بعد أكثر من عام بقليل على توليه المنصب، يواجه رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، تحدّيات كبرى، تترتب عليها قرارات سوف تحدّد مستقبله، ومستقبل البلد الذي يحكمه. فإما أن يذكره التاريخ باعتباره الرجل الذي أعاد العراق إلى شعبه ودوره وأمته، وإما أن تضيع الفرصة، ويتحوّل العراق إلى دولة فاشلة، فاقدة للسيادة، تحكمها مليشيات وأمراء حرب يتلقون أوامرهم من وراء الحدود.
مع وصوله إلى الحكم، توسم كثيرون خيراً في الكاظمي باعتباره شخصية مستقلة قريبة من تيار وطني عراقي صاعد هدفه استعادة الدولة، والحدّ من الاختراق الأجنبي (الإيراني) لها، وإبعاد البلاد عن ساحة الصراع الإقليمي والدولي، خصوصاً أنّه جاء إلى موقع السلطة الأول في العراق، من منصبه رئيساً لجهاز الاستخبارات، في ذروة الكباش الإيراني الأميركي، بعد مقتل قاسم سليماني في مطار بغداد، وبعد الفشل الذريع الذي سجله سلفه، عادل عبد المهدي، والذي أطاحت انتفاضة أكتوبر/ تشرين الأول 2019 حكومته، الأضعف والأسوأ التي عرفها العراق منذ الغزو الأميركي عام 2003.
مع ذلك، وعلى الرغم من الآمال التي عُلّقت على الكاظمي لجهة حماية الحركة الاحتجاجية، ومحاسبة المسؤولين عن قتل شبابها، واستعادة هيبة الدولة والحد من تغوّل المليشيات عليها، ومحاربة الفساد المريع والنهوض بالاقتصاد، إلاّ أنّ أحداً لم يملك أوهاماً حول صعوبة المهمة التي يواجهها الرجل، فالمليشيات وأمراء الحرب وزعماء الأحزاب والمافيات والقوى السياسية والطائفية اقتسمت الدولة وكأنّها غنيمة، وتغولت في مؤسساتها، وأحكمت السيطرة على مقدراتها بحيث صار من الصعب اقتلاعها، أو كف يدها عن قصعة الذهب التي تغرف منها. ليس هذا فحسب، بل باتت هذه القوى جزءاً من شبكة فساد عابرة للحدود والمذاهب والقوميات، تتغذّى من بعضها، بحيث يستطيع المرء أن يسمع صدى حشرجتها يتردد من طهران إلى بيروت مروراً ببغداد ودمشق. الكاظمي، إذاً، لا يواجه قوى محلية عراقية فحسب، بل محور فساد كاملاً، يمتد عبر الإقليم، وينتعش بتقدم مشروعه القائم على تقويض الدولة كفكرة وثقافة ومؤسسة. فوق صعوبة المهمة، لا ينتمي الكاظمي إلى أيّ كتلة سياسية كبيرة في البرلمان، يمكن أن يركن إلى دعمها، فالرجل جاء من خارج التيارات والأحزاب والقوى السياسية، ونتيجة لتوافقها، بعدما عجز كلّ منها عن فرض مرشحه. وهذا يضعف الكاظمي، بحسب بعضهم، ويجعل أجندته رهينة الكتل الرئيسة في البرلمان.
لكن، ومع إقرارنا بالصعوبات والتحدّيات التي يواجهها، يمتلك الكاظمي أوراق قوة مهمة يستطيع، إذا اختار اللجوء إليها، قلب موازين القوى كلياً لمصلحته. لكنّ هذا الأمر يحتاج إلى التحلي بالجرأة والشجاعة والتخلي عن الحذر والتردد وسياسة “خطوة للأمام خطوتين إلى الخلف” التي يتبعها منذ تسلمه الحكم، لأنّ هذا يضعف الثقة به، ويدفع المراهنين عليه إلى الانفضاض من حوله وإدارة الظهر له. على الكاظمي أن يستقوي بالشعب للتحرر من قبضة القوى والأحزاب السياسية التي باتت تحتاجه أكثر من حاجته لها، وقد انتفض الشارع عليها وأدرك فسادها وتبعيتها وحجم الخراب الذي ألحقته بالبلاد على مدى عقدين، وتمثل الانتخابات المقبلة فرصة يجب اغتنامها لتغيير المشهد السياسي العام من خلال تأمين إجرائها وفق أفضل معايير النزاهة والشفافية، وعقد التحالفات وتنظيم الصفوف بما يُمكّن القوى الوطنية والشبابية الصاعدة من إمساك البرلمان المقبل. فوق ذلك، على الكاظمي أن يأخذ قراراً جريئاً بإنهاء ازدواجية السلطة والسلاح وتهيئة الظروف لحلّ هيئة الحشد الشعبي وإلحاق منتسبيها بأجهزة الدولة العسكرية والمدنية، حتى لو أدى ذلك الى صدام مباشر، فبعض الألم ضروري أحياناً لإنقاذ البلد. على الكاظمي أن يمد يده إلى بقية مكونات الشعب العراقي، وأن يستقوي بالجميع من أجل استعادة العراق، خصوصاً منهم السنّة، الذين دفعوا الثمن مرتين، عندما تم حسابهم على النظام السابق ثم على تنظيم الدولة. وعلى هؤلاء، بدورهم، إنتاج قيادات جديدة بدل تلك التي باتت جزءاً من نظام الفساد، ودعم المحافظات الجنوبية في حراكها السلمي لاستعادة العراق وطناً موحداً قوياً للجميع، بدل إضعافه بالدعوة إلى عناوين طائفية، من قبيل إنشاء إقليم سني، لم تعد مقبولة بعد ثورة تشرين الأول 2019. الكاظمي اليوم أمام خيار إما أن يستسلم ويمضي كما مضى غيره، أو أن يُقدِم ويكرّس نفسه زعيماً وطنياً لعراق سيّد مستقل.
المصدر: العربي الجديد