عادة ما يقال إن الثورة على سلطة أو نظام ما تحمل في طياتها بعض ملامح ذلك النظام، ويصح ذلك أكثر كلما كانت تلك السلطة أشد قمعاً وأشد إغلاقاً على مجموع المواطنين، مما يجعل التجارب التي اطلعوا عليها ضيقة لا تتجاوز نطاق النظام السياسي الذي اعترضوا عليه.
عادة ما يأكل هؤلاء بعضهم في مرحلة الثورة وفي المراحل اللاحقة ويتولد عن الثورة ارتدادات منها وعليها حتى تصل إلى توافق بين كل المواطنين على شكل الدولة التي يريدونها، وحتى اليوم لم يتوفر في التاريخ المعاصر صيغة يتوافق عليها المواطنون وتؤدي إلى سلام مستدام سوى الديمقراطية، تلك الصيغة التي تجنح في كل مرة لحرية أكثر عن طريق فضفضة الحريات الشخصية والدينية بشكل خاص، أي عن طريق علمنة أكثر وتسامح أكثر، مما يتطلب محددات وملامح أوضح لتلك الديمقراطية، لذلك كلما شهد بلد آخر انتقالاً ديمقراطياً كانت تفاصيل الدستور ومحدداته أكثر توضيحاً وأقل عموميةً.
لكن الطبقة السياسية العربية – وبشكل أكثر تحديداً المنطقة التي جرى على تسميتها بلاد الشام والرافدين – تحاول أن تشكل استثناء في سياقات التغيير، فقد قررت تلك الطبقة على ما بينها من خلافات تصل مراحل دموية أن تمتنع عن أكل بعضها – كما يحدث في كل مرحلة تغيير- وأن تتفرغ لأكل باقي المواطنين، العراق ولبنان مثال على ذلك، فالخلافات الدموية بين الفرقاء هناك لا تفسد للسلطة قضية، تبقى الخلافات على ما هي عليه، تبقى الصراعات عنواناً رئيسياً تتقطّعها قفزات من ضفة لأخرى بين الفرقاء، ولكن اتفق الجميع على ما يمكن تسميته بتحييد الشعب عن السلطة أو الإدارة أو صناعة السياسات أو اتخاذ القرارات.
ينطلق السياسيون هناك بلا خجل في المظاهرات التي تخرج ضدهم، ويهتف السياسيون ضد أنفسهم، ويسبون أنفسهم ويحيون الثورة عليهم بمشهدية غريبة سخيفة مضحكة، ولكنها تكلف المواطنين دماءً وبلاداً. في رده على سؤال عن مآل لبنان الأخير لا يخجل الرئيس ميشال عون من التصريح: إلى جهنم. يعتقد أن ذلك نوع من الصراحة والجرأة، ولا يرى فيه ضربا من ضروب قلة الحياء والحس. تلك الجهنم هو وشركاؤه من كامل الطبقة السياسية جهدوا وما زالوا يجهدون بجمع الحطب لها.
بالعودة إلى سوريا يقف المرء حائراً أمام سلوكيات المعارضة السياسية ويسأل نفسه: ضد من خرجتم، لماذا ساندتم إذاً الثورة؟ لو أن الخلاف كان على من في السلطة في سوريا وليس على شكل السلطة لما احتاج الأمر لثورة، هذا ما قررته مثلا بطريقة أو بأخرى هيئة التنسيق “الوطنية” مع انطلاقة الثورة، هم ضد الثورة ولو قالوا غير ذلك. الثورة تأتي لتغيير نظام سياسي بكامله لأنها تنتج بالأصل عن انسداد الأفق حول أي حل يمكن أن يأتي عن طريق الحوار مع النظام. هيئة التنسيق لم ترد الثورة، كانت تريد حواراً مع النظام قد يعطيها جبهة وطنية تقدمية أخرى مع ديكور ليبرالي إن أمكن، شيء يشبه التدرج البطيء بالانتقال الديمقراطي، ولكن عشر سنوات أثبتت خطأ الهيئة، فحتى تلك الجبهة لم تكن متاحة.
الثورة إذاً تهدف لتغيير النظام الذي انتفضت عليه، وليس لإعادة تدوير سلوكياته. في المعارضة تكاد لا تخرج معظم التشكيلات السياسية أو العسكرية عن البنى السلطوية لنظام الأسد وما تولده من سلوكيات في الحقل السياسي والاجتماعي، بل على العكس، وكأن هناك نوعا من التصميم على التزامها.
لا يمكن لتشكيل سياسي ضد نظام ديكتاتوري غير شفاف أن يكون فيه التداول على الإدارة غير شفاف، أعلن أنس العبدة رئيساً لهيئة التفاوض لمرة ثانية، لماذا؟ بمعنى أنه من حقه أن يعلن ذلك، ولكن ما هي النجاحات التي حققها ليستحق الاستمرار، أو ما هي العملية التي بدأ بها والتي تتطلب استمراره في الإدارة؟ لم يخبرنا السيد أنس العبدة “الشخصية الوطنية” حسب تصنيفه في مكونات الائتلاف الوطني، لم يخبرنا لماذا تم انتخابه ثانية، ولم يخبرنا لماذا يعتبر شخصية وطنية؟ ما هي المعايير المتبعة في تلك “المؤسسة الديمقراطية” لاختيار العبدة على أنه شخصية وطنية؟ هل يمكن لأحد أن يعرف لماذا الأسد هو الأنسب للسلطة برأي أعضاء البعث أو أركان نظامه؟ السيد العبدة لا يرى نفسه مضطراً لأن يشرح لنا لماذا يرى نفسه مناسباً للتفاوض عنا، وما هي أسباب ذلك، ولماذا علينا أن نقبل؟ ولا يشرح لنا لماذا يمكن أن يعتبر شخصية وطنية أيضاً؟
بالمقابل تقوم السيدة بسمة قضماني بارتداء الحجاب لدخول مناطق تسيطر عليها الفصائل المعارضة، وتعلل ارتداءها الحجاب بمراعاة المجتمع. تتحدث السيدة قضماني وكأنها ناشطة غربية جاءت لتكتب تقريراً ما، وليست كأنها أحد أبناء هذا المجتمع، وكأن ارتداء الحجاب شرط للانتماء إلى ذلك المجتمع. كان يمكن لهذا الأمر أن يكون عادياً لو لم تكن السيدة قضماني رئيسة الحركة النسوية السورية التي تضع تحرير المرأة ومساواتها في صلب سلوكياتها وقمة تطلعاتها، وأيضاً كان من الممكن فهم ارتدائها الحجاب لو أنها عللت ذلك بسلطة الأمر الواقع. ألم تسأل السيدة قضماني نفسها ماذا ستقول الفتيات والنساء في المناطق التي زارتها عندما يقرأن تعليلها، هل عليهن حسب رأي رئيسة الحركة النسوية السورية أن يراعين المجتمع عند تعرضهن للظلم أو عدم المساواة؟ يتقاطع سلوك السيدة قضماني مع سلوكيات النظام من ناحية استخدامه الدين والعرف والتقليد في بيع وشراء المواقف، تحاول بطريقة ما – بغض النظر عن قصدها – أن تؤيد دولة الاتجاه الواحد. السيدة قضماني لم تكن تراعي المجتمع، بل كانت تعمل على ترسيخ توجه ونمط واحد في الحياة في تلك المناطق.
في أحد بياناته وحول حل قضية المهجرين من القنيطرة الذين تم منعهم من دخول مدينة الباب – وبعيداً عن هذا السلوك الذي يمكن أن يسجل تاريخياً بأنه أحد أكثر السلوكيات اللاأخلاقية في تاريخ سوريا بعد 2011 – صرح الجيش الوطني بأن القضية قد تم تحويلها للقضاء التابع للجيش الوطني. في تلك المنطقة إذاً كل شيء تابع للجيش، تابع للسلاح، تابع للأمن، لا استقلالية القضاء أو إعلام أو موظفي إدارة محلية، الكل تابع “للجيش الوطني”، شبه دولة عسكرية يحكمها شبه جيش بيده شبه عتاد، لكنه كاف لقمع كل ما يمكن له أن يقوض هيمنته.
في مقابلته مع قناة BPS الأميركية يكاد قائد هيئة تحرير الشام الجولاني أن يشكل نسخة عن بشار الأسد في تعامله مع الصحافة الغربية من ناحيتين: الأولى من ناحية تصوره إلى مصدر الشرعية، يحاول – سليل العائلة الليبرالية والقومية على حد قوله – أن يخاطب الرأي العام الأميركي بأنه في فريقهم، فالمعتقلون لدى قواته ليسوا سوى عناصر من “داعش”، تلك الداعش التي تقرب بها كل طواغيت المنطقة للأميركان زلفى. لا يرى الجولاني شرعية حكمه من الله كما صدّع رؤوس السوريين وأحياناً قطعها بحجتها، وليس من الشعب طبعاً، فهو لم يطل علينا بحواراته وحقيقته هكذا إلا عبر قناة أميركية، وإنما الشرعية من الأميركان الذين قد يرضون عنه إن قاتل داعش، أو قبل بلجنة دولية حقوقية أو غيرها من أجل الاطلاع على حقيقة الأمور في مناطق سيطرته و”تصويب الأخطاء إن وجدت”، ذلك النظام العلماني الكافر إذاً يمكنه أن يصحح أخطاء “المجاهدين” إن وجدت. يقودنا هذا للناحية الثانية التي يشبه الأسد بها، فقد جاءت مطالبته بدخول لجنة تحقيق دولية في سياق حديثه عن عدم وجود معتقلات في مناطقه، يكذب تماماً مثلما يكذب الأسد. لا يهتم الجولاني لآلاف الذين يُعذَّبون ويختفون في فروعه الأمنية مثل فرع العقاب وغيره، ولكنه يهتم لأن لا يرى الغرب ذلك.
في مقابلته الأخيرة على قناة سوريا ينتقد الثمانيني هيثم المالح في معرض رده على سؤال حول الناشطة الحقوقية والسياسية رزان زيتونة طريقة لباسها، ويصف تلك الثياب بأنها ليست محتشمة. إذاً كان على رزان زيتونة أن “تراعي المجتمع” كما فعلت السيدة بسمة، رغم أن ذلك المجتمع لم يكن يرى لا في لباسها ولا في لباس زميلتها سميرة أي انتهاك لعرفه أو لتقليده. كانت تعيش بين الأهالي متزوجة أحد أبنائهم ولم يجدوا أي شيء غريب فيما ترتديه. في خطاب المالح ما يوحي بأنها خطفت لقلة احتشام الملابس. لو أن رزان وسميرة لم تلبسا الجينز كان يمكن لجيش الإسلام المتهم بخطفهم مع وائل وناظم أن يتغاضى عن مكتبها الذي يوثق الجرائم والانتهاكات التي تقوم بها فصائله. كان يمكن له أن يتغاضى عن كون المخطوفين الأربعة يشكلون تياراً لا يتفق مع تطلعات قائده حينذاك. لو أنها لم ترتد الجينز لاستطاعت أن تمارس عملها الحقوقي والسياسي، لكنها رفضت ألا تكون على حقيقتها، فخطفها جيش الإسلام. خطفها فقط من أجل بنطلون الجينز. هذا الاتهام المبطن للضحية القائم على مواقف وخلافات سابقة يظهر كم يشبه السيد هيثم المالح محكمة أمن الدولة التي كان ينادي دائماً بإلغائها.
مشكلة تلك المعارضة أنها ليست ضد السلطة، بل قفاها على حد تعبير سعد الله ونوس، قفاها الذي لا تراه ولا تلتقي معه، ولكنه يتحرك كيفما تتحرك، ولا يعيش إلا بها، ولا تعيش إلا به، فهو قفاها.
إن هكذا أشكال وسلوكيات وشخصيات من المعارضة لن تستمر، كما أن النظام لن يستمر، ليس لأننا باعتبارنا ناشطين وسياسيين إلى غير ذلك من الفئات التي شاركت في الثورة ضدهم فحسب، بل لأن العصر ضدهم، لأن التكنولوجيا ضدهم، لأن الحداثة ضدهم. هم ضعفاء، ضعفاء جداً، لكن لا بد للوقت أن يأخذ فرصته.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا