لن يشهر الرئيس الأميركي جو بايدن أي ندمٍ على كيفية سحب القوات الأميركية من أفغانستان، ولن يقرّ بأنه أخطأ وأساء الحسابات. هذا اليوم. إلاّ أن انتعاش “القاعدة” و”داعش” نتيجة نصر “طالبان” الساحق قد يجبر جو بايدن على الاعتراف لاحقاً بأنه استثمر أسوأ استثمار في الأمن القومي الأميركي والدولي بقراراته المرتبكة في أفغانستان، لا سيّما إذا طرقت هذه التنظيمات الإرهابية الأبواب الأميركية كما تصمّم أن تفعل. فإدارة بايدن هرولت بالخروج من أفغانستان بلا “استراتيجية خروج” ولا استراتيجية “ما بعد” المغادرة علماً أن الاستخبارات الأميركية حذّرت من انهيار سريع للمؤسسة العسكرية التي ضمّت 300 ألف جندي أفغاني مدرّبين على أيدي الأميركيين لسنوات تقهقروا أمام مقاتلي “طالبان” في غضون أيام تاركين لهم ذخيرة عسكرية غنية ومتفوقة.
الأنظار تتوجّه الى العراق خشية أن تخلّف مغادرة القوات الأميركية مصيراً مرعِباً للعراق بتداخل وبمواجهة بين “داعش” وبين ميليشيات تابعة لـ”الحشد الشعبي” العراقي تأخذ تعليماتها من “الحرس الثوري” في طهران. ليبيا أيضاً مرشّحة للانهيار بما يؤدّي الى نمو رهيب للتنظيمات الإرهابية التي توجّهت اليها من سوريا بتسهيلات دولية. فالخطر الكبير اليوم ما بعد سقوط أفغانستان في أيدي “طالبان” هو الفسحة التي سيؤمّنها هذا التطوّر التاريخي للتنظيمات الإرهابية لإعادة تنظيم صفوفها وإعادة اختراع نفسها للانطلاق الى خارج أفغانستان لتنفيذ مشاريعها المفصليّة. “طالبان” تتنصّل من أي مسؤولية عن هذه التنظيمات التي وعدتها بأن تترك أفغانستان لـ”طالبان” بلا أي تدخّل في شؤونها مقابل ترك الحريّة لها للاستعداد لعمليات خارج أفغانستان. رغم تنصّل “طالبان”، تهرع روسيا والصين وإيران نحو التفاهم مع “طالبان” لتعقد معها الصفقات ولشراء بوليصة تأمين عبرها. الولايات المتحدة تتخبّط في سياساتها المبعثرة بين انهماك إدارة بايدن بالتوصّل الى صفقة نووية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية بأي ثمن وبين تنفيذ وعودها الانتخابية بسحب القوات الأميركية من حروب الآخرين بأي كلفة. أما أوروبا، فإنها ترتجف في خوفها التقليدي من تدفّق اللاجئين اليها وتسخّف نفسها بنظريات سطحية بلا أي خطة تنفيذ جدّيّة. الدول العربية على حالها من تمزّق وخلافات، معظمها ضحية مباشرة للحكم فيها ولفتح ساحاتها لمشاريع إيرانية وتركية وإسرائيلية وجهاديّة، وبعضها اليوم يحاول بدوره أن يحمي نفسه من تداعيات ما حدث في أفغانستان.
وما حدث في أفغانستان هو أن “حركة طالبان” باتت “حكومة طالبان” الباقية في أفغانستان الى أجلٍ غير مسمّى. فهي بمجرد 75 ألف مقاتل ربحت حرباً ضد قوّة عظمى نووية أنفقت 3 تريليونات دولار على مدى 20 سنة أثبتت خلالها فشلها الذريع في الاحتلال وفي المساعدة ببناء دولة مؤسسات وديموقراطية. ونعم، إن أفغانستان هي فيتنام الثانية للولايات المتحدة وستبقى وصمة على جبينها وجبين حلفائها في حلف شمال الأطلسي.
عواقب وتداعيات هذا الحدث المفصلي في أفغانستان ستكون إقليمية وعالمية. الجمهورية الإسلامية الإيرانية لا تحتفي بعودة “طالبان” الى حدودها، لكنها في غاية الاحتفاء بفشل الولايات المتحدة وبالإهانة التي رافقتها وهي تغادر أفغانستان. طهران أجرت الاتصالات مع “طالبان” وسط انقسام واختلاف آراء في صفوف حكّامها. فعلت ذلك لتعرب عن تعاونها في مسائل اللاجئين الأفغان والحدود الإيرانية – الأفغانية. إنما ما تريده طهران هو احتواء الخطر الذي يأتي نحوها عبر “القاعدة” و”داعش” ومشتقاتها وهي جاهزة لعقد الصفقات مع “طالبان” لشراء بوليصة التأمين من هذه التنظيمات، شأنها شأن روسيا والصين وغيرهما.
بالنسبة الى روسيا، إنها تتحدّث مع “طالبان” وهي جاهزة للتعامل معها كقيادة سياسية في أفغانستان وليس كمجرد حركة مقاتلين كما جرت العادة. الكرملين ينطلق من براغماتية تخطّت عقدة انهزام الاتحاد السوفياتي عبر البوابة الأفغانية. الكرملين ينظر الى التطورات من زاوية الأمن حصراً وليس من زاوية حقوق الإنسان أو مصير المرأة، كما يزعم الغرب أن تلك هي مصادر اهتمامه وقلقه من حكم “طالبان”.
ما وعدت به “طالبان” لروسيا هو عدم إبرام اتفاقيات مع “القاعدة” أو “داعش” أو غيرها لتسهيل عملياتها خارج أفغانستان. لكن “طالبان” أوضحت لروسيا وغيرها أنها ليست بصدد إخراج هذه التنظيمات من الأراضي الأفغانية. فهناك اتفاق أو اتفاقية في عام 2019 بين “طالبان” و”داعش” على التعايش والتعاون، وليس المواجهة. و”طالبان” غير متشوقة لإلغاء هذه التفاهمات التي لها قواسم مشتركة عقائدية ودينية.
“طالبان” أعلنت أنها ستحكم على أساس الشريعة الإسلامية بحيث تتحوّل أفغانستان الى إمارة إسلامية بـ”رتوش” مع قليل من “التحديث” لا سيّما في بداية العهد كي “يبلع” العالم فكرة التغيير في ذهن “طالبان” وعقيدتها، وكي يُفَكّ أي حصار اقتصادي على أفغانستان في قبضة “طالبان”، وكي تبدأ الدول واحدة تلو الأخرى الاعتراف بحكومة “طالبان”. كل هذا يتطلّب خطوات تجميلية تنحصر في كابول العاصمة ولا تتعدّى الكلمات المنمّقة التي تخفي في طيّاتها حقيقة ذهنية “طالبان”.
فالأولوية اليوم لدى “طالبان” هي لتصفية نظام الدولة القائم، الحكم على أساس الشريعة بلا حاجة الى أي دستور وبعيداً من أي ذكر لكلام فارغ يدخل تحت عنوان الديموقراطية. النساء لن يتعرضن للضرب المبرح سوى إذا حكمت المحكمة بذلك وبالتالي انهن جزء من العملية التجميلية. فلا حقوق لهن سوى طبقاً للشريعة بتفسيرها القاتم- أي لا حقوق على الإطلاق. الغرب لن يجرؤ على التدخّل ولفظ كلمة حقوق المرأة أو حقوق الإنسان، لا سيّما أن في أيدي “طالبان” “تنظيم” عدد اللاجئين الذين سيتدفقون اليه.
الأولوية الثانية هي للتفاهمات مع الصين لأسبابٍ اقتصادية، وللعمل مع باكستان لبدء الاعتراف بحكومة “طالبان” كي تكرّ مسبحة الاعتراف.
رسميّاً، تراقب الدول بعضها بعضاً لترى مَن سيبادر الى الاعتراف بحكومة “طالبان” وكيف سيتم التغلّب على تصنيف “طالبان” حركة إرهابية في مجلس الأمن الدولي. باطنيّاً، تتموضع الدول، بما فيها الدول الغربية والعربية، في صفوف الذين سيسرعون الى الاعتراف وهي تترقّب وتراقب وتستعدّ لكنها تتجنّب أن تكون الدولة الأولى التي تعترف بشرعية حكم “طالبان” في أفغانستان.
روسيا مثلاً متأهبة للاعتراف بـ”طالبان” لكنها غير قادرة على طرح فكرة إزالة صفة الإرهاب عنها في مجلس الأمن الدولي الذي طبع هذه الصفة لأن في ذلك مغامرة سياسية. الولايات المتحدة ليست أبداً جاهزة لإزالة “طالبان” عن قائمة الإرهاب.
الأوروبيون جائعون للفكرة لكنهم خائفون أن يجهروا بها فيما يلمّحون الى حتميّة الاعتراف عاجلاً أم آجلاً، كأمر واقع. الصين بدأت العمل مع “طالبان” قبل انتصارها الباهر وسرّعت به منذ الانتصار. باكستان هي المرجّحة لتكون الدولة الأولى التي تعترف بـ”طالبان”- والجميع في انتظارها.
مشكلة الأمن والاستقرار في أفغانستان لا تقتصر على نجاح “طالبان” في فرض القانون والنظام على طريقتها في جميع أنحاء أفغانستان بالبطش أو بأي وسيلة أخرى. المشكلة تكمن في أن أفغانستان اليوم عادت أهم ملاذ للتنظيمات الإرهابية التي بسببها غزت الولايات المتحدة بغزو واحتلال أفغانستان والعراق قبل 20 سنة بعد إرهاب 11 أيلول (سبتمبر) 2001. في الأشهر القليلة الماضية وصل نحو 150 ألف “داعشي” الى أفغانستان شهرياً من سوريا وليبيا وبلغ العدد حتى الآن 10 آلاف مقاتل يتمركزون في أفغانستان، حسبما أكّدت مصادر مطّلعة على مثل هذه النشاطات والتحركات.
“طالبان” قادرة على تأمين “الاستقرار” داخل أفغانستان لكنها غير قادرة أو راغبة بالسيطرة على “القاعدة” أو “داعش” ونشاطاتها. فالعقد بينها هو: أفغانستان لـ”طالبان”، وما يحدث عبر الحدود الأفغانية ليس من مسؤولية “طالبان” غير المستعدّة أو القادرة على إغلاق الحدود. والكل خائف.
الصين قلقة لكنّها ترى في علاقاتها المتينة مع باكستان ومع الانسحاب الأميركي من أفغانستان فرصة يجب اغتنامها لبسط نفوذها هناك ولاستغلال الموارد المعدنية الغنية كالنحاس إذ لديها الأموال للانفاق على حكومة “طالبان”. قد ترتأي الصين أن مصلحتها تقتضي ن تصبح سوية مع باكستان سادة اللعبة في أفغانستان لمواجهة الهند عبر البوابة الأفغانية، وللبناء على تقهقر الولايات المتحدة هناك.
أفغانستان قد تصبح مقبرة الصين، كما كانت مقبرة الاتحاد السوفياتي ومقبرة العظمة الأميركية. لكن الصين تبدو غير آبهة طمعاً بالمعادن، وبالتموضع في آسيا الوسطى، وكذلك باحتواء أي فكرة لدى التنظيمات الإسلامية المتطرفة لنشر اللااستقرار في منطقة الأويغور Uyghurs الصينية ذات الأكثرية السنيّة. وهي ترى في علاقاتها مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية ومع باكستان درعاً مميّزةً لها في الساحة الأفغانية.
قد تكون تطورات أفغانستان مقبرة لإدارة بايدن ليس فقط لما كشفته عن قصر نظرٍ لدى الرئيس جو بايدن وفريقه السياسي وإنما نتيجة ما قد يأتي الى المدن الأميركية من إرهاب ظن الرئيس المتعجرف الأسبق جورج دبليو بوش انه نجح في إبعاده عنها عندما قام بغزو أفغانستان واحتلال العراق. عندئذ، وإذا وقع إرهاب داخل المدن الأميركية، سيكون المستفيد الأكبر الرئيس السابق دونالد ترامب الذي كان أطلق فكرة سحب القوات الأميركية من أفغانستان، إنما خطوة بخطوة، وليس بإعلان موعد 11 أيلول (سبتمبر) لإتمامه كما فعل جو بايدن.
لقد سقطت فكرة إنشاء ائتلاف دولي للوقوف في وجه الإرهاب مع سقوط أفغانستان في أيدي “طالبان”. صحيح أن الرئيس بايدن نجح في الهروب من أفغانستان ومستنقعها، لكن كيفيّة الهروب ستلاحق إدارة بايدن الى عقر دام الندم… وربما الى المقبرة الأفغانية.
المصدر: النهار العربي