في التسعينيات، استولت طالبان على السلطة واستغلت بلداً مزقت أحشاءه الحرب مع الاتحاد السوفياتي. فهل ستفعل الشيء نفسه مرة أخرى اليوم؟
ماذا تفعل إذا أصبح بوسعك أن ترى نهاية عالمك وهي تقترب؟ هل تهرب؟ هل توطِّن نفسك على الحتمية الجديدة التي يتعذر تغييرها؟ هذه الأسئلة جُلبت إلى بؤرة التركيز مؤخرًا بسبب التقارير عن اليائسين من الطبقة المهنية الأفغانية الذين يستعدون لعودة طالبان الوشيكة إلى السلطة.
في جزء كبير من حياتي كبالغ، كان التدخل الغربي في أفغانستان حاضراً في خلفية المشهد. كان هناك وقت في أوائل العام 2010 عندما كنت أقوم بتدريس فصول دراسية بشكل روتيني في جامعة ييل مليئة بعمال الإغاثة وقدامى المحاربين من أفغانستان. ولفترة من الوقت، كان ستان ماكريستال، القائد السابق للقوات الأميركية في أفغانستان، زميلًا. وجاء الجنرال ديفيد بترايوس أكثر من مرة لتناول الغداء. وعلى الرغم من أنني كنت طوال حياتي مفتونًا بالتاريخ العسكري، إلا أنني لم أكن أبداً على مثل ذلك القُرب من الحرب. وعندما ترى الأرقام، يصبح من الأسهل فهم السبب الذي جعل آثار الحرب الأفغانية في المجتمع الأميركي كبيرة كما هو حالها. وقد كلف التدخل الغربي في أفغانستان، الذي بدأ في العام 2001، الولايات المتحدة أكثر من 2.2 تريليون دولار.
للبحث عن شيء من المنظور، سيكون من المنطقي وضع السنوات العشرين الأخيرة من التدخل الغربي في أفغانستان في سياق قرن من الصراع المتنازع عليه والعنيف في كثير من الأحيان حول تحديث البلاد. وقد عملت ثورة العام 1978، التي أطاح فيها حزب الشعب الديمقراطي الأفغاني بحكومة الرئيس محمد داود خان، والتدخل السوفياتي في البلد في العام 1979 ورعاية الغرب للمقاومة أفغانستان، على تحويل البلد إلى ساحة معركة في أواخر حقبة “الحرب الباردة”. وكان ذلك صراعا ذا أبعاد مذهلة.
وفقا لبعض التقديرات المتحفظة، كان عدد القتلى في الفترة ما بين العامين 1978 و1987 هو 870.000. وثمة تقديرات لا يمكن أن تكون غير معقولة، والتي تضع معدل الوفيات الإجمالي عند ضعف هذا المستوى. كان حجم هذا العنف في الثمانينيات أكبر بكثير من أي شيء تبعه. وفي العام 2019، قتل 0.078 من السكان الأفغان في اشتباكات بين القوات الحكومية وطالبان. وفي العام 1984، سقط 1.35 في المائة من السكان الأفغان ضحايا للحرب في عام واحد. وإذا أُخِذت هذه الأرقام من حيث علاقتها بالسكان، فإن هذا أسوأ 19 مرة من معدل الضحايا الحالي.
ولا أستدعي هذه الأرقام لتبرير العنف الذي أعقب ذلك أو التركيز على نسبيته. فقد قُتل في أفغانستان في العام 2019 عدد من الأشخاص أكثر من أي وقت مضى منذ نهاية الحرب الأفغانية-السوفياتية؛ أكثر مما قُتل أثناء احتلال طالبان للبلاد في أواخر التسعينيات. لكن حجم كارثة الثمانينيات مذهل. كان حجم الخسائر، التي تراوحت بين 7 و10 في المائة من إجمالي السكان قبل الحرب، مماثلاً لأعداد أولئك الذين عانوا في أوروبا الشرقية والبلقان في الحرب العالمية الثانية. ولا يكون سوى للحروب الكبيرة التي يسقط فيها عدد كبير من الضحايا المدنيين تأثير ديموغرافي كبير. وفي الثمانينيات توقف عدد سكان أفغانستان عن النمو.
بالمقارنة، كانت فترات أمراء الحرب وطالبان في التسعينيات أقل فتكًا نسبيًا. ولا يعني هذا أن تلك كانت أوقاتا جيدة، خاصة بالنسبة للنساء الأفغانيات اللواتي قبل ذلك يشاركن في السياسة التحررية وثقافة المدن ثم وجدن أنفسهن يعشن في ظل نظام طالبان الكاره للنساء.
بالرجوع إلى بيانات الوفيات، استمر التدخل الغربي في أفغانستان بعد العام 2001 في البداية في خفض قوس العنف. وبالقياس إلى عدد القتلى، كان عاما 2003 و2004 أكثر السنوات هدوءا التي مرت بها أفغانستان منذ السبعينيات. ولكن، منذ العام 2006 تصاعدت حدة مقاومة طالبان ورد التحالف الغربي عليها. وبين العامين 2009 و2013، نفذت الولايات المتحدة وحلفاؤها شيئًا يشبه احتلالا واسع النطاق للبلاد. وفي العام 2011، بلغت القوة المشتركة للقوات الأميركية والقوات المتحالفة والأفغانية المنتشرة ضد تمرد طالبان ذروتها عند أكثر من 450.000.
لم تكن الخسائر مطلقا على نطاق يمكن مقارنته بالحرب الأفغانية السوفياتية. كان المقياس الأفضل لمدى الاضطراب هو النزوح الداخلي للسكان، الذي تصاعد جنبًا إلى جنب مع تزايد حجم القوات المنتشرة. وابتداء من العام 2014، كانت هناك موجة من طالبي اللجوء في الخارج، والتي اندمجت في العام 2015 في أوروبا مع أزمة اللاجئين “السوريين”. ثم، مع بدء انسحاب القوات العسكرية الغربية بشكل جدي وتحشيد طالبان، اتسع نطاق القتال بشكل كبير. وبدأت قوات الأمن الأفغانية في تلقي خسائر كبيرة وتزايد النزوح الداخلي بشكل مخيف منذر.
إذا نظرنا إليه من علٍ، فإن نمط التنمية الاقتصادية في أفغانستان كان يتبع، على مدى العشرين عامًا الماضية، مسارا مشابها. في البداية، كانت المساعدات الغربية صغيرة النطاق بشكل مدهش ومتواضعة في الثمار. وقد تصاعدت بشكل مفاجئ في أوائل العام 2010 في وقت زيادة عديد القوات الأميركية ثم تراجعت منذ ذلك الحين.
وبالنظر إلى التحديات الاجتماعية والاقتصادية الهائلة التي تواجه أفغانستان، قد يعتقد المرء أن التنمية الاقتصادية كانت ستوضع على رأس الأولويات. وفي الواقع، كانت نسبة الإنفاق العسكري إلى الإنفاق على التطوير المدني في حدود عشرة إلى واحد. ومع ذلك، فإن حجم التورط الغربي مذهل. غالبًا ما تجاوز الإنفاق على المساعدات الغربية الحجم المقاس للناتج المحلي الإجمالي الأفغاني. ولهذه الأرقام خاصية سوريالية. كيف يمكنك إدخال الكثير من أموال المساعدة بشكل مناسب في مثل هذا الاقتصاد الصغير؟ أين ذهب المال؟
إحدى الإجابات الواضحة هي أن الفساد والاقتصاد الرمادي ابتلعت عشرات المليارات. وأصبح الأفغان الأغنياء أصحاب أملاك كبيرة في دول الخليج. وكانت هذه القسمة شديدة الوقاحة لدرجة أنها تثير التساؤل حول فكرة الاقتصاد الوطني الأفغاني كما نفهمه عادة. كل الإحصائيات بنى. والناتج المحلي الإجمالي هو بناء معقد بشكل خاص، وهو يحجب، في حالة أفغانستان، حقيقة أن الاقتصاد الوطني بالكاد موجود.
على أرض الواقع، هناك “اقتصادات” للتجار الحضريين والحرف اليدوية ومجتمعات المزارعين الذين يعانون من الصعوبات بسبب وعورة وفقر مزارعهم، لكن هذه الاقتصادات لم تشكل نوع التدفق الدائري المتكامل بالطريقة التي نفهمها في الاقتصاد الحديث. وكان تحقيق التدفق الدائري في الواقع مسألة إستراتيجية في أفغانستان. وتم بذل قدر كبير من الجهد في المشروع الذي تبلغ تكلفته 3 مليارات دولار لاستكمال الطريق الدائري الذي يسمح نظريا بتداول البضائع والأشخاص في جميع أنحاء أفغانستان. لكن الحلقة لم تنغلق أبدا.
يعتبر الأفيون غير القانوني أثمن محصول في أفغانستان، ومنذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ازدادت زراعته بشكل تدريجي.
وبأسعار المزرعة، أنتج الأفيون في العام 2017 حوالي 1.5 مليار دولار من الدخل للفلاحين الأفغان. وتتقلب حظوظ الريف وأحواله مع تذبذب أسعار الهيروين في العالم الغربي.
تُظهر البيانات الخاصة بنصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في أفغانستان ارتفاعًا مفاجئًا بين العامين 2000 و2014. وقد ارتفع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي من خلال ضخ الإنفاق الأجنبي واستعادة الزراعة والتجارة العادية عندما تمت استعادة الأمن. ومنذ العام 2014، مع تضاؤل المساعدات وعودة العنف، أصيب الناتج المحلي الإجمالي بالركود. ومع النمو السكاني السريع، هذا يعني أن نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي آخذ في الانكماش.
من الواضح أن هذه البيانات مشوبة بعدم اليقين. لكن علامات التحديث الأخرى تتبع نفس المنحنى.
زاد متوسط العمر المتوقع. ويعزى ذلك إلى الانخفاض السريع في معدل وفيات الرضع وتحقيق مكاسب مذهلة في متوسط العمر المتوقع للنساء، ويفترض أن يكون ذلك من خلال توفر رعاية أفضل بكثير للأمهات. وفي حين حيث الرجال الأفغان كانوا في العام 2000 يعيشون فترة أطول من النساء، فإن لدى أفغانستان الآن النمط الطبيعي حيث النساء يعشن أكثر من الرجال.
من 30.000 في العام 2003، ارتفع عدد الطلاب المسجلين في الجامعات في أفغانستان إلى أكثر من 180.000 طالب. وفي العام 2018 كانت هناك 49.000 طالبة.
مثل كل شخص آخر، يُدمن الأفغان مدمنون على هواتفهم المحمولة. وهناك عدد كافٍ من اشتراكات الهاتف المحمول لأكثر من نصف السكان، ويشكل مزودو خدمات الهاتف أحد الأجزاء القليلة من الاقتصاد الأفغاني الحديث الذي ازدهر فعلاً. ولتشغيل الهواتف، يحتاج الناس إلى الطاقة. وقد ارتفع استهلاك الفرد من الكهرباء منذ العام 2000. ولتلبية هذا الطلب المتزايد، وسعت أفغانستان قدرتها الخاصة على التوليد. لكنها أصبحت تعتمد بشكل متزايد على واردات الطاقة، من أوزبكستان وإيران وتركمانستان، والتي تمثل ما يقرب من 80 في المائة من احتياجاتها من الطاقة. ويغطي تدفق المساعدات العجز التجاري المتضخم لأفغانستان.
ولكن، على الرغم من جميع العلامات المسجلة للنمو الاقتصادي والتحديث على مدى السنوات الماضية، لم يكن هناك نجاح في القضاء على الفقر. ومع ارتفاع دخل الفرد، زاد معدل الفقر. وفي السنوات الأخيرة، مع توقف النمو، ارتفع معدل الفقر. واليوم، يصنف أكثر من نصف سكان أفغانستان رسميًا على أنهم فقراء.
أصبحت السمة المميزة لأفغانستان الحديثة هي التنمية غير المتكافئة والتفاوت الجسيم. وتشكل المدن الست الرئيسية، وهي كابول، ومزار، وجلال أباد، وهيرات، وقندوز وقندهار، عالماً بعيدًا منفصلاً عن المقاطعات الـ28 الأخرى في البلاد. ويشير منتقدو نظام المساعدة إلى أفغانستان على أنها “دولة ريعية”. وقد أدت المساعدات الغربية التي تم توجيهها إلى نظام اجتماعي وسياسي هرمي ومبلقَن إلى ظهور اقتصادات موازية. واحتكرت النخب النمو لأنفسها بينما تُرك من هم في القاع في الوراء. وتديم حركة طالبان نفسها من خلال تنظيم مرن، ومن خلال الالتزام واقتصاد سري ذي نطاق يُعتد به. لكن ما يبقي الحركة على قيد الحياة في نهاية المطاف هو بؤس الريف الأفغاني والغضب ضد الفساد المستشري والظلم الذي يشعر به الكثير من الشباب.
أظهرت الطبقة السياسية الأفغانية وداعموها الخارجيون، بشكل دوري، وعيا بهذه العلاقة الأساسية. وأشرف غاني، رئيس أفغانستان، هو عالم في الأنثروبولوجيا الثقافية، حصل على درجة الدكتوراه من جامعة كولومبيا في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي بأطروحة بعنوان “الإنتاج والسيطرة: أفغانستان، 1747-1901”. وبعد توليه عدة مناصب في الأوساط الأكاديمية الأميركية، انتقل إلى البنك الدولي في العام 1991. ومن غير المستغرب، بالنظر إلى هذه الخلفية، أنه دفع، عندما كان وزيراً للمالية في عهد حامد كرزاي في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بمجموعة كاملة من برامج التنمية الريفية. ومع تكثيف انخراطهم في أفغانستان بعد العام 2006، أصبح الأميركيون أكثر تركيزًا على جلب الاستقرار، وكانت برامج التنمية الريفية مكملًا أساسيًا لعمليات مكافحة التمرد.
كانت خطط الولايات المتحدة لأفغانستان، في أعلى ذراها، قد رأت في البلاد نقطة انطلاق رئيسية في “طريق الحرير الجديد”. وتصور الجنرال بترايوس و”فريق النمر” في القيادة المركزية الأميركية أفغانستان كحلقة وصل حيوية في طريق التجارة عبر القارات. وسوف يملأ النمو التجاري والاقتصادي الفجوة المتبقية عندما تنخفض أعداد القوات الأميركية. وفي 20 تموز (يوليو) 2011، تبنت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون مبادرة “طريق الحرير الجديد للقيادة المركزية الأميركية” CentCom New Silk Road في خطاب ألقته في الهند. لكن الفكرة لم تنطلق. وبعد بضعة أشهر من خطابها، أعلنت كلينتون عن توجه إدارة أوباما إلى إعادة التمحور نحو آسيا، والذي كان يُنظر إليه على نطاق واسع على أنه تحوُّل عن أفغانستان نحو آفاق أوسع. وسوف تكون الصين هي التي تأخذ رؤية “طريق الحرير الجديد”، من خلال “مبادرة الحزام والطريق” التي تم تبنيها في العام 2013. لكن مبادرة الحزام والطريق الصينية تتجاوز أفغانستان، تاركة الأمر للأميركيين.
وفي الوقت نفسه، على الأرض، تحكي البيانات قصة محبطة عن التخلف في الريف. وبينما نما باقي الاقتصاد الأفغاني بسرعة بين العامين 2001 و 2013، بالكاد ازداد الناتج الزراعي في تلك المناطق.
لا يتقصر أثر فشل التنمية على جعل الريف أرضا لتجنيد طالبان فحسب. إنه يزيد أيضاً من الهشاشة أمام الصدمات الطبيعية. في العام 2018، اجتاح الجفاف الشديد أفغانستان. وقد عادت الأمطار في العام 2019. ولكن في العام 2021، في مناطق شمال وغرب البلاد، واجه مليونان إلى ثلاثة ملايين شخص يعتمدون على الزراعة البعلية والمراعي الطبيعية الكارثة مرة أخرى. وبينما كانت الولايات المتحدة تستعد لخروجها من البلاد، حذر المجلس النرويجي للاجئين من أن “أكثر من 12 مليون أفغاني –ما يعادل ثلث السكان- يواجهون الآن مستويات ’الأزمة‘ أو ’حالة الطوارئ‘ من انعدام الأمن الغذائي”.
مع وجود أفغانستان في أزمة، بدت طالبان مستعدة للعودة إلى السلطة. وهي تستغل، مرة أخرى، مزاج الأزمة. لكنها كانت قد تولت في التسعينيات المسؤولية عن بلد منزوع الأحشاء بسبب الحرب مع الاتحاد السوفياتي. ما تزال أفغانستان اليوم فقيرة، لكنها ليست في الحالة التي كانت عليها قبل 25 عامًا. كانت كابول في التسعينيات مدينة مدمرة يبلغ عدد سكانها حوالي مليون نسمة. واليوم، أصبحت حاضرة مترامية الأطراف يقطنها السكان ذوو الدخل المنخفض، مرصعة بالمكاتب الشاهقة والمجمعات السكنية، ويبلغ عدد سكانها الرسمي أكثر من أربعة ملايين نسمة. فأي نوع من النظام يمكن أن تقيمه طالبان في مثل هذه المدينة؟ ما هو نوع المستقبل الذي يمكن للمجموعة أن تقدمه لأفغانستان ولسكانها في المناطق الريفية؟ لا عجب في أن طالبان دأبت على مغازلة بكين. ففي النهاية، تحتاج أفغانستان إلى كل الأصدقاء الذين يمكنها الحصول عليهم.
*Adam Tooze: هو مؤلف كتاب “الإغلاق: كيف هز كوفيد الاقتصاد العالمي”، الذي نشرته دار “ألين لين” في أيلول (سبتمبر).
*نشر هذا المقال تحت عنوان: The graveyard of empires: Why American power failed in Afghanistan
المصدر: (ذا نيوستيتسمان) / الغد الأردنية