لا تسمح الأنظمة الاستبدادية والشمولية للمواطن فيها بأن يكون غير مبالٍ بها، وبمواقفها، وبخطابها، وسياساتها، وأعمالها، ونشاطها. ينبغي للمواطن فيها أن يفرح لفرحها، وأن يحزن لحزنها، وأن يرقص لرقصها. مشاعره مربوطة فيها، تتحرك وفقًا لإيقاعها ونغماتها. والثورات أيضًا قد تفعل ذلك، تريد من المواطنين كلهم أن يكونوا ثوارًا، وأن يؤمنوا بها، بحلوها ومرّها، بعجرها وبجرها.
أُطلق مصطلح “الحيادين” على أولئك الذين لم يُظهروا أي موقف، إن كان لمصلحة السلطة أو الثورة. وتعرّض الحياديون للنقد الشديد من الجهتين، وأحيانًا للتشهير أو السخرية. ولم تؤخذ أبعاد أو خلفيات مواقفهم في الحسبان، وهي متعدِّدة بعددهم، واحتمالاتها قد تكون لانهائية، وليس كما يحاول بعضهم، من الجهتين، الإشارة إلى أن الانتهازية تشكِّل خلفية أكيدة ووحيدة للموقف الحيادي أو الصامت.
في عام 1955، بعد مؤتمر باندونغ الذي أعلن بناء كتلة محايدة في إثر انقسام العالم بين محوري الشرق والغرب، ظهرت نكتة تقول إن المحايد يشبه ذلك المرء الذي يقف في منتصف الشارع، لا هو على رصيفه الأيمن، ولا رصيفه الأيسر، ولذلك ستدهسه السيارات المارة في الشارع. على الرغم من أن هذه الكتلة المحايدة كان لها دور ما آنذاك، ولو كان بسيطًا، في تخفيف حدّة الاستقطاب العالمي.
البشر أعقد من أن يُحشروا تحت أي تصنيف، وهم متغيِّرون مع الزمن وتطورات الواقع وأحوالهم، ويستحيل تحليل مواقفهم استنادًا إلى بعد واحد أو انطلاقًا من حيث نرى أنفسنا؛ فالناظر الحصيف إلى الآخر ينبغي له ألّا يسجنه في رؤيته التي استغرقته أو غرق فيها، ولا يريد لها تبديلًا. تقتضي الرؤية الديمقراطية الابتعاد من كل رؤية تبسيطية؛ الاستبداد ابن الواحدية والتبسيط، والديمقراطية ابنة التعددية، والتعقيد، والأبعاد المركبة والمفتوحة. إذا كانت نسبية الحقيقة هي جذر الديمقراطية، فإن التعددية، أي التعقيد، هو محتواها.
في أواخر عام 2011، كانت مدينة حلب لمّا تشارك بعد في التظاهرات ضد النظام السوري. ظهر أحدهم على إحدى القنوات الفضائية منفعلًا بشدة، ومستنكرًا عدم خروج أهل حلب في التظاهرات، وقال بما معناه “إن حلب كلها نساء، ولا يوجد فيها رجال”. من حقي كمواطن سوري أن أكون مع الثورة، وألا أكون مع صاحب هذا المنطق الثوري؛ المنطق الانفعالي والنفس القصير، الرأي الذي يُهين حلب وأهلها، الرؤية المهينة والدونية للنساء، التحليل السياسي المعطوب الذي لا يرى إلّا اللحظة الراهنة ويصادر المستقبل.
يريد النظام الشمولي من المواطنين أن يكونوا جنودًا في حالة استنفار دائم، أعصابهم مشدودة، أحلامهم مضبوطة على خطاباتها وحاجاتها. الاسترخاء ممنوع. أليس من حق المواطن أن يكون غير مبالٍ أو غير مكترثٍ لشيء؟! كان الضابط المشرف على دروس التدريب الجامعي العسكري في الجامعة مولعًا بالتفقّد. كان يتفقّد الطلاب اسمًا اسمًا بحسب الأرقام المعطاة لهم سلفًا، ويعدّ الحاضرين، ويسجِّل الغائبين. كان يجري هذه العملية أكثر من عشر مرات خلال الدرس الواحد الذي مدته ساعتان. والويل ثم الويل لنا إذا أخطأ في العدّ أو إذا اكتشف نقصًا في العدد. هذه العملية المتكرِّرة تمنعك من الشرود في ملكوت الله، تُشعرك بالتوتر الدائم، وتضعك في محطة انتظار التفقّد المقبل. البشر بالنسبة إلى الأنظمة العسكرية هم أرقام فحسب، وعليهم أن يكونوا جاهزين دائمًا للاستجابة لمتطلبات السلطات ومزاجها وبهلوانيتها.
هل من الصعب الإيمان بحقّ المواطن في أن يكون غير مبالٍ؟ وبحقّه في ألّا يُدرج تحت أي تصنيف؟ وبحقّه في أن يكون صامتًا عندما يكتشف أو يرى، مثلًا، أن الكلام أصبح بلا قيمة أو معنى، أو عندما يصبح الفضاء العام متخمًا بالضجيج والرؤى التبسيطية والشعبوية؟ هناك من يريد من جميع السوريين أن يكونوا ثوارًا، وفق فهمه الخاص للثورة، تمامًا مثل السلطة الحاكمة التي تريد منهم جميعًا أن يكونوا طبالين وزمارين.
في تفكيرنا السائد، هناك تركيز كبير على الواجبات أكثر كثيرًا من الحقوق. العلاقة بين الحق والواجب علاقة معقدة ومركبة، والتداخل بين الحق والواجب يكاد يكون مسيطرًا. كثيرٌ من حقوق المواطن هي واجبات، وكثيرٌ من واجباته هي حقوق؛ مشاركة المواطن في الحياة السياسية مثلًا هي حق وواجب. من حيث المبدأ: نيل الحقوق ليس مرهونًا بأداء الواجب؛ مثلًا، الأطفال مواطنون، لديهم حقوق على الدولة، وليس لديهم التزامات تجاهها، أي أن المواطنة ليست مرهونة بالرشد القانوني اللازم للمشاركة في الحياة السياسية. لماذا نذكر هذا؟ لأن السلطات الاستبدادية تضع “واجبات المواطن” أولوية، وبالطبع وفق فهمها ومصلحتها، وتجعل منها سيفًا مسلطًا على رقابهم، ليصبح من واجب المواطن أن يحلف باسمها، وأن يواليها، في مقابل ليس الحصول على حقوق المواطنة، بل على أبسط الحقوق الإنسانية.
في الأنظمة والمجتمعات الاستبدادية، يشيع تعبير “المواطن الصالح” أو “المواطن الوطني”، وغيرها. هل من قيمة حقًا لمفهوم المواطن الصالح، ما معنى الصالح؟ ومن يحدِّد هذا المعنى؟ في الحقيقة، لا تحتاج كلمة المواطن إلى أي صفة أخلاقية بعدها. الصفة الأخلاقية تعني قتل جوهر المواطنة، وكل تصنيف للمواطنين هو قتل لهم بطريقة أو أخرى.
في أحيان كثيرة، تُحمّل “المواطنة” صفات أخلاقية ووجدانية وروحانيات إلى درجة تخنق المواطن والمواطنة. وهذه الصفات ذات طبيعة ذاتية مرسومة وفق مقاسات وأخلاقيات المتحدِّث. لا علاقة للمواطنة بصدق أو كذب المواطن، ولا بأخلاقه، ولا بمشاعره؛ أنت مثلًا، مواطن ألماني سوري الأصل، لا أحد يفرض عليك أن تحبّ ألمانيا، أو توالي سلطتها، لكن عليك التزام قانونها، فالمواطنة علاقة قانونية بين الفرد والدولة، تضمن حقوقه من جهة، والتزامه قانون الدولة من جهة أخرى. وليس من واجب على المواطن سوى التزامه قانونَ الدولة والتقيد به، القانون الذي شارك هو نفسه في صناعته، بطريقة أو أخرى، في ظل نظام ديمقراطي.
المواطنة، بموجب القانون الدولي، هي المصطلح المرادف لمصطلح الجنسيّة، وهي أقوى علاقة قانونية بين الفرد والدولة، والبوابة لضمان حقوقه الأخرى في الدولة، وللمواطنة معانٍ إضافية حكمًا بموجب القانون الوطني في الدولة المعنية. ينبني مفهوم المواطنة على حقوق الإنسان، وهذه الأخيرة مجموعة من الحقوق المتأصِّلة في جميع البشر، بشكلٍ متساوٍ من دون تمييز أو تحيُّز، بصرف النظر عن جنسيّتهم، ولونهم، وجنسهم، وأصلهم العرقي، وطبقتهم الاجتماعية، وديانتهم، ومذهبهم، ولغتهم… إلخ. أما المواطنة فهي تنظِّم العلاقة بين الفرد والدولة في إطار محدَّد من الحقوق والواجبات. تهتم حقوق الإنسان بالفرد بوصفه إنسانًا، أما المواطنة فتهتم به بوصفه مواطنًا يحمل جنسية دولة بعينها وأحد أعضاء جماعتها الوطنية أو السياسية.
المواطنة إذًا علاقة مركبة مركزها الفرد، من حيث كونه عضوًا في الجماعة الوطنية، وفي الدولة الوطنية، وتتحدّد العلاقة استنادًا إلى نظام واضح من الحقوق والواجبات؛ نظام يكون فيه للمواطن حقوق على الدولة، وواجبات أو التزامات تجاهها، ما يعني أن حقوق المواطنين هي واجبات على الدولة، وحقوق الدولة هي واجبات على المواطنين. أما واجبات المواطن فتنحصر في دفع الضرائب للدولة، والتزام قوانينها، وهذه الواجبات لا تغدو منطقية ومقبولة إلا في نظام ديمقراطي يصون حقوق المواطنين، بشكل متساوٍ وبلا تمييز. فعليًا، لا تتحقق المواطنة إلا في الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة.
المصدر: المدن