قبل الحديث عن الأزمة السياسية في تونس أود الإشارة إلى أمر جرى لي في النصف الأول من العام 2011 وكان انحيازي إلى الثورة السورية قد بدا للملأ واضحاً ومتسقاً مع مجمل مواقف الحزب الشيوعي السوري السابقة، وكنت عضواً فيه لنحو خمس وأربعين سنة، وعضو هيئة تحرير جريدته العلنية “النور”. ذلك الأمر هو زيارة قام بها أحد الرفاق لي ناصحاً ومحاولاً إقناعي بأن الثورة السورية هي ثورة “إخوان مسلمون..” هكذا متجاهلاً كل ما كنا نتحدث به داخل الحزب عن أوضاع بلادنا المزرية، التي تنذر بكارثة وطنية، إن لم يصحح مسارها، وكان جوابي، آنئذ، عفوياً ومباشراً: “يؤسفني أن أقول لك إن الإخوان يفكرون، اليوم، بطريقة أفضل مما يفكر به الحزب الشيوعي..” وكنت قد اطلعت على “وثيقة العهد” التي أصدرتها الجماعة، وأعلنها المراقب العام السابق للجماعة “علي صدر الدين البيانوني”، وتتضمن قبول الجماعة بمبادئ الديمقراطية، وتداول السلطة، وسوى ذلك.. (كان الحزب الشيوعي(الموحد) قد طرح في مجلس الشعب الدور التشريعي الثامن 2003/2007 قضايا سياسية مهمة تأخذ البلاد إلى انفراج فعلي: مثل قانون للأحزاب، وآخر للمطبوعات، وإلغاء حالة الطوارئ، وتداول السلطة، كما دافع عن المعتقلين السياسيين). ورد الرفيق يقول: “أنت غارق يا رفيق محمود!” فقلت في السياق ذاته: أكثر مما تتصور، وانتهى النقاش. (بالمناسبة ترك العشرات من كوادر الحزب، وشارك المئات بالمظاهرات وخاصة من جيل الشباب وأبناء الشيوعيين، ولم يشأ أحد منهم أن يسعى لتكوين تنظيم ما)
أعود إلى أصل المادة وما أريد قوله عن تونس ورئيسها والأطراف المتنازعة حول السيادة على الدولة والمجتمع فيها، لأقول:
إن جوهر الأزمة المستمرة في تونس شكلاً منذ نحو ستة أشهر، أما عمقها فيعود إلى سني حكم حركة النهضة بالغلبة البرلمانية، وتتعلق بما صارت إليه الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية عموماً، وإلى حال الناس الذي لم يعد يحتمل، وهم يتفرجون على ما يجري من مهازل في أهم مؤسسة للديمقراطية ! ويُذْكَر أن راشد الغنوشي قد برر تراجع شعبية الحركة في الانتخابات الثانية، بعد انتصار الثورة، فانتقد نفسه والحركة أيضاً التي لم تستطع تلبية مطالب التونسيين، لكن الأوضاع استمرت بالتدهور، بينما الصراع على حيازة السلطة كاملة اشتد وتأزم.. ومن هنا بالذات لا بد من الإشارة إلى أن الربيع العربي أكبر من رؤية هذا الحزب أو ذاك ممن ساهم فيه إذ هو نقلة نوعية من أنظمة تتفرد في حكمها واستبدادها وتعيق حركة الحياة العامة في المنطقة العربية، إلى نظام ديمقراطي يساهم في تفتيح ملكات الشعب واستثمار قدراته. وهو أيضاً ليس ثورة ترتبط بمظلومية هذا الحزب أو ذاك.. فتجربة السنوات العشر الأخيرة التي عاشتها مصر وسورية وليبيا، وأخيراً تونس أكدت بالممارسة العملية أن الربيع العربي من صنع حزب واحد. لا من تحالف شعبي واسع وقوى سياسية تضررت من الاستبداد ودفعت أثماناً باهظة.. فما جرى يؤكد، من خلال تلك التجارب، فكرة أن حزباً يؤمن بإيديولوجيا أممية غايتها أبعد من حدود الوطن لا يمكن أن يكون الوطن عنده غير متكأ، ونقطة انطلاق لتنفيذ أجندة حزبه. وإذا كان هذا الأمر ينطبق على الأحزاب الشيوعية التي تأخذ بالصراع الطبقي، والأخرى القومية العربية التي ترى في هويتها الوطنية هوية مؤقتة، وكذلك القومية السورية التي تنفي العروبة أو تجعلها في المرتبة الثانية، فإن ذلك أكثر ما ينطبق على الإسلام السياسي الذي يتكئ على قدسية دينية يشكل بالممارسة رهاباً على المجتمع بأكمله كما هو حال حزب الله في لبنان ويبدو أن هذه التجربة يراد لها التعميم بوجوه أخرى.
إن معظم الكتابات حول الأزمة السياسية التي تفجرت في تونس يوم 25 تموز 2021 تنصب كلياً على رئيس الجمهورية دكتاتوراً مستبداً وانقلابياً على الديمقراطية.. ومن أسف أن بعض تلك الكتابات تخص مركز أبحاث له حضوره! ولم تر تلك الكتابات ما يجري من محاولات حقيقية للسيطرة على الدولة بكاملها لصالح حزب واحد كان قد نال مقاعد أكثر من غيره، وكأنما الديمقراطية تخوِّل من يحظى بعدد أكثر من النواب في المجلس التشريعي أن يستبيح الدولة والمجتمع، وبالتالي أن يعيث بهما على هواه أو هوى حزبه.. ويرى المفكر المغربي عبد الإله بلقزيز أن حركة النهضة في تونس تريد السيطرة على الدولة بتمكنها من السلطتين التشريعية والتنفيذية.. كذلك أشار المنصف المرزوقي في تسجيل له إلى أن حركة النهضة عرقلت تشكيل المحكمة الدستورية العليا! وقال إنه نصح قيادة النهضة، “إن هم استمروا على نهجهم، فإنهم سوف يقودون تونس إلى الخراب!” وهذا ما حدث فعلاً..
نعم إنَّ الأساس، في الأزمة التونسية، هو استمرار محاولات قيادة حركة النهضة السيطرة على رئاسة المجلسين التشريعي والتنفيذي وعلى المحكمة الدستورية العليا واتضح ذلك، إضافة إلى ما ذكر، من خلال إصرار رئيس الحكومة هشام المشيشي الذي بدا أنه يدور في فلك حركة النهضة على ترقيع الحكومة بوزراء عليهم شبهات فساد.. وقد حاول الرئيس قيس سعيِّد السعي نحو مواقف متوازنة فأنذر هؤلاء باللجوء إلى الدستور، بعد أن فشلت محاولاته بالإقناع، فكان ما حدث!
وإذا كان قيس سعيد دكتاتوراً وقد جاء من خارج إطار حقل السياسة، بنسبة عالية من الأصوات.. فماذا نسمي مواقف حركة النهضة؟! في وقت بات فيه ثلث الشعب التونسي يعاني مشكلة العيش! حتى إن “أحمد الحفناوي” صاحب عبارة “لقد هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية” قال بأنه، قبل الثورة، كان لديه مقهى، وقد باعه بثمن بخس، وأنه بعد ٧ سنوات من ثورة تونس “يعيش أتعس أيامه”. ويشار هنا إلى أن راشد الغنوشي يعاني مشكلات داخل حركة النهضة ولعله يحاول تصديرها.
ويتضح من خلال التقارير الصحفية التي تأتي من تونس أن خطوة الرئيس قيس سعيد حظيت بتأييد شعبي وقد أشارت إلى ذلك كل من سامية حسني وأميرة فتح الله، المختصتان في شؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في قسم المراقبة الإعلامية في بي بي سي، إلى أن الرئيس سعيد ما يزال يحظى “بتأييد شعبي كبير”.
وتوضح الصحفيتان أن: “سعيد جاء إلى السلطة بتأييد شعبي كبير إذ حصل على أكثر من 72٪ من الأصوات ما يعكس استياء الناس من المؤسسة السياسية في البلاد، ويتمتع بقاعدة شعبية كبيرة بين الشباب التونسي الذين أصيبوا بخيبة أمل من السياسات الحزبية”. ومعروف أن الرئيس سعيد شخص نزيه، نظيف اليد قد لا يتقن ألاعيب السياسة، لكنه رجل قانون نزيه ما يجعله عاملاً رئيساً في بلد أنهكه الفساد والتقهقر الاقتصادي والاجتماعي! وعلى كل حال تبقى الأمور محكومة بنتائجها!
أخيرا لا شك في أن الصراع مشروع وأمره طبيعي، ولكن أن ينتقل من رؤية سياسية تهدف إلى الأداء الأفضل وبما يخدم للبلد والمجتمع إلى نوع من الأنانية وحب التسلط متجاوزاً مزاعم الإيديولوجيا وحال الناس الموجعة فهذا يدخل في إطار الاستبداد ذاته.
فهل يستطيع الرئيس سعيد الذي قام بتلك الخطوة الجريئة والحاسمة لإصلاح الوضع الذي وصل حد الخطورة، أن يحافظ على ديمقراطية تأخذ بعين الاعتبار مصلحة الشعب التونسي كله؟ وهل يلتقط زعيم حركة النهضة أن الربيع العربي في أي بلد من البلدان التي قام فيها إنما جاء لنزع المظالم كلها، ولدفع البلاد إلى أمام حرياتٍ عامةً، وتنميةً مزدهرةً، وعدالةً اجتماعيةً.
المصدر: موقع (الحرية أولًا)