أرادت السلطة من محطة “الانتخابات” أن تعطي انطباعًا بطيّ صفحة السنوات العشر الماضية، وأن تمثِّل إعلانًا عن مرحلة جديدة أساسها “انتصاره” على “المؤامرة الكونية”، ولتؤدي دورًا في تثبيت فشل معارضي النظام من الأصناف جميعها، وكسر إرادتهم وتيئيسهم، ودورًا آخر في قهر الذين تجرؤوا عليه، فضلًا عن محاصرة الواقعين تحت سيطرته المباشرة، وتدجينهم وإعادة قولبتهم، وتحفيز مواليه على العمل، وإعطائهم أملًا بتغيّر الأوضاع نحو الأحسن. يؤمن النظام بأن “نصره” سيعيد قولبة كل شيء، حتى التاريخ ستُعاد قراءته بما يتوافق مع رؤية المنتصر. إعلان النصر هذا قد يساهم في تغيير رأي بعض من كانوا ضده أو إحباط بعضهم. يريد أن يقول، في اختصار، تعايشوا مع حقيقة وجودي واستمراري.
بعد الإعلان عن النتائج الرقمية لـ “الانتخابات”، تناولها كثيرون بالتحليل والنقاش بهدف إثبات لامنطقيّتها. في الحقيقة، إن المقاربة الرقمية لنتائج “الانتخابات” هي مقاربة بسيطة وساذجة، وتشبه المناقشات المستفيضة للمعارضة السورية بالردّ على إعلام السلطة عندما قال إن أهل الميدان خرجوا من أجل شكر ربهم على نعمة المطر وليس من أجل التظاهر ضد النظام. النظام يعرف أنه كاذب، ويعرف أن مواليه يعرفون أنه كاذب بقدر ما يعرف معارضوه، والدول الداعمة له أو المعترضة عليه تعرف كلها أنه كاذب، وهو يعرف أيضًا أنها تعرف كذبه. نحن في حفلة عامة من الكذب، يدركها الجميع، ويشارك فيها الجميع. من العبث مناقشة ما يصدر من النظام من باب إثبات كذبه ولامنطقيّته.
لا يهتم النظام أبدًا بأن تصدِّقه، بل على العكس؛ هو يتلذّذ، ويضحك ساخرًا، عندما يراك مستغرقًا أو منهمكًا في إثبات كذبه ولامنطقيّته. يريد أن يقول لمعارضيه: موتوا بغيظكم، إنني موجود ومستمر رغمًا عنكم، ورغم أنف منطقيّتكم. ولمواليه: أريد أن أكتشف فعليًا أنكم مقتنعون بي، وأنكم لا تكترثون لكذبي، بل أنكم تؤمنون إيمانًا عميقًا ونهائيًا بكذبي الفاضح، وتدافعون عنه. عندما تكذب السلطة بوضوح شديد، ويُضطر البشر إلى التظاهر بتصديقها، سينظرون إلى أنفسهم بدونية ويحتقرونها، وهذه غاية كل سلطة مستبدة؛ كلما زاد احتقار البشر لأنفسهم زادت نظرتهم تعظيمًا للسلطة. أيها المواطن يجب عليك أن تنظر إلى نفسك بدونية. يسمع كثير من الجامعيين في التدريب العسكري الجامعي هذه العبارة: “يا حضرة الطالب الحقير.. اعتز بنفسك”.
هذه اللامنطقيّة، وهذا الكذب العاري، ليسا نتيجة غباء أو عجز أبدًا. لو أراد النظام، بمساعدة أساتذة جامعاته واقتصادييه وإعلامييه، أن يقدم لك نتائج منطقية من دون أن تختلف نتيجة “الانتخابات”، لاستطاع ذلك من دون جهد أو تكلفة، لكنه فعليًا لا يريد. لم يسعَ النظام أبدًا، طوال حكمه، لأن يضع نفسه تحت خانة النقاش المنطقي أصلًا. إنه لا يسمح لك بأن تناقشه منطقيًا أو أن يكون محطَّ نقاش منطقي. لا يريد لعلاقتك به أن تكون منطقية مطلقًا. يريدك أن تؤمن به إلهًا فوق العقل والمنطق، والأرقام، والقانون، والزمن. يريد لعلاقتك به أن تكون خرافية، مبنية على القداسة، على الإيمان من دون تفكير. إذا فكرت للحظة سيبدأ مشوار نهاية النظام، ولذلك إذا فكرت سيقتلك أو ينفيك أو يسجنك أو يخفيك.
يسأل بعضهم: لماذا شارك السوريون في “الانتخابات” بصورة أكثر من ذي قبل؟ كيف لبعض البشر أن يناصر من أهدر حرياتهم، واستباحهم، اعتقالًا وتعذيبًا وترويعًا. وكثيرًا ما يجري اتهام المشاركين، على طريقة السلطة ذاتها، بتلقي مبالغ مادية مقابل أفعالهم. المصالح والمنافع المتبادلة واردة لكنها تبقى في نطاق ضيق، ولا تفسِّر الظاهرة. التفسير الأخلاقي للظاهرة قاصر ومضلِّل أيضًا، وهو تفسير بسيط وسطحي لظاهرة معقدة يتفاعل فيها السياسي والاقتصادي والنفسي… إلخ. التفسير الأخلاقي لا يصلح إلا في حالات ضيقة ومحدّدة. ربما كان السؤال الصحيح هو: لماذا أراد النظام إظهار السوريين وكأنهم شاركوا بفاعلية أكثر كثيرًا من ذي قبل؟
على العموم، ينبغي الانتباه إلى أن كثيرًا من السوريين، اليوم، يبحث عن نهاية ما لعقد كارثي، أو في الأحرى عن بداية لحياة تتوافر فيها مقومات الحياة الأساسية، ولا يهم إن كانت مع الشيطان. هذا قانون حركة البشر والتاريخ، ولا تجوز مقاربة المسألة هذه أيضًا استنادًا إلى معايير أخلاقية أو دينية أو معتقدية. هناك حالة عامة من الخوف الشديد تدفع البشر إلى البحث عن خلاص ما، عن تغيير ما، عن أمل ما، خاصة في ظل الشعور بالخذلان من “المعارضات” و”الهيئات الثورية”، ومن الدول العربية والإقليمية، ومن أوروبا وأميركا، ومن الأمم المتحدة، والعالم كله. والبشر، عمومًا، يميلون إلى الانجذاب إلى المناطق التي يتوافر فيها حدّ أدنى من المؤسسات، حتى لو كانت ضعيفة أو عاجزة. يرغب البشر بوجود مشافٍ ومستوصفات ومدارس ومؤسسة مياه وشركة كهرباء وجامعات ومصارف وجهاز شرطة وهيئة قضائية وغيرها، لأن هذا كله يشعرهم بقدرٍ ما من الاستقرار والأمان.
تعتمد عملية إخضاع السلطة للآخر، البشر، بحسب ما يرى مصطفى حجازي، على ركيزتين متعاضدتين؛ سموّ قدر المتسلط، وانحطاط شأن المقهور. ولكي تستمر عملية الإخضاع، فإنها تحتاج دائمًا إلى ما يُغذِّي نرجسية السيّد، وهذه تحصل عبر المزيد من ممارسة العنف والتعسّف، مثلما تحتاج إلى الإمعان في إهانة الخاضع/المقهور واحتقاره. لنصبح أمام عالم ثنائي يُمثِّل فيه الأول صورة الإله، والثاني صورة النموذج الأدنى من البشر. أي يبدو المقهور في مرتبة أدنى تجعل التعاطف معه شيئًا أقرب إلى الخبل أو البلاهة، ومن ثم يبقى قهره دائمًا سلوكًا مقبولًا ومرحّبًا به. كانت “الانتخابات” وسيلة من وسائل تغذية نرجسية “السيد” من جهة، وأداةً لاحتقار الخاضعين والمقهورين من جهة أخرى. تراهن السلطات القمعية دائمًا على تأقلم المقهور مع احتقار السلطة له، ومن ثم تكيّفه مع احتقاره لنفسه، ما يدفعه إلى التعظيم من شأن المتسلِّط، والنظر إليه بوصفه كائنًا خارقًا له مطلق الحق بالسيادة، والتمتع بالامتيازات كافة.
ازدراء البشر ركيزة من ركائز العقيدة الفعلية للسلطة، ليس لمعارضيها فحسب، بل لمواليها أيضًا، إلى جانب رغبتها الشديدة في إيلام البشر وقهرهم. لذتها القصوى هي في قهرك، وأن تشعر أنك صغير الحجم جدًا، وضئيل القيمة جدًا. أنك لا شيء، وأنك صفر. إدلاء رأس النظام بصوته في مدينة دوما كان رسالة مزدوجة؛ أولًا يريد أن يقول إن هذا الشعب لا يُحكم إلا بالقتل، وثانيًا: لا أريدك أن تصدق أن أهل دوما معي، بل أريد أن أقهرك وأقهر أهل دوما. نظام مغرم بالجكارة والنكاية.
هناك أيضًا شيء يسمونه “التوحد مع المعتدي”؛ تعاطف المقهور مع القاهر. وهي ظاهرة فيها الكثير من المشاعر المتناقضة، المقهور معجب بالقاهر، يتضامن معه، يدافع عنه، يبرِّر له، ينضمّ إلى نشاطه وسلوكه. هذا التوحد مع سلوك المعتدي عملية دفاعية لا شعورية تهدف إلى حماية الذات من الأذى والبطش والتفكك، يتحول فيها المرء من السلبية أو الحيادية إلى الفاعلية والمشاركة في المنظومة المسيطرة للتقليل من الشعور بالقلق أو للتخفيف من الشعور بالانسحاق المريع للذات.
لا تكتفي السلطة القمعية بالتعبيرات الكلامية فحسب لإثبات الولاء لها. تريد تعبيرات جسدية تؤكِّد الولاء؛ حركات دالة، الرقص، الدبكة، الصراخ. تريدك أن ترقص؛ عندما ترقص ستخفّ حمولة العقل أو تطير، وهكذا ستقترب منها، وتصل إلى قلبها، على هيئة ما يفعل الصوفي تقربًا من الله. لكن ليس كل الرقص يأتي بإرغام السلطة وطلبها. بعض الرقص صادق، وبعضه منافق، وبعضه يأتي بحكم الهبل أو التفاهة، وبعضه بحكم العادة، وبعضه تحرِّكه هيستيريا الواقع، وبعضه بحكم الحاجة إلى الفرح، وبعضه لا عنوان له، وبعضه يكون تعبيرًا عن الألم؛ عندما يُذبح الديك يقوم بحركات غريبة، ومن يراه من بعيد يظنه يرقص، وهو في الواقع يقاوم الألم ويصارع الموت.
ما الذي سيحدث بعد “الانتخابات” على مستوى السياسة الداخلية؟ يُظهر تاريخ النظام السوري، وعقليّته، أنه لا يغيِّر سياساته الداخلية تحت الضغط، ولا يغيِّر إذا كان تغييره سيُفسَّر ضعفًا. وهو الآن بين خيارين أو احتمالين، إما أن يزيد من سياساته القمعية والفاشية أو أن يحدث تغييرات طفيفة أو إصلاحات محدودة لا تؤثر في استمراره وبقائه، وتعطي الإيهام ببداية جديدة. لسان حاله يقول: نحن نغيِّر التسميات ولا نغيِّر النهج؛ قانون الطوارئ كان أرحم من قانون مكافحة الإرهاب، وعملية الاستفتاء كانت أقل وطأة من “الانتخابات”.
الاحتمال الأول أكثر أرجحية، لأن النظام يفتقد، هذه المرة، إلى القدرة الذاتية على إجراء تغييرات محسوسة، لأسباب سياسية واقتصادية وقانونية وجغرافية وإقليمية ودولية، أو بشكل أدق لن يستطيع التغيير كثيرًا في مسارات الواقع، فهو وإن كان قد خرج منتصرًا، بحسب ما يدعي، وبحسب فهمه للانتصار، وعلى الرغم من كونه الطرف الأقوى في المعادلات الداخلية، إلا أنه خرج عاجزًا ومنهك القوى، ولا يستطيع أن يكون حرّ الإرادة فعليًا إلا في ممارسة القهر.
هنا نستطيع أن نفسِّر الحالة العصابية لخطاب النصر؛ كلما ازداد الخواء والعجز ازداد الصراخ والتطرف. في النهاية، تبدو احتمالات المستقبل مشابهة لما نجده في بلاد أخرى متأخرة؛ إما دولة فاشية تمعن في قهر المواطن، أو حرب داخلية دائمة لا ينتج عنها إلا مزيد من الدمار والتشظي. لا توجد معادلة لم يستثمر فيها النظام طوال السنوات الماضية. معادلته الرئيسة كانت إما أنا أو الفوضى، إما أنا أو حرق البلد. وفي السياق استخدم معادلات كثيرة مكملة؛ إما القبول بي أو النفي، إما التسليم أو الحصار، والخبز مقابل الولاء. إنه نظام العدمية؛ إما أن تموت أو تستمر في العيش بوصفك “لا شيء”.
ما زالت سورية غير مستقرة، وما زالت احتمالات خروجها من الفشل ضئيلة جدًا، وما زال السوريون يتحركون على أرض رملية، ولا يبدو أن شيئًا قد حُسم بصورة نهائية. في ساحة “المعارضات الرسمية”، وفي ساحة “الهيئات الثورية”، فضلًا عن “الجماعات المسلحة” كلها، هناك مهازل أخرى أيضًا، يكاد بعضها أن يكون مستنسخًا من المهزلة الكبرى، استبدادًا، وعقائدية، وتبعية، وتفاهة. الجماعات المعارضة في الأنظمة الشمولية لا تختلف كثيرًا عن الأنظمة الحاكمة من حيث خطابها وأدائها وطرائق تفكيرها. يبدو أن الأمل لن يتفتح إلا بولادة نخب ثقافية وسياسية ومدنية جديدة تتجاوز فعلًا الثقافة الديكتاتورية، وهذه تحتاج إلى جهد عظيم، ووقت طويل، في ظل هذا الفيلم السوري الطويل.
المصدر: المدن