تهيمن “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) وهي الذراع العسكرية لما تسمى “الإدارة الذاتية” على معظم الثروات الباطنية شمال شرقي سوريا، وولّدت سيطرة قوى الأمر الواقع هذه حالة من النهب والسرقة الممنهجة للأموال التي تُنتج عن بيع وتهريب النفط والغاز. وفي داخل “قسد” ومن خلفها “وحدات حماية الشعب” (YPG) المُدارة من قبل قيادات “حزب العمال الكردستاني” (PKK) تشكّلت مجموعة من مافيات المال، التي جنت ثروات طائلة، بدأت مؤخرا بتحويلها إلى دول أوروبية، كما أحدث هذا الواقع حالة من التنافس بين تلك المافيات، ما ساهم في تسريب معلومات ظلّت دفينة لمدة طويلة من الزمن، تكشف الأدوار الحقيقة التي يلعبها “PKK” و”قسد” في سوريا.
في هذا الملف ينشر موقع تلفزيون سوريا معلومات دقيقة حصل عليها من مصادر مقربة من “الإدارة الذاتية” و”قسد” حول خط سير أموال النفط المنهوبة من شمال شرقي سوريا، ومن هي القيادات التي تقف وراء ذلك؟.
حجم ما تهيمن عليه قسد” و”PKK” من النفط والغاز
حتى نفهم بشكل صحيح كيف تشكّلت مافيات المال داخل القوى المسيطرة على قطاعات واسعة من الثروات شمال شرقي سوريا، يجب إيضاح على ماذا تسيطر “قسد” في الحسكة ودير الزور والرقة.
فشمال شرقي سوريا يتخذ موقعاً استراتيجياً لاحتوائه على الاحتياطي النفطي لسوريا، إضافة إلى كونه بوابة وعقدة وصل بين سوريا من جهة وتركيا والعراق من جهة أخرى، ولاحقا ونتيجة لتقاسم مناطق النفوذ من قبل عدة قوى في سوريا، أصبح شمال شرقي سوريا نقطة وصل مع ما يسيطر عليه نظام الأسد من مناطق، حيث باتت ما تسيطر عليه “قسد” ملاذا آمنا للنظام كي يتهرب من العقوبات الأميركية.
وتشكل الاحتياطيات النفطية في سوريا نحو 0.14 على مستوى العالم، وكانت تنتج يومياً ما يقدر بنحو ثلاثمئة ألف برميل قبل بدء الثورة ضد نظام الأسد عام 2011، إلا أن هذا الرقم انخفض لنسب متدنية وصلت لنحو أربعين ألفاً بعد خسارة هذا النظام معظم الحقول النفطية شرقي البلاد لصالح تنظيم “الدولة” حتى عام ،2017 لتنتقل السيطرة إلى “قسد”.
وتتركز معظم الحقول النفطية السورية بالقرب من الحدود مع العراق وتركيا، وتضم محافظة دير الزور أضخم الحقول النفطية بالبلاد، تليها الحسكة. ويعد حقل “العمر” أكبر حقول البلاد وأشهرها ويقع في ريف دير الزور الشرقي. إضافة للآبار والحقول المحيطة به كحقل “العزبة”، وتخضع كلها لسيطرة “قسد”، ويعتبر حقل “التنك” ثاني أكبر الحقول النفطية في دير الزور، يوازيه أهمية حقل “كونيكو” للغاز، وجميعها تحت إشراف قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية.
وفي محافظة الحسكة تسيطر “قسد” على حقل “رميلان” الذي يضم أكثر من 1322 بئراً إضافة لأكثر من 25 بئراً للغاز. وتقع تلك الحقول بمناطق الشدادي والجبسة والهول في ريف الحسكة الجنوبي، بالإضافة للحقول الواقعة بالقرب من منطقة مركدة وتشرين كبيبية في ريف الحسكة الغربي، وإلى جانب النفط يُقدر إنتاج معمل “السويدية” جنوب مدينة رميلان بـ نصف مليون متر مكعب يوميا من الغاز ويتم تعبئة 14 ألف أسطوانة غاز منزلي يوميا.
أما محافظة الرقة فتضم بعض الحقول الصغيرة المتوزعة بريفها الشرقي، وتخضع لسيطرة “قسد”.
مفتاحا الأموال في مناطق “الإدارة الذاتية”.. علي شير وأبو دلو
يُصدّر النفط الذي يقع تحت سيطرة “قسد” لثلاث جهات رئيسية أبرزها نظام الأسد، ومن ثم مناطق سيطرة المعارضة، وجزء منه باتجاه إقليم كردستان العراق.
ويحصل النظام على الحصة الأكبر من النفط حيث يشتريها عبر ميليشيات ووكلاء له ويمر عبر طرق برية ونهرية مختلفة، وقسم منه يتم إرساله إلى لبنان، في حين يتجه القسم الآخر نحو سيطرة المعارضة عبر الطرق البرية، وترسل جزءا منه إلى كردستان العراق ثم تعاد عملية بيعه داخل سوريا.
ووفق تقديرات سابقة في عام 2019، فإن أرباح “قسد” الشهرية من بيع النفط كانت تصل إلى نحو عشرة ملايين دولار، حيث تبيع البرميل الواحد بثلاثين دولاراً، لكن هذا الرقم تضاعف إلى أن فاق الـ 100 مليون شهريا، مع سعي “قسد” لتكثيف إنتاج النفط وخاصة في تشرين الأول 2020، إذ بدأت بحفر وترميم آبار نفط في حقول “رميلان” شرقي القامشلي بهدف زيادة كمية إنتاج النفط الخام، وفق مصادر خاصة لموقع تلفزيون سوريا، حيث شوهدت، حينئذ، صور حفارة آبار نفط عملاقة تعمل بالقرب من محطة “تل عدس” التابعة لحقول شركة النفط في رميلان.
ويشكل المدعو فؤاد محمد (أبو دلو) الذي يشبهونه بـ “رامي مخلوف الإدارة الذاتية” والمدعو علي شير مفتاحا جني الأموال في مناطق “الإدارة الذاتية”، بحسب مصادر مطلعة على خط سير الأموال المتدفقة من ثروات شمال شرقي سوريا.
وتؤكد المصادر أن هذين الرجلين باتا يتحكمان بمصير اقتصاد مناطق الإدارة، وتضيف أن علي شير يمتلك هو وأقاربه في تركيا وأوروبا مئات العقارات وشركات التحويل المالية ومصانع صغيرة، ويحدث كل هذا بمساعدة أبو دلو.
وبحسب هيكلية قيادات “PKK” في سوريا، فإن علي شير يدير الجانب الاقتصادي شمال شرقي سوريا، وهو على تواصل مباشر مع صبري هوك الذي يمثل أكبر شخصية قيادية لـ “PKK” في سوريا.
وتؤكد المصادر أن علي شير تمت إحالته لـ “التحقيق” بعد أزمة رفع أسعار المحروقات التي قابلها سكان مناطق شمال شرقي سوريا باحتجاجات واسعة في أيار الماضي، هذه الأزمة جاءت بسبب خلافات داخلية متراكمة بين قيادات “PKK” و”قسد” أطرافها جميل بايق وصبري هوك وباهوز أردال من جهة ومظلوم عبدي وتياره من جهة أخرى، حيث يحاول الجناح الأول الذي لديه ميول لنظام الأسد وإيران إظهار ضعف وفشل قيادات “قسد” في إدارة ملف النفط.
وعليه تمت التضحية بعلي شير وتحميله ملفات فساد وتعيين شاهوز حسن من الحسكة نيابة عنه، وهو انتصار مؤقت لجناح عبدي وفق المصادر، التي أضافت أن أبو دلو أمّن تحويل أموال تقدّر بنحو 100 مليون دولار على مدار عدة أشهر لصالح علي شير إلى الخارج عن طريق شركات وهمية وشراء معدات، حيث تم التحويل بشكل متقطع إلى أقرباء شير، بعضهم في السويد.
وأدى استفراد شير بكميات كبيرة من الأموال على حساب قيادة “قنديل” إلى سحب البساط منه تدريجيا إلى أن تمت تنحيته، لكن ووفق مصادر متقاطعة فإن شير الذي يسكن في مساكن رميلان من الصعب استجوابه من قبل “قسد” لثقله ونفوذه في “PKK”.
وقنديل منطقة جبلية في شمالي العراق قرب الحدود مع إيران وتركيا، وتمتد بعمق نحو 30 كيلومتراً داخل تركيا، وتعتبر ذات أهمية استراتيجية بالغة، وتعد حصناً رئيسياً وملاذاً آمناً للحركات الكردية التي نشأت في مراحل مختلفة من التاريخ، وتبنت العمل المسلح لإقامة دولة قومية موحدة للأكراد الموزعين بين دول المنطقة (العراق وسوريا وإيران وتركيا).
وترتبط جبال قنديل على وجه الخصوص بالنشاط العسكري لـ “PKK” الذي تقع جل معسكراته ومراكز تدريبه في هذه الجبال، وقد أقام “PKK” بنية تحتية لمقاتليه في هذه الجبال الوعرة، إذ أسس مستشفى خاصا به لمعالجة مقاتليه.
لا يقتصر المال الذي يتدفق إلى “PKK” و”قسد” على النفط، بل تلعب عائدات المعابر دورا رئيسيا في رفد الطرفين بالأموال، ووفق المصادر تُقدر هذه العائدات شهريا بأكثر من 100 مليون دولار، وهذه المعابر هي (سيمالكا، الوليد الترابي غير الشرعي، منبج والطبقة) وهي تدار من شبكة عينتها قيادات “قنديل”، ويعد معبر سيمالكا أبرز تلك المعابر ويديره شخص يطلق عليه “علي شير الصغير” هو مسؤول المعبر ويشرف على صفقات استيراد الأسمنت والحديد والسكر والسماد والطحين وبيعها للتجار المحليين، ومن ثم جمع المال وإرساله إلى “قنديل” حيث تقوم القيادات هناك بتخصيص جزء من المال لتنفيذ مشاريع خاصة بها في سوريا.
ومن بين الأسماء اللامعة في جني الأموال في سوريا مسؤول لجان المشتريات المدعو شكري روج، وهو مكلف أيضا بمهمته من قنديل.
“PKK” تلتهم “الإدارة الذاتية”.. الصراع مع “قسد” على نار هادئة
تقول المصادر إن قائد “قسد” مظلوم عبدي عمل على تحجيم دور بعض كوادر “PKK” عبر فتح ملفات الفساد لهم، ولكن سرعان ما قامت قيادة “قنديل” بربط ملف الفساد بها بشكل مباشر عبر كل من القياديين صبري أوك وباهوز أردال الموجودين في شمال شرقي سوريا، ويتوقع أنهما في قاعدة عسكرية قريبة من القوات الأميركية بدافع حماية أنفسهم من أي هجمات.
وقام هوك وأردال باستخدام ملف مكافحة الفساد في سبيل جمع أكبر قدر ممكن من الأموال من أصحاب رؤوس الأموال والتجار والمسؤولين المدنيين والعسكريين في “الإدارة الذاتية” إلى جانب تقويض سلطة عبدي على هذا الملف وحتى اعتقال بعض المقربين من عبدي ودائرته في “قسد” المنحدرين بغالبيتهم من مدينة عين العرب/كوباني وكذلك تقويض تحركات “مجلس سوريا الديمقراطية” (مسد) الذي يعتبر الذراع السياسية لـ “قسد”.
وأكدت المصادر أن “PKK” عمل على إبعاد إلهام أحمد (رئيسة مشاركة لمسد) من المنطقة وكذلك عزل نسرين عبد الله (من وحدات حماية المرأة) من منصبها.
وتشير معطيات جرت في شمال شرقي سوريا إلى صراع يحدث في الكواليس بين قيادات “PKK” وعبدي، كلما اقترب ظهوره للعلن تتم السيطرة عليه، خاصة وأن عبدي يعتمد على الضغط والمتابعة من قبل القوات الأميركية على “PKK”.
وفي شهر آب الماضي، وصل الخلاف بين عبدي وقيادات “PKK” إلى مراحل متقدمة، وكشفت، حينئذ، مصادر مطلعة أن القيادي البارز في “PKK” جميل بايق وصل إلى مدينة القامشلي، في محاولة منه للضغط على عبدي وإعادته إلى حظيرة “حزب العمال الكردستاني”، مدعوماً من نظام الأسد وإيران.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا