دخل لبنان مرحلة الخطر الشديد الداهم، ليس فقط لأن الانهيار الشامل مستمر سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، بل خصوصاً لأن معالم الاستحواذ الإيراني على البلد لا تنفكّ تتضح وتتأكّد. ذاك أن منظومة السلطة (“حزب إيران/ حزب الله” وحزب رئيس الجمهورية) اختارت تمديد الأزمة المالية – الاقتصادية لتسهيل تسليم لبنان الى إيران.
تكافل الحزبان وتضامنا على تعطيل ولادة أي حكومة يمكن الدول والمؤسسات الدولية التعامل معها لوقف الانهيار. فالانهيار وحده يضمن لهما تثبيت لبنان في “المحور الإيراني”، لكنهما متعاميان عن واقع أن هذا المحور مفلس وعاجز عن إنقاذ البلد، بل إنه بالكاد يؤمّن الغذاء والدواء والكهرباء للشعوب التي بات يستعمرها بواسطة ميليشيات تابعة أو بتزكية انتهازية من دول كبرى مثل روسيا والصين.
تواجه القوى الخارجية المعنية بالمساعدة وضعاً ترفض فيه الدولة اللبنانية أي مبادرة لا تفضي الى تعزيز منظومة السلطة كما هي، بفسادها وسوء إدارتها وخياراتها المتهوّرة، ولا تعترف بهيمنة “حزب إيران” على الدولة ومؤسساتها، وبشرعنة اقتصاده الموازي القائم على التهريب، وبالإرهاب الذي يفرضه على الطبقة السياسية وفئات الشعب كافةً… هذا ما أحبط “المبادرة الفرنسية” التي طرحت المعادلة الطبيعية: حكومة الإصلاحات مقابل تدفّق المساعدات. فـ”المنظومة” ذاتها ترى في الإصلاحات إضعافاً لها ونسفاً لمشروع “حزب إيران” الذي يستثمر في الانهيار وينتظر اكتماله كي يسقط البلد بين يديه. لذلك تحاول القوى الخارجية إيجاد أساليب غير تقليدية لتوفير كل مساعدة ممكنة خارج إطار “دولة المنظومة”، سواء لمؤسسة الجيش لمنع انهياره وتمكينه من البقاء عماداً للدولة، أم للشعب مباشرةً من خلال هيئات المجتمع المدني.
لكن “دولة المافيا والميليشيا” هيّأت نفسها منذ زمن للالتفاف على أي مساعدات، إذ تستولي على جانب منها لبيعه في السوق السوداء، أو تتلاعب بسعر صرف الدولار وتشفط ما يتوفّر من دولارات لضمان سبل سيطرتها، وفي المقابل، تصرف من أموال اللبنانيين بإرغام البنك المركزي على الإنفاق من ودائعهم أو ما يُسمّى “الاحتياط الإلزامي” لتغطية استيراد الحاجات الأساسية، خصوصاً المواد الغذائية والدوائية والوقود الخاص بتوليد الكهرباء، وحتى هذه تتولّى المافيات تهريب قسم كبير منها الى سوريا لمصلحة النظام (البنك المركزي أفاد بأن لبنان استهلك من المحروقات خلال الشهور الستة الماضية ما يساوي استهلاكه في العامين الماضيين). هذه “الدولة” شكّلت أوائل عام 2020 حكومة خاضعة كليّاً لها، وأبقتها بلا أي مصداقية داخلية أو خارجية، وإذ ظنّ أعضاؤها أنهم مخوّلون وضع خطة للتفاوض مع صندوق النقد الدولي على “برنامج إصلاحي” يتصدّى للأزمة، فإنهم وجدوا أنفسهم في الفخّ الذي نصبته المافيا والميليشيا لتشلّ حكومتهم حتى قبل أن تستقيل رسمياً غداة انفجار/ تفجير مرفأ بيروت.
لا تجهل منظومة السلطة، بحليفيها السيّئي الذكر، أن “حكومة الاختصاصيين المستقلّين” التي يطالب بها المجتمع الدولي هي مفتاح خريطة الطريق للشروع في معالجة الأزمة. لذلك حرصت على تعطيلها، فنجحت سريعاً في إطاحة اقتراح السفير مصطفى أديب لرئاستها، وعندما كلّف سعد الحريري بعده لتشكيل حكومة بالمعايير المحدّدة دولياً، استهلكت عملية دفعه الى الاعتذار والانسحاب تسعة شهور زاد خلالها الإفلاس العام وتضاعفت الصعوبات أمام أي إصلاح. تضافر “حزب إيران” و”الحزب العوني” على وضع العراقيل للتخلّص من الحكومة والمرشح لرئاستها، إذ كان عليه أن يخضع كلّياً لإرادتهما، وهذا هو المطلوب من أي مرشح آخر. وفي ذلك ما فيه من إمعان في العبث بتمثيل طائفة السُنّة في الحكم، برغم أنها مكوّنٌ أساسيٌ في النظام السياسي، لكن استهدافها من حزبَي المنظومة بات أمراً واقعاً وامتداداً لاستهدافها في سوريا والعراق. وبعد انسحاب الحريري سيكون عسيراً العثور على بديل منه، لا لانعدام البدائل بل لانعدام الجدوى من العمل بشروط منظومة الحليفين.
حتى مطلع السنة الحالية كانت إيران تعطّل أي بداية حلّ في لبنان، في إطار المواجهة مع الإدارة الأميركية السابقة، واستمر “حزب إيران” في التحايل بإظهار التأييد للمبادرة الفرنسية، ولم يسهّلها لأنه لم يتبيّن المكاسب منها. تركت إيران حزبها يماطل في انتظار المفاوضات مع الإدارة الأميركية الجديدة، ولما لاح لها إمكان التوصّل الى اتفاق في فيينا، راح زعيم “الحزب” حسن نصرالله يبدي استعداداً لتسريع ولادة “حكومة الحريري” بل إنه فوّض رئيس المجلس النيابي نبيه بري طرح مبادرة، لكن استرضاء الحليف “العوني” ظلّ أهمّ عند نصرالله من حلّ العقدة الحكومية.
هنا حصل تطوّر خارجي أواخر حزيران (يونيو) الماضي فرض على إيران وحزبها مراجعة حساباتهما، إذ عُقد اجتماع في روما بين وزراء خارجية الولايات المتحدة وفرنسا والسعودية وكان لبنان على جدول الأعمال. لم تبدِ السعودية استعداداً للتخلّي عن سياسة عدم التدخّل التي اتّبعتها في الأعوام الأخيرة، لكنها لم ترفض المساهمة في أي جهد دولي للمساعدة، خصوصاً لدعم الجيش اللبناني. تبع ذلك استقبال السفيرتين الأميركية والفرنسية في الرياض، وتحرّكٌ للسفير السعودي في بيروت تجاه البطريركية المارونية وحزب “القوات اللبنانية”.
سجّلت إيران نتيجتين لاجتماع روما: بداية عودة أميركية الى الملف اللبناني أي الى “ملعبها”، وموافقة سعودية ولو محدودة على دعم الدور الدولي. بموازاة ذلك نشطت مصر أيضاً لمواكبة الجهد الدولي بالتنسيق مع فرنسا، فيما توصّل الاتحاد الأوروبي الى إجماع على فرض عقوبات على السياسيين اللبنانيين المتورّطين بالفساد وعرقلة “حكومة الإصلاحات”. هذه المعطيات دفعت طهران الى فرملة مسرحية المرونة الكاذبة التي كان نصرالله يديرها، وإلى قطع الطريق على أي حكومة لا تكون بإمرة “حزبها”.
لا يبدو المجتمع الدولي قادراً على التأثير في الأزمة اللبنانية، ولا شك بأنه تأخر في تحديد خياراته ورهاناته التي يمكن حصرها في أمرين: أولاً، الحفاظ على الجيش اللبناني وزيادة الاعتماد عليه في إيصال المساعدات الى الشعب. وثانياً، دعم إجراء انتخابات تشريعية في الربيع المقبل أملاً بتغيير في الخريطة السياسية. لكن يجب توقّع ذهاب إيران و”حزبها” وحليفه “العوني” الى أسوأ وسائل التخريب لإزالة أي عقبة أمام سيطرتهم على لبنان.
المصدر: النهار العربي