لا أعلم على وجه الدقة واليقين إن كان هذا اليوم من هذا الشهر (15_09) هو عيد ميلادك، لأنك أنت لم تكن متأكداً أن هذا اليوم هو الذي أبصرت فيه عيناك نور الحياة، وابتدأ معه مشوار عمرك الحافل والغني، كذلك هو الأمر مع سنة ميلادك التي تباينت التقديرات حولها وبقيت موضع خلاف في ماسمعت، وسمعنا، من روايات (1951 أو 1952)، كل ذلك لأنه في ذلك الزمان، في ريفنا الحلبي، وفي عموم ريفنا، وحتى بلداتنا ومدننا السورية، لم يكن يكترث الأهل أو الأبوين، بتسجيل أولادهم في دوائر الأحوال الشخصية بالدقة المطلوبة، وعادة ما يتذكرون السنة والشهر واليوم مقرونًا بحوادث عامة، أو جرت معهم، أو في حياتهم، فيقربون هذا اليوم أو يبعدونه، ويربطونه بما سبق أو لحق، بشكل تقريبي، إن لم تسعفهم ذاكرتهم، وهو ماكان يحصل في الغالب.!!
معك أنت، عند كل حديث بيننا عن عيد ميلادك، وما شابه ذلك من أحاديث، كنت تقول لي ضاحكًا: “ومن أين لي أن أعرف…اسأل أمك” (رحمها الله)…؟؟!!
لعل حرمانك من معرفة تاريخ ميلادك، كما قلت لي أكثر من مرة وفي أكثر من مناسبة، هو مادفعك لتسجيل يوم ميلادي في دائرة الأحوال المدنية بشكل دقيق، وبسرعة، بعد أن سافر والدنا (رحمه الله) لأداء فريضة الحج، بعد مجيئي لهذه الدنيا بأيام قليلة (شباط/ فبراير 1966) باعتبارك الأكبر بيننا والمسؤول عن شؤون الأسرة، بعد رحيل شقيقنا الذي يكبرك بثلاث سنوات، وقبل مجيئي لهذه الدنيا بعدة أشهر!!.
هكذا بقي ميلادك افتراضيًا (15_ 9) وتم اعتماده وفق ماهو مدون في السجلات الرسمية، وهو في الحقيقة مع نهايات مواسم الصيف والحصاد، وقطاف العنب والتين، والإستعداد لفصل الخريف، وفي سنة مظلمة لاتنسى من تاريخ القرية، التي انحدرت منها عائلتنا وكانت مسقط رأسك، كونها شهدت صراعًا أسريًا عنيفًا، على ماعرف به ريفنا من قصص الثأر والانتقام لأسباب تافهة ومخجلة.
ضاع منك، ومنا، معرفة يوم ميلادك بشكل دقيق، كما ضاعت أشياء كثيرة حميمة في حياتنا، أو تعز علينا ونفتقدها، نَحِن إليها، ونتمناها، لكن تتوه منا أو تتسرب من أيادينا كما يتسرب الماء من بين أصابع الكف.!!!
قبل هذه السنوات، ربما، كان معظمنا لايعرفون أعياد ميلاد أصدقائهم، ولا يبادلونهم التهاني في هذا اليوم، الذي أصبح مع ثورة الإتصالات، وتعددها، مناسبة لتبادل الأمنيات الطيبة والأماني السعيدة، إضافة لذلك، لم يكن أغلبنا، سابقًا، يكترث بهذا اليوم، ولم يكن يعني لنا الكثير، سوى بمعناه السلبي، انقضاء سنة من أعمارنا وحياتنا القصيرة والعابرة، ويقال أن أسلافنا وأجدادنا كانوا يبكون في هذا اليوم، بدل أن تغمرهم الفرحة والسعادة، لأنه نقص من عمرهم وأجلهم سنة، لا يستقدمون معها ساعة أو يستأخرون.
زيادة على كل ذلك كان الإحتفاء بهذا اليوم مرفوضًا بالنسبة لقطاعات واسعة منا، لأنه خارج عن ثقافتنا وعقائدنا، وهو مرتبط بالثقافة الغربية، وفي مجتمعنا، عمومًا، كان مقصورًا على الطبقات “البرجوازية”، التي بتنظيراتنا وأفكارنا تعادي تطلعاتنا وأحلامنا بالفطرة والبداهة.!!!
أما عن عيد ميلادك وكما قلت أنت وكتبت، على صفحتك على الفيسبوك، في 15_ 09_ 2014 عن هذا اليوم في حياتك(فهي مناسبة غالبًا لا أتذكرها إلا بعد أن تمر بضعة أيام).!!
بالنسبة لي، وتلك مشيئة الأقدار ومعانيها الكبرى التي لا يدركها المرء في لحظتها، فمرة واحدة احتفلت معك بعيد ميلادك، وبشكل متواضع جداً، في آخر لقاء بيننا، قبل مرضك ورحيلك، في باريس منتصف آيلول/ سبتمبر 2019، بصحبة عدد من الأخوة والأصدقاء الذين أرادوا أن يحتفلوا لك ومعك بعيد ميلادك، ونحن في اللقاء السنوي الثالث لملتقى العروبيبن السوريين، وكان ذلك مفاجأة سارة لك، ولي، دبرها الأخوة الأعزاء الدكتور نوار عطفة وجمال ماردلي وعلي الحسيني، مع الآخرين من رفاق الطريق والأحلام الكبرى.
اليوم.. وقد رحلت ماذا عساني أقول لك والأقدار تمنعني أن أرسل لك تهنئة بسيطة تتلقاها بابتسامة أو ضحكة، أو حسرة وعبرة وأنت تقول لي: “لقد ذهب العمر خلسة”، حقًا لقد انقضى عمرك في غفلة، لم يسعفنا فيها القدر لأن نعيش الحياة معك بما تستحق منا، بسبب الغربة والترحال وبعد المسافات، ولم نغتنم من أيامنا ما يليق بها، وبقي العام مقدمًا على الخاص، وبقي كل شيء في تفاصيل حياتنا مقرونًا بهموم الوطن وقضاياه، تسيرنا وتتحكم بنا إلى مصائرنا المحتومة.
في ذلك قلت أنت وكتبت: (بين عشرات المرات التي تكررت فيها هذه المناسبة ثمة مرة مميزة ووحيدة لا أنساها أبداً هي 15 أيلول/سبتمبر 1982). (انحفرت صورة ذلك اليوم الدامي في ذاكرتي بعمق كالوشم) …
(مرت ساعاته البطيئة مثقلة بالألم والهوان لتدنيس دبابات العدو الصهيوني عروس العواصم العربية بعد صمود ومقاومة اسطوريين استمرا ثلاثة شهور). [شهدت ليلة 14_ 15 أيلول / سبتمبر 1982 ارتكاب مجزرة صبرا وشاتيلا المروعة التي عاش الراحل تفاصيلها ورواها].
وفي مرة آخرى وبذات المناسبة والمعنى كتبت شاكرًا من اتصل أو كتب لك مهنئًا بعيد ميلادك: (في العادة لا أهتم بعيد ميلادي ولا تعنيني المناسبة، ونادرًا ما أتذكرها)، فاستبدلت الحديث عن ميلادك بالحديث عن صديقك الرمز خالد جمال عبدالناصر الذي صادف رحيله في هذا اليوم 15_ 09 .!! وكان تعليقي الذي سيضحك البعض منه تأكيدًا على ماسبق وقلته:《أجدني محرجًا أن أقول لك كل عام وأنت بخير، لم نعتد أن نتبادل التهاني إلا في مناسبات أهم وأسمى ذات صلة، بما تعلمت منك، من يوميات نضال هذه الأمة وصفحات تاريخها المجيد》!!!.
أخي وصديقي وأستاذي محمد خليفة:
اليوم هو عيد ميلادك الأول بعد رحيلك، عيد ميلادك التاسع والستون الذي أحتفل به، دونك، على طريقتي الخاصة، بكتابة هذه الكلمات الى روحك الطاهرة، وقد انقضى على رحيلك 147 يومًا، دون قدرة لي على أن أضع باقة ورد على ضريحك تليق بك، أو إمكانية زيارتك وقراءة الفاتحة على روحك الطيبة النقية، والقول لك ببساطة التعبير، وعمق المعنى والدلالة، كل عام وأنت حي باق بيننا، مابقينا على هذه الأرض حتى نلحق بك مطمئنين، كما كانت سريرتك دائمًا مفعمة بالإيمان واليقين.
كم كنت أود لو أنك بيننا، وقد اكتشفت معنى الغياب والفقد برحيلك، وكأني أحسه للمرة الأولى، لأحتفل معك بهذا اليوم، بطريقة ما، تدخل البهجة لنفسك الحزينة، وروحك التي أتعبها الزمن ومكائد الدهر، كما أتعبت جسدك في مرادك وأحلامك.!!
ماذا أقول وقد خطفك القدر من بين يدي، وأيادي أولادك، في لحظة عجز أمام إرادة الله وعجز الأطباء، ولم يكن لنا من حيلة لتدبر الأمر، أو تأجيله، ولو قليلًا، لنعش معا أيامًا أو ساعات، نعوض مافاتنا من مناسبات جميلة، كهذا اليوم، والإحتفال معك بعيد ميلادك، ولتبقى لنا بعض الذكريات خزينًا نقتات عليها أبد العمر، ولكنك اخترت الرحيل باكرًا ومسرعًا، دون وداع، ودون استئذان..؟!
أسئلة كثيرة تتوارد إلى خاطري بلا توقف لا أجد لها إجابات مقنعة، ولا أملك معها إلا الصبر وطلب الرحمة لك.!!
سلامًا إلى روحك يوم ولدت ويوم مت ويوم تبعث حيًا.
آخر الأمنيات أن يجمعنا الله معاً في فردوسه الأعلى لتتوقف الأسئلة المرهقة بلا طائل، وقد أضنتني وأتعبتني جسداً وروحاً..!!
وأنت في عالمك الآخر لك باقة ورد..ودموعي الحزينة التي لم تتوقف منذ غيابك ورحيلك.!!
رحم الله تعالى أخينا العزيز الغالي الكاتب والشاعر والصحافي والمتاضل العربي أبا خالد.
أمر محزن ومؤسف الّا نحتفل بذكرى مولده، ولكن لا بأس مع القليل او بعض الوفاء له، ولا ضير من التكلم عنه وله في هذه الذكرى،
إن حضوره دائم في وجداننا وفي قلوبنا وقلوب محبيه، ولا انسى إسهاماته معنا في موقع “المدارنت”، منذ انطلاقته في 18 نيسان 2019، لغاية اليوم، المتواصلة على الرغم من رحيله المبكر والمفاجىء. من خلال نشر فصول من كتابه “الاحتلال الروسي لسوريا”، (حاليًا)، ونشر بعض مقالاته المنشورة سابقا، نظرًا لأهميتها وتقديرًا لكاتبها.
الأخ العزيز محمد خليفة، رحمك الله.