في استفتاء الرئاسة عام ١٩٨٤ لو قدر لي أن أشارك ربما كنت سأكتب “نعم” بحماس وقناعة، حيث كنت وجيلي كله تحت تأثير الآلة الديمغوجية الجبارة التي كانت تضخ ليل نهار مفرزتها فوق رؤوسنا من الإذاعة والتلفزيون والصحف والمجلات “أسامة” والمدرسة ونشاطات الطلائع الإجبارية ثم الشبيبة.. حتى الكتب المدرسية ولائحة الدرجات “الجلاء” كانت تحمل صورة “الأب القائد” الذي جعلته أكثر من رئيس وأقل من إله!!
لكن لحسن الحظ أنني كنت وقتها تحت السن القانوني ولم يكن يحق لي المشاركة، ولكن خلال سبع سنوات التي تفتح فيها وعينا وفي الاستفتاء الثالث في كانون أول ١٩٩١ كنت في السنة الثالثة من كلية الهندسة المدنية في جامعة دمشق. راودتني نفسي أن أشارك لأكتب “لا” بالبونط العريض. لكني عندما فكرت في الأمر مليًا اقتنعت بأن ذلك بلا جدوى وأن النظام غير مهتم بماذا تضع في الصندوق لأن النتائج مسجلة سلفًا ٩٩.٩٩ بالمائة.
ولكنه مهتم بإجبار الجميع على المشاركة لتلويثهم.. لذلك قررت المقاطعة، رغم الحملة الاعلانية الرهيبة من التخويف بأن من لا يشارك في الاستفتاء سيحرم من دخول الجامعة أو سيحرم من دخول الامتحانات.. هذا غير التهديدات الأمنية.
وقد رأيت بعيني كيف كان يتم حشر طلاب كلية الهندسة كالخراف في الباصات “البرتقالية” وقتها لسوقهم الى مراكز الاستفتاء في كلية الحقوق أو كلية الآداب حيث لم يكن هناك مركز في كلية الهندسة.
مع ذلك لم أعدم وسيلة للتملص وأن أنقذ بطاقة هويتي من ثقب العار الذي كان متبعًا عند الإدلاء.
وفي الاستفتاء الرابع في شباط ١٩٩٩ كان قراري محسومًا بالمقاطعة.. وكانت قناعتي أن الرجل ميت لكنه مصر على حكمنا من القبر.
عندها كنت موظفًا في الادارة المحلية وأيضًا كان هناك حملة ضخمة من التخويف والتهديد بالفصل من الوظيفة والاعتقال.. وكان هناك حصار مطبق من كل الجهات لدفعنا للمشاركة ولكنني استطعت التملص أيضًا رغم أن مركز الاستفتاء كان في مقر عملي. ونجت أيضًا بطاقة هويتي من ختم العار. بعد أشهر قليلة في أواسط عام ٢٠٠٠ تمت محاولة سوقنا مرة أخرى للمشاركة في استفتاء الابن الوريث.
وهذه المرة تم استخدام الترهيب بنفس الوسائل القديمة مع حملة ترغيب بمحاولة الإيحاء بأن هناك تغيير وإصلاح.. ولكني لم أقتنع بأي منها ولم أشارك في تلك المهزلة التي استمرت بنفس الطرق القديمة تمامًا من دبكات وحلقات رقص ومسيرات ولافتات.. و كأن رسالتها المشفرة بأن لا شيء سوف يتغيير.. وهذا ما كان.
في استفتائي ٢٠٠٧ قبل الثورة و ٢٠١٤ بعد الثورة كنت خارج سورية ولم أفكر مجرد لحظة تفكير أن أشارك حتى لقول “لا” مستحقة بجدارة. وأحمد الله أنني حتى هذا التاريخ لم تتلوث أصابعي بالحبر أو الدم. ولم تمهر مؤخرتي بأي ختم.