منذ الشرارة الأولى التي انطلقت من جسد التونسي، محمد البوعزيزي، فأضرم النيران في هشيم الأوطان العربية، وهذه الشعوب تقف على جرفٍ ساحق، تنظر إلى تاريخها كيف يُمحى، وأوطانها كيف تُهدم، ومستقبلها كيف يُقصى، بينما اليأس يتفشّى حتى تكاد تصبح شعوب بكاملها على حافّة الانهيار الروحي والنفسي بعد انهيارها المادّي. وفي الوقت نفسه، تضمر أملًا يخبو وميضه مع كلّ يوم جديد، بأن هناك ما يمكن أن يغيّر الوضع، لعلّ هذا الوميض يبرق من جديد في بقعةٍ ما، لعلّ وطنًا من هذه الأوطان يعود إلى الارتكاز على قوائمه، لعلّ لبنان، أو تونس، أو العراق، أو سورية، أو اليمن، او السودان، أو الجزائر، أو لعلّ حتى مصر التي تبدو في حالة استقرار في هذه الفوضى المدمّرة تشرق فيها شمس الحريّات والديمقراطية التي كانت مطلب الشعوب في انتفاضاتها المتلاحقة.
ولكن الوضع لم يتغيّر، بل انحدر إلى أتونٍ لا تكفّ عن التهام كلّ ما أنجز، وأي حلم يراود نفوس الشعوب المنكوبة الطامحة في استرداد شروطها الإنسانية. وما زلنا نحيل الأمر إلى الاستبداد الذي تحكّم بمقادير هذه الشعوب حينًا، على أهمّيته واحتكاره النصيب الأكبر، وإلى المؤامرة الخارجية التي ترسم مصائرها حينًا آخر، وهي الأخرى واقع لا يمكن نكرانه، زادت عليها ممارسات القوى المعارضة التي برزت على الساحة بعد الثورة، بينما المشكلات والأسباب التي لعبت وتلعب الدور الأساسي في الوصول إلى هذه المصائر تزداد قوّة وتجذّرًا في الواقع.
تعاني مجتمعاتنا من انغلاقٍ شبه كامل على نفسها منذ قرون، ربّما ازداد الانغلاق في المراحل التالية لنيلها استقلالها من المحتل ووقوعها تحت حكم أنظمة ديكتاتورية، زادت في إحكام قبضتها على المجال العام، وسعت، في أحسن حالاتها، إلى بناء دولٍ تكون فيها المتحكّم الوحيد في إدارتها، وفق رؤاها واستراتيجياتها، ضاربة عرض الحائط بأبسط حقوق الشعوب، وهي إرادتها الحرّة وحقها في تقرير مصيرها وصنع سياساتها واتخاذ قراراتها، فشلَّت الحياة السياسية من جهة، وشلّت المجتمع من جهة أخرى.
لنأخذ سورية مثالًا، هل توفّرت حاضنة مجتمعيّة للثورة كانتفاضةٍ لا بدّ منها في وجه الطغيان بكل أشكاله، من سياسي وديني واقتصادي وفكري واجتماعي .. إلخ؟ ولو كانت هذه الحاضنة متوفّرة على المستوى اللازم، من أجل إحداث التغيير المرجو، هل كانت وصلت البلاد إلى هذا الدرك من الانهيار والتراجع عقودًا عن مسيرة الحياة في عصرنا؟ حقيقة لا بدّ من مواجهتها بشجاعة. تولد الثورات من قلب الشعوب، من بؤر معاناتها، من صحوتها على واقعها الظالم، كل الشعوب العربية التي انتفضت كان لديها المبرّرات الدامغة، أوصلها الضغط إلى مرحلة الانفجار، فصار موقف صغير بمثابة عود الكبريت الذي سيضرم نيران الغضب، لكن السؤال ليس هنا، فالانتفاضات كانت أمرًا متوقّعًا وبديهيًّا.
السؤال: لماذا الفشل؟ ليس في سورية وحدها، بل في كل مناطق ما سمّي الربيع العربي. وها هي تونس التي كانت الأنظار ترنو إليها، منذ البداية، لِما وصل إليه المجتمع التونسي من مستوىً متقدّم على بقية الدول، في مجال التجربة الديمقراطية والحرّيات والقوانين أيضًا، لكن التعثّر ابتدأ باكرًا، وما زالت الأزمة راسخةً، ولم يستطع التونسيون الوصول ببلادهم إلى شاطئ ترسو عليه مراكبهم، ويبدأون ببناء دولةٍ حديثة مستقرّة، ألا يُخشى على التجربة الديمقراطية التي لم يقوَ عودُها من الأزمات التي تلتهم المجتمع، من فسادٍ وانعدام فرص عمل للشباب؟ كذلك في لبنان الدولة القائمة على أسسٍ ديمقراطية كما يُزعم، الذي مرّ على مؤتمر طائفه أكثر من ثلاثين عامًا، لم يتحقّق خلالها ما يصبو إليه اللبنانيون، بل كل ما وقع أن الاستنقاع طال وبقيت أسباب عدم التقدّم والحفاظ على دولة مستقرّة، قائمة تهدّد بالانهيار التام، علمًا أن ما يحصل اليوم في هذا البلد هو الانهيار بعينه.
لماذا أوصلت الحرب التي اندلعت على أعتاب ثورةٍ مرتجاة، سورية إلى دولة فاشلة ووطن مقسّم، ومجتمعات متخاصمة، وشعب مشرّد؟ هل السبب يكمن فقط في الديكتاتورية، مع عدم التقليل من دورها في كلّ ما يعيق تطوّر المجتمعات والشعوب، وما تسبّب من ركود وشلل وعجز في مسيرة الحياة والتقدّم؟ أم التدخّل الخارجي الذي اقتحمها من كلّ الجهات؟ أم العسكرة الباكرة، ثم الأسلمة التي أقصت كل الشرائح المنخرطة في ثورة الشعب المطلبية المحقّة، واستلمت دفّة القيادة وتوجيه الحراك وفق برامجها ورؤاها وسياساتها وأجندات داعميها؟
في الواقع، تبرهن السنوات العشر على أن هناك مشكلة كبيرة فائقة الأهمية، جديرة بمن يهتمون بمتابعة التحوّلات والانتكاسات التي أصابت انتفاضة الشعب السوري، وأوصلت البلاد إلى هذا الواقع، بأن يدرسوها على أسس النقد القويم الذي يبحث في المقدّمات ليفسّر الظواهر المتشكّلة أو النتائج. هناك قضية كبرى أُهملت فيما مضى، أو لم تحقّق الأحزاب والتيارات السياسية التي كانت تمارس نشاطها في العقود السابقة لانتفاضة الشعب في المجال الصحيح، المجتمع، على الرغم من تضحياتها الكبيرة والفواتير التي دفعتها في مقارعة الطغيان الذي تمركز حول نظام الحكم بشكل أساسي، من دون العمل على تفتيت البنى المجتمعية السائدة، القائمة على عوامل جامعة تكرّس تقسيم المجتمع إلى مجتمعاتٍ أصغر، بما تبني تلك المجتمعات أو الجماعات من هويات صلدة عن نفسها، وعن الآخر الشريك في الوطن، والتي تعمل الديكتاتوريات من هذا النوع على ترسيخها، بما تشكّل من سند لدعائم سيطرتها وسطوتها على المجال العام.
كان نضال التيارات المعارضة والأحزاب بعيدًا عن القاعدة الشعبية قبل الثورة، على الرغم من وضعها منطلقًا لأهدافها وغاياتها، إنْ كانت الأحزاب اليسارية والليبرالية، أم الدينية والقومية، لم تؤسّس تلك الأحزاب والنخب لوعي عام يجعل أفراد الشعب يفكّرون في واقعهم، ليفهموا مشكلاتهم ويعرفوا شيئًا عن البدائل التي يمكن أن تعيد حقوقهم وتدير حياتهم وتصنع مستقبلهم، بل لم تعمل على تشكيل وعي بالهوية السورية، فتعرّى الواقع باكرًا، وبانت هشاشة البنى المجتمعية، والتقسيم بين مكونات المجتمع، إن كان على أساس ديني وطائفي، أم إثني، أم ريفي مديني كانت علاماته الباكرة في ما نجم عن نزوح الريف باتجاه المدن الكبيرة، والتململ الذي بدا على سكان المدن، نتيجة الشعور بالخطر على البنيان المجتمعي والمديني والثقافي الخاص بهم، مترافقًا مع شعور أولئك الوافدين من أريافهم المهملة من الحكومات بالظلم والرفض من مجتمع المدينة، وقصور الوعي بالذات، وإدراك الخلل الجسيم الذي على الشعب إصلاحه وتجاوزه، وبما أن الشعب، في غالبيته الساحقة، كان يعاني، ليس من البطش والقمع وكم الأفواه والتضييق على الحياة فقط، بل كانت هناك تفصيلاتٌ تخصّ كل منطقة من سورية تتجلّى على شكل مشكلاتٍ وبؤر جاهزة للاشتعال، إن كان في المنطقة الشرقية أو الجنوبية أو الشمالية، أو حتى الوسطى والساحلية، جميعها على علاقة بالاستبداد تقريبًا، أو شجّعها الاستبداد أو غضّ الطرف عن بعضها، زيادة عليها الفساد المبارك منه، والتجاوزات والاعتداء على الملكيات وحقوق الناس وثقافتهم ومعتقداتهم.
ونحن ننتظر بارقة أمل تأتي من أي وطنٍ يعاني شعبه من الاختناق في عنق زجاجة أزماته تعيد إلينا ثقتنا بأنفسنا، وبأن الأحلام يمكن تحقيقها، لا بدّ من تكثيف النخب السورية جهودها في كل مجالاتها، لدراسة الواقع، بمآلاته، والتجربة الدموية التي وصلت بسورية إلى هذا الوضع المهين، يُضرب فيه المثل من القاصي والداني، والنقد الشجاع والجريء، مترافقًا مع العمل على اختراق الوعي العام الذي بات، بسبب ما أحدثت الحرب في حياته والعنف والظلم والجور وإعلاء الخطاب الطائفي والعنصري من كل الأطراف، وإلّا لن يكون هناك حلّ مستدام، فانعدام الظروف اللازمة لفهم الذات وبناء هوية سورية قائمة قبل كل شيء على المواطنة الحقيقية لن يؤدّي إلى الخروج من حمأة المستنقع الذي تزداد لجّته كثافةً ومحاصرةً للحياة.
صحيحٌ أن الثورات لا تُنتج في المخابر، وبالتالي فهي ليست معقّمة، بل تحتوي كل لوثات المجتمع، وليس هناك ثورة لم ترتكب الأخطاء التي قد تصل إلى حدّ الجرائم، لكن وجود نخبة تعرف كيف توصل أفكارها النيّرة إلى القاعدة الشعبية، يمكن أن ينير لها الطريق، وتعرف كيف تبني مستقبلًا بناءً على هدي تلك المشاعل.
المصدر: العربي الجديد