المتابع لما تنشره عن لبنان مواقع الإعلام الروسي أو الناطقة بالروسية بعد إنتفاضة العام 2019، يتولد لديه إنطباع بأنها تجهد في البحث عن الألوان الأشد قتامة للتعبير عن الصورة الحقيقية للمأساة اللبنانية. لكن مهما كانت قاتمة الصورة التي ترسمها هذه المواقع وسواها، بما فيها اللبنانية، أصبحت أقل سوادا من عتمة مدن اللبنانيين وذلّ طوابيرهم، وقاصرة عن وصف إنحطاط الساسة اللبنانيين الذين لا تهزهم طوابير ذلّ اللبنانيين، ولم يهزهم وصف الأزمة اللبنانية بأنها الأسوأ منذ منتصف القرن التاسع عشر.
الإعلام الروسي ليس واحداً في مقاربة الوضع اللبناني. فالموالي للكرملين منه، وانسجاماً مع العداء الشديد لكل ما يسميه “الثورات الملونة” والربيع العربي منذ إنطلاقته، وقف موقفاً معادياً لإنتفاضة اللبنانيين واعتبرها مضرة بالمصالح الروسية في الشرق الأوسوط. ولم ير حتى في الإحتجاجات التي اندلعت إستنكاراً لجريمة مرفأ بيروت سوى أعمال شغب تقف وراءها أيد غربية. أما الإعلام المعارض، وقد أصبح قليلاً للغاية ويتعرض للمضايقات المتواصلة، فقد اتخذ موقفاً داعماً للإنتفاضة والإحتجاجات المتواصلة، خاصة بعد جريمة المرفأ، ومستنكراً لفساد الساسة اللبنانيين وعجزهم.
ولعل أكثر الصور قتامة عن المأساة اللبنانية جاءت على موقع “Meduza” المعارض المدرج على قائمة “عميل أجنبي”، والملزم بالتقديم لأي نبأ أو نص ينشره بالقول”هذه المادة وضعها ونشرها موقع إعلامي يقوم بمهمة عميل أجنبي” . فقد نشر الموقع في الذكرى السنوية الأولى لجريمة مرفأ بيروت تحقيقاً مصوراً وضع عنواناً له “هنا كان لبنان: كيف يبدو البلد بعد سنة على الإنفجار في مرفأ بيروت”. قدم الموقع للتحقيق بالقول أنه منذ عام بالضبط دوى إنفجار هائل كان من بين الكوارث الصناعية الأشد تدميراً في تاريخ البشرية. ونشر عددا كبيراً من صور الدمار في المرفأ والمنطقة المحيطة به، وكتب تحت صورة الإهراءات “رفاة الإهراءات”.
تجدر الإشارة إلى أن الإعلام الروسي المعارض قليل المقالات التحليلية عن لبنان، وقد يكون ذلك لانشغال الليبرالي منه في قضية الحريات العامة وحرية الصحافة في روسيا والعالم، وانشغال إعلام القوميين والمتشددين الروس بالمواجهة الروسية الغربية، وبإنتقاد سياسة الكرملين الداخلية الإقتصادية والإجتماعية. وبديهي القول بأن هذا التقسيم للإعلام الروسي ليس تعسفياً، أي أنه لا يعني إطلاقاً أن الإعلام الليبرالي لا يتطرق في أخباره ونصوصه التحليلية إلى القضايا الإقتصادية والإجتماعية الداخلية، وأن إعلام القوميين والمتشددين الروس لا يتطرق سوى إلى قضايا المواجهة مع الغرب، بل هو يقارب جميع القضايا الخارجية من وجهة نظر الكرملين ويزايد عليه فيها، كما في سوريا والصراع العربي الإسرائيلي.
حين تم تكليف نجيب ميقاتي تشكيل الحكومة اللبنانية أواخر الشهر المنصرم، تناولت هذا التكليف صحيفة “NG” التي تسمي نفسها مستقلة، وكتبت نصاً بعنوان “لبنان يعقد آماله على ملياردير”. قالت الصحيفة بأن نجيب ميقاتي الذي يحتل المرتبة 446 بين أثرياء العالم ينوي إنقاذ لبنان من إنهياره الإقتصادي. واشارت إلى أنه عندما طرحت منذ عشر سنوات مسألة من يشكل الحكومة اللبنانية، سعد الجريري أم نجيب ميقاتي، تكرر وقوع الإشكالات بين أنصار الرجلين. أما الآن فيعمل هذان السياسيان سوية، وتتمثل مهمتهما الرئيسية في تذليل مقاومة ميشال عون وحلفائه.
وترى الصحيفة أن السؤال الأشد أهمية بالنسبة للبنانيين اليوم هو ما إذا كان سيتمكن من تذليل مقاومة ميشال عون وحزبه ويشكل حكومة، بدونها لن يقدم أحد سنتاً واحداً للبنان. وتنقل الصحيفة عن العضو السابق في اللجنة الإفتصادية والإجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا) أديب نعمة قوله بأن الأزمة اللبنانية لم تظهر فجأة، بل هي متعمدة. ولإثبات ذلك يورد نعمة معطيات البنك الدولي عن حجم تدهور قيمة الليرة خلال عامين وتفاقم أزمة المحروقات والكهرباء وكل ما يعاني منه اللبنانيون في يومياتهم.
موقع وكالة الأنباء الإتحادية “FAN” التي يملكها “طباخ بوتين” يفغيني بريغوجين تناول أيضاً آخر الشهر المنصرم تكليف ميقاتي، وذلك في نص بعنوان “أشخاص قدماء، مشاكل قديمة: إلى أين سيقود لبنان رئيس الوزراء المكلف”. يصف الموقع ميقاتي بأنه “ملياردير دولار”، ويقول بأن تعيين وزير داخلية لبنان تحول إلى حجر عثرة بين الرئيس ميشال عون ورئيس الوزراء المكلف نجيب ميقاتي.
وبعد أن يسرد الموقع سيرة حياة ميقاتي السياسية وتفاصيل عملية تكليفه ومواقف القوى السياسية من تشكيل الحكومة، يقول بأنه إذا ما تشكلت حكومة فلا ينبغي أن نتوقع تحسناً في وضع لبنان الراهن. فليس من أحد على استعداد لتوظيف مليارات الدولارات في لبنان مجاناً، بل بوسعه الإعتماد فقط على المفاوضات مع صندوق النقد الدولي. لكن بيروت عاجزة في الوقت الراهن على تنفيذ الشروط الضرورية لقرض كبير يفترض “إصلاح” الإقتصاد اللبناني. لكنه “يستحيل إصلاح ما ليس موجوداً”.
ويرى الموقع أن لبنان لم يكن في يوم من الأيام قوياً في إنتاج سلع ذات قيمة مضافة عالية. فمنذ ظهوره كان الإقتصاد اللبناني يعتمد على القطاع المصرفي والسياحة، وتدعمه تجارة المخدرات. ولم يصمد في الوقت الراهن من بين هذه القطاعات سوى “القطاع” الأخير. ولبنان يمتلك تربة إستثنائية الخصوبة تتميز بأحد أعلى مؤشر إنتاجية في العالم، لكن الزراعة تموت “بنجاح” أيضاً لغياب التمويل ومقاطعة الجيران للمنتجات اللبنانية.
ويختتم الموقع نصه بتوقع سودواي متشائم، لكنه شديد الواقعية في لبنان الطبقة السياسية الحالية، فيقول بأن مستقبل لبنان قاتم، ويبدو أن معجزة فقط بوسعها إنقاذه، فهل سيتمكن الرئيس المكلف الجديد من إجتراحها، “الوقت وحده كفيل بالإجابة”.
موقع RT الرسمي الناطق بالروسية نشر أيضاً في 12 من الجاري نصاً تناول تكليف ميقاتي والأزمة اللبنانية بشكل عام تحت عنوان “الروس قادمون”. ويشير العنوان مباشرة إلى أن النص يقارب هذه الأزمة من زاوية المصالح الروسية في لبنان. كتبت النص الصحافية يوليا يوزيك التي يذيل الموقع نصوصها دائماً بالتعبير”رأي الكاتب قد لا يتوافق مع رأي الموقع”.
تبدأ الكاتبة نصها بالقول أن الأزمة هي أيضاً “إمكانيات جديدة”، هذا على الأقل ما يمكن قوله بشأن الأزمة السياسية الإقتصادية الإجتماعية “الأكثر عمقاً منذ 150 عاماً” التي يعانيها لبنان، وبشأن “الإمكانيات الفريدة” التي تتيحها لروسيا.
تنقل يوزيك عن الممثل الخاص للحريري في موسكو جورج شعبان قوله بأن روسيا بوسعها مساعدة لبنان في الخروج من مأزقه السياسي لأن لها علاقات جيدة مع جميع القوى السياسية اللبنانية والدول المؤثرة في الوضع اللبناني. وتفترض الكاتبة أن شعبان قصد بقوله “جميع القوى السياسية” القوة السياسية العسكرية التابعة لإيران والأكثر تأثيراً في لبنان، أي حزب الله، “الذي يعين ويقيل جميع رؤساء وزراء لبنان، وأحياناً بالوسيلة الأكثر راديكالية”.
تستشهد الكاتبة بكلام لكل من حسن نصرالله ونعيم قاسم لتقول بأن حزب الله هو الذي إختار ميقاتي لتشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة. ووصفت ميقاتي بأنه “أحد أتباع حزب الله (Hezbollah henchman)”، وسوف يشكل “حكومة إنقاذ” لبنان تحت “العين الساهرة للحركة (الحزب) والحرس الثوري”. وترى بأن موقف روسيا سوف يكون أكثر حساسية في المسألة اللبنانية “بسبب العلاقات مع إيران”، من دون أن توضح طبيعة هذه العلاقات. وتقول بأنه على الفور، وكأنها إشارة، تجددت العمليات العسكرية في درعا، وتم خرق إتفاقية وقف إطلاق النار التي رعتها روسيا.
تستنتج يوزيك من الربط بين تكليف ميقاتي “أحد أتباع حزب الله” تشكيل الحكومة اللبنانية وانفجار الوضع في درعا لتقول بأنه “ما أن تصبح روسيا قوية وقادرة على المنافسة حتى تبدأ ألعاب قاسية لاحتوائها”.
وتختتم الكاتبة نصها بالقول “والآن ننتظر الأخبار من رئيس الوزراء اللبناني الجديد”، الذي من غير المستبعد أن يدفع بإيران من أجل ذلك “الإحتواء الأنيق” تفسح لروسيا في لبنان.
المصدر: المدن