة، وعندما ولدت فهدة طفلتها، وضعت الطفلة عند امام بيت جيران لهم ليس لديهم اولاد. كانت فهدة تعني بابنتها في كثير من الأوقات، مما خفف من معاناتها ومشكلتها.
لا يغيب عن الرواية الاهتمام بالشأن العام العربي، لقد المحت الرواية إلى احتلال إيران لجزر طنب الكبرى والصغرى وأبي موسى الاماراتية، كما المحت للاحتلال الصهيوني لفلسطين، كما اشارت الى فرحة الاماراتيين بنصر العرب في تشرين اكتوبر ١٩٧٣م على الصهاينة، وذلك عندما تابعوا وضع سعود المتواجد في مصر.
تنتهي الرواية عندما يلتقي الضابط عزوز بسلوى ويتحدثان عن ايام زمان، وسلوى تعيش مع اولادها واحفادها.
في تحليل الرواية نقول:
٠ نحن أمام رواية استطاعت ان تجعلنا نعيش أجواء كانت سائدة منذ عقود سابقة، سواء ما يتعلق بطور المراهقة وتوهج العواطف واندفاعها لمجموعة من الفتيات، في الشارقة، متجاوزات العرف والضوابط الاجتماعية الصارمة، البعض نجح والاغلب فشل، وعدنّ الى واقعهنّ بكل تفاصيله وسلبياته.
٠ تكشف الرواية الهيمنة الذكورية المطلقة في مجتمع الإمارات ذلك الوقت، وهيمنة العرف الاجتماعي والتمايز حسب الامكانيات والحسب والنسب، كل ذلك جعل هناك حواجز تمنع من التداخل الاجتماعي، ويعيش كل في ما وجد عليه من دونية ومهانة، أو امتيازات ومهابة وسطوة. وهذا خطأ بحق إنسانية الإنسان بغض النظر عن أي تبعات أخرى في حياته.
٠ في الرواية نقطة ضعف غير منطقية، وهي رضوخ سعد وتطليقه لسلوى، رغم انه رجل ويحميه القانون وهو في بلده، ويحبها وغامر بتهريبها من بيت اهلها وبعد ذلك الزواج به، يعني يجب ان يحميها، وليس يعيدها لهم لينتقموا منها. لكن اعتقد ان قبوله لتطليق سلوى، كان لضرورات ادبية لنتابع مسار القعر النسوي التي تعيشه المرأة في ظل العائلة بعقليتها هذه في ذلك الوقت.
٠ الرواية نسوية بامتياز رواية المرأة المراهقة والام المهيمنة، والتابعة لمنظومة المجتمع، التي تجعل الذكور آلهة صغار يتحكمون بحياتهم. المحزن ان كل النساء يحسّنّ بالظلم في اول حياتهم، ولكنهم عندما يتزوجن وينجبن ويصبحن أمهات وجدات، يُعدّن سيرة القمع الاجتماعي للمرأة ويكنّ هنّ في اغلب الاحيان ادوات هذا القهر، ومحققين حضوره على بناتهم.
لقد تم تجاوز الثنائية القائمة على دونية المرأة قياسا بالرجل وتبعيتها بالمطلق له دون اي حقوق. لقد جاء عصر التساوي والتكامل والتفاهم، لقد تعلمت المرأة وعملت، واصبحت قادرة ان تستقل وتعيش انسانيتها دون تبعية او اذلال. لقد استخدم الدين دون وجه حق، والعرف والعادات والتقاليد لجعل المرأة ضحية ومستلبة الوعي والحقوق. نحن نغادر ذلك العصر وان كان مازال هناك بقايا له، خاصة في مجتمع الخليج العربي.
٠ مهم ان نوضح ان نضوج المرأة واستردادها حقوقها، ليس انقلابا على الاسرة او الدين، بل تعديل بالعلاقة، بحيث يحقق جوهر الدين بالتساوي والتكامل واحترام الحقوق، وأن تقوم العائلة على التوادد والتراحم والتكافؤ والتكافل، وليس على الاجبار والقهر والتبعية…
٠ اخيرا كنت اود ان ارى اشارة عن المتغيرات المعاصرة في الإمارات وفي بلاد العرب التي اجتاح بعضها الربيع، وكيف أجهض قبل أن يعطي ثماره.