التحدي الأكبر يكمن في غياب الثقة ما يدفع إلى البحث عن نقاط جديدة حاسمة يمكن لكبار القادة التلاقي حولها بسهولة. فيما أخذت وطأة جائحة كورونا تخفّ في أوروبا وأميركا الشمالية، يبدو العالم كأنه يتجهز للعودة إلى الصراعات الجيوسياسية التي شهدها في الأعوام الأخيرة.
ومنذ حوالى عقدين من الزمن، بدت القوى العظمى كأنها في مسار تصادمي مع بعضها بعضاً، إذ انسحبت الولايات المتحدة من “معاهدة الصواريخ المضادة للباليستية” الموقعة في 2002، وأيضاً من “معاهدة القوى النووية متوسطة المدى” التي أُبرمت في 2019، متذرعة بانتهاكات ارتكبتها روسيا في الحالتين، واعتبرتها واشنطن أنها تبرر الانسحاب. وكذلك علّقت روسيا عضويتها في “معاهدة القوات التقليدية في أوروبا” في 2007، ثم تخلّت عنها لاحقاً بصورة كاملة في 2015. وغزت موسكو أوكرانيا في 2014، وحذت حذو واشنطن في شجبها لـ”معاهدة الأجواء المفتوحة”.
وبصورة مطّردة، تُخصّص القوى العظمى الثلاث، الولايات المتحدة وروسيا والصين، أموالاً متزايدة للأغراض العسكرية. وتنامت موازناتها الدفاعية بالأسعار الثابتة للدولار بحوالى 1.6 (أميركا) و2.6 (روسيا) وخمس مرات (الصين) منذ 2001.
ويدخل سباق التسلح ميدان الفضاء الخارجي من جديد. فطُوّرت أنظمة صواريخ تفوق سرعة الصوت، فيما أصبح الأسطول الصيني الأقوى في قارة آسيا. وتدعم موسكو وبكين أنظمة تتعامل معها بوصفها زبائن لها، ويمتد ذلك من الدويلات غير المعترف بها في إقليم دونباس (بأوكرانيا) وأبخازيا إلى فنزويلا، ومن باكستان إلى ميانمار. وحدث تراجع في التقدّم الذي أُحرز على صعيد التحول الديمقراطي، وجاءت التراجعات اللافتة أكثر من غيرها في بيلاروس وهونغ كونغ. وكذلك طالبت كل من روسيا والصين على نحو جريء، بأراضٍ مجاورة لها في أوروبا الشرقية وبحر الصين الجنوبي.
في صورة مجملة، يتمثّل التحدي الأكبر الذي يواجهه العالم في النقص الشديد بالثقة، إذ تتصرف كل القوى العظمى بطرق مفاجئة لا يمكن التكهن بها، فيما يعتقد الجميع أن الآخرين يتآمرون ضدهم. وثمة قليل من الضمانات التي تؤخذ على محمل الجد، وستصبح السياسة العالمية إقليمية الطابع، إذ يتحدث القادة بصورة حصرية تقريباً إلى أصدقائهم المحليين.
وفي هذه الأيام، يبدو العالم شبيهاً بحاله في أعوام الحرب الباردة حين دأب الزعماء الغربيون والشيوعيون على الاجتماع والتعاون بشكل مكثف، فيما كانت اجتماعات القمة بين الشرق والغرب نادرة الحدوث.
ولبضعة أشهر، اعتقد عدد من الخبراء أن ذلك كله قد يتغير، ربما بصورة محدودة، في الأقل. وبعد انتقاله إلى البيت الأبيض مباشرة تقريباً، قرر الرئيس جو بايدن تمديد “المعاهدة الجديدة للحدّ من الأسلحة الاستراتيجية الأميركية – الروسية” لعام 2010، التي وقّعها الرئيس باراك أوباما مع دميتري ميدفيديف نظيره الروسي وقتذاك، بوصفها اتفاقية نافذة تستمر خمسة أعوام.
وبعد تراشق بالعبارات القاسية مع الرئيس فلاديمير بوتين، أعرب بايدن عن رغبته بـ”خفض التصعيد” في العلاقات مع روسيا، لكنه أخذ الآن يحضّر لعقد القمة الأولى بين الزعيمين الأميركي والروسي منذ 2018. ومن المتوقع أن يلتقي الرئيسان في أوائل فصل الصيف المقبل في مكان ما في القارة الأوروبية، ومن المفترض أن يحدث ذلك بعد قمة مجموعة الدول الصناعية السبع المقبلة في كورنوال في جنوب غربي بريطانيا المزمع عقدها في منتصف شهر حزيران (يونيو) المقبل، بيد أن المكان الذي سيجتمعان فيه لم يُعلن عنه بدقّة حتى الآن.
وربما يجتمع زعماء بلدان “مجموعة الدول الصناعية السبع” (جي 7 G7) مع عدد من زعماء دول منطقة آسيا- المحيط الهادي، بمن فيهم رئيس كوريا الجنوبية ورئيسَي وزراء الهند وأستراليا. ليس هناك شك في أن زعماء مجموعة الدول الصناعية السبع يشعرون بالقلق من التطورات في الصين، وكذلك سيجري التداول أيضاً بشأن سحب القوات الأميركية المقترح من أفغانستان. وربما ينتقل مركز الجدال على المستوى الجيوسياسي إلى الشرق في الأعوام المقبلة. وكلما سارع الجدال في الانتقال إلى ذلك الاتجاه يكون ذلك أفضل بشكل رمزي، باعتبار أن تحوّلاً كهذا من شأنه أن يُحدث توازناً بين مصالح وطموحات القوى العظمى كلها.
في المقابل، يبدو أن الكرملين يبحث في هذه الأيام عن موقع “محايد” إلى حد ما، بشكل يكون مناسباً لكل من الأميركيين والروس. ومن أجل خرق العادة التي درجت عليها قمم الشرق والغرب خلال “الحرب الباردة”، إذ جرت العادة آنذاك على عقدها في جنيف وفيينا وهلسنكي، ربما يكون من المناسب إحداث تبدّل في تلك الجغرافيا التي ساد الاهتمام بها في سائر القمم الأميركية– الروسية آنذاك. وفي ذلك الصدد، تمثّل مدينة نور سلطان (آستانا سابقاً) عاصمة كازاخستان، أحد أكثر الأماكن رمزية لجهة الاعتبارات الجيوسياسية الراهنة، بمعنى أنها مركز دولة أعلنت منذ فترة طويلة عن سياستها الخارجية المتعددة المسارات، وكذلك أثبتت التزامها هذه السياسة.
على ذلك النحو، لا تعتبر كازاخستان وكيلة روسيا على الرغم من عضويتها في “الاتحاد الاقتصادي الأوراسي” الذي تقوده موسكو، إذ طوّرت نور سلطان علاقات مع الصين تتفوّق من حيث القوة على تلك التي تقيمها مع روسيا في كل مناحي التعاون الاقتصادي تقريباً. وتعي النخبة السياسية الكازاخية بشكل يضايقها إلى حدّ الشعور بالألم، حجم القوتين الصينية والروسية ومكانتهما. في هذا السياق، زعم عدد من القادة الروس أخيراً أن بلادهم لها حقوق في أراضي كازاخستان، ما فرض على وزير الخارجية الروسي أن يعتذر رسمياً عن ذلك، قبل وقت قريب. من ناحية أخرى، يتنامى النفوذ الصيني الاقتصادي الناجم عن تحقيق مبادرة “الحزام والطريق”، في كازاخستان، ما يجعل عدداً من السكان المحليين يشعرون بعدم الارتياح حيال مستقبل البلاد.
ومع ذلك، أوجد الرئيس نورسلطان نزارباييف خلال حوالى 30 عاماً مرت على انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، دولة كازاخستان الجديدة على أنقاض تلك التي كانت مستعمرة روسية ثم صارت جمهورية مستقلة داخل الاتحاد السوفياتي، إذ قاد قصة نجاح في حقبة بناء الأمة في المرحلة ما بعد السوفياتية، على الرغم من أنه بقي نصيراً مخلصاً للتكامل في مرحلة ما بعد الاتحاد السوفياتي (وأعلن عن ذلك التوجّه في 1992) من جهة، وكذلك استمر في تأييد مسار كازاخستان الموالي للغرب الذي انتهجته منذ اعوام، من الجهة الأخرى. واستطراداً، تشكّل كازاخستان جزءًا من المنظمات الأوروبية والعابرة للأطلسي على غرار “منظمة الأمن والتعاون في أوروبا” (أو إس سي دي) التي ترأستها كازاخستان في 2010، إضافة إلى احتفاظها بعلاقات وثيقة مع أوروبا عبر عدد من الروابط الاقتصادية والمالية. وتُعتبر كازاخستان حالياً الدولة الوحيدة في آسيا الوسطى في المرحلة ما بعد السوفياتية، التي تشحن ما يزيد على نصف صادراتها الإجمالية إلى دول الاتحاد الأوروبي.
وفي السياق ذاته، عمل نزارباييف على نيل السبق في إطلاق منظمة دولية هدفها تعزيز الثقة بين الدول ومحاولة جمعها كلها للعمل معاً، إذ يمثّل “مؤتمر التفاعل وإجراءات بناء الثقة في آسيا” منتدىً متعدد القوميات هدفه دعم التعاون من أجل تعزيز السلام والاستقرار. وقد أُطلق ذلك المنتدى في 1999، وبات يضم إسرائيل وإيران إضافة إلى 25 من الدول الأعضاء الأخرى. وتعمل تلك الدول جنباً إلى جنب في سياق ذلك المنتدى واللجان التابعة له. وإضافة إلى اهتمامها بدول آسيا الوسطى الأخرى، تُبدي كازاخستان أيضاً اهتماماً شديداً بمسائل الأمن الإقليمي، وربما تصبح حليفاً لا غنى عنه بالنسبة إلى الدول الغربية بعد خروج القوات الأميركية من أفغانستان. وليس ثمة شك في أن المنطقة ستحتاج إلى انخراط أميركا بشكل أكبر بهدف المساهمة في القتال المستمر ضد التطرف والإرهاب.
ويعتبر قائدان كازاخيّان من المتمرّسين في صناعة الصفقات، هما الرئيس الأول نزارباييف الذي ينظر إليه حالياً كأنه دينغ شياو بينغ (رئيس الصين) آخر في آسيا الوسطى ويشرف على مواصلة مسيرة التقدم في البلاد من وراء الستار، والرئيس قاسم جومارت توكاييف، وهو دبلوماسي محترف ووزير خارجية سابق. واستكمالاً لتلك الصورة، تستضيف العاصمة نور سلطان عدداً من المباحثات والمفاوضات الرفيعة المستوى، كاجتماعات القمة الأولى بين الدبلوماسيين الإيرانيين ونظرائهم الغربيين، وهي لقاءات أدت في نهاية المطاف إلى إبرام “اتفاق التعاون الشامل المشترك” بشأن برنامج إيران النووي في 2015.
على نحوٍ مماثل، ضمّت “عملية آستانا” الفصائل السورية السياسية المتنافسة معاً بهدف البحث عن تسوية سلمية للحرب الأهلية في تلك البلاد. في المقابل، يتمثّل الحدث الذي سيكون بمنزلة الرسالة الأهم في إجراء اجتماع القمة الأكثر أهمية من كل ما عداها، بين بوتين وبايدن في مكان قريب من كل من روسيا والصين، ما سيُوجّه إشارة واضحة مفادها بأن هناك أرضاً في قلب آسيا يمكن أن يشعر فيها كبار الزعماء الغربيين بالارتياح والثقة. من جهة أخرى، ثمة تحديات ثلاثة تتمثّل في طموحات روسيا الإمبريالية بشكل متزايد، وصعود الصين عالمياً، والتهديدات الأمنية النابعة من قلب العالم الإسلامي. وربما يغدو ممكناً أن تنطلق معالجة كل هذه التهديدات من مكان واحد في آسيا الوسطى في المرحلة ما بعد السوفياتية، وعلى نحو ستكون له أهمية رمزية عظيمة.
وبينما ينتقل مركز الثقل الجيوسياسي شرقاً، فإن القرن الواحد والعشرين سيكون مختلفاً على الصعيد الجيوسياسي عن القرن العشرين. وكمفكر سياسي هندي – أميركي، بدا باراغ خانا على حق حين لفت قبل حوالى عقد من الزمن، إلى أننا جميعاً نعيش في عالم يعتمد فيه التوازن بين القوى العظمى بصورة حاسمة على الميول السياسية للدول الأصغر حجماً. وربما يكون الآن هو الوقت المناسب للبحث عن نقاط حاسمة جديدة على خريطة العالم، تمكّننا من المضي قدماً إلى الأمام.
المصدر: اندبندنت عربية