من القدس إلى غزة الفلسطينيون يصرخون بصوت واحد حياتنا مهمة ويجب أن ينهار الجدار الحديدي

إبراهيم درويش

كان يا ما كان دبلوماسية أمريكية فاعلة قادرة على نزع فتيل الأزمات بين الإسرائيليين والفلسطينيين، لكن هذه الدبلوماسية كانت ضحية لإدارة دونالد ترامب المتحيزة لإسرائيل، مما جرأ القيادة الإسرائيلية أكثر وأكد لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أن القضية الفلسطينية أصبحت ماضيا ولا تهم الشارع الإسرائيلي.

وعلى مدى 12 عاما من حكمه عمل نتنياهو على فصل الشارع عما يجري من احتلال واضطهاد للفلسطينيين. وبدعم من حلفائه المتطرفين من الأحزاب الدينية القومية أكد على الاستيطان والضم وخلق الواقع على الأرض عبر الجدران ومزيد من بناء المستوطنات وتشتيت الفلسطينيين. واعتقد هو ومن معه أن الفلسطينيين رضخوا لما يعرضه عليه واستسلموا وانتصرت إسرائيل في حرب المئة عام التي حدد معالمها بدقة المؤرخ الفلسطيني رشيد خالدي في كتابه الصادر العام الماضي.

ولكن فلسطين والفلسطينيين عادوا ليلاحقوا نتنياهو وأتباعه العرب الذين ظن أن سلامه معهم سيهمش الفلسطينيين أكثر. ويعتقد خالدي في مقالته التي نشرتها صحيفة «واشنطن بوست» (13/5/2021) ان الجولة الأخيرة من عملية طرد الفلسطينيين تركزت حول القدس واللاجئين وهما موضوعان حاول المسؤولون الأمريكيون على مر العقود جرهما تحت البساط والوقوف مع إسرائيل ودعمها في كل ما تقوم به من اضطهاد وقمع للفلسطينيين. وأكد خالدي أن الأحداث التي اندلعت في القدس وانتشرت في كل البلاد في المدن العربية والمختلطة في إسرائيل والضفة والقدس الشرقية والحرب الدائرة في غزة هي صورة عن وحدة الفلسطينيين ضد التشريد والطرد والمنطق الاستعماري القائم كما أشار نائب رئيس بلدية القدس آريه كينغ على تهويد المدينة المقدسة. ولتحقيق هذا تمت مصادرة بيوت الفلسطينيين وطردهم من أرضهم منذ عام 1948 و1967 في داخل إسرائيل والقدس الشرقية والضفة الغربية ومرتفعات الجولان. وهو المنطق الاستعماري الذي جعل غوغاء المستوطنين ينتهكون الأحياء العربية تحت حراسة قوات الأمن الإسرائيلية. وهو الذي يمنع الفلسطينيين من قضاء ليالي رمضان أمام ساحة بوابة دمشق أو إحياء ليلة القدر واقتحام الأقصى وإطلاق الغاز المسيل للدموع والقنابل الصوتية على المصلين. وتساءل خالدي عما سيحدث لو حدث هجوم مماثل على كنيسة كبيرة أو كنيس يهودي في أثناء عطلة دينية؟ وما يحدث هو تطبيق لمبادئ الصهيونية التصحيحية لزئيف جابوتسكي عن الجدار الحديدي المنيع، وتلميذه النجيب نتنياهو الذي مضى أبعد من مجرد بناء واقع يهودي قوي على أرض فلسطين بل ورفع مبادئ الصهيونية السياسية لمرتبة القانون الأساسي أو الدستور في قانون الدولة القومية عام 2018 والذي منح اليهود فقط حق تقرير المصير في أرض إسرائيل. وباتت آلة قمع وطرد الفلسطينيين في يد المتطرفين اليهود.

ولكن الأزمة الحالية سواء في القدس والمدن العربية بمناطق 1948 والضفة الغربية أو غزة والشتات أكدت على انهيار اسطورة الانقسام والإحباط الفلسطيني، فهم وإن كانوا متفرقين سياسيا إلا أن شعورهم واحد ضد القمع سواء في القدس، اللد وقطاع غزة. وطالما غاب مستوى العدالة في التعاون مع الطرفين فستظل أمريكا جزءا من المشكلة.

حق الدفاع عن النفس

ومللنا خلال الأيام الماضية من سماع كلمة «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها» من ممثلي الإدارة الأمريكية أو تصريحات الرئيس جوزيف بايدن من أن إسرائيل لم تبالغ في ردها على صواريخ حماس، ولكن ماذا عن حق الفلسطينيين بمقاومة 70 عاما من تشريدهم؟ وأشار السناتور الأمريكي التقدمي بيرني ساندرز بمقالة في «نيويورك تايمز» (14/5/2021) إلى تكرار الإدارات الديمقراطية والجمهورية قول «لإسرائيل الحق بالدفاع عن نفسها» عندما ترد إسرائيل بقوتها العسكرية الضخمة على الصواريخ من غزة. وقال «دعنا نكن واضحين، لا أحد يناقش أن إسرائيل ليس لها الحق بالدفاع عن نفسها وحماية شعبها، ولكن لماذا يتم تكرار هذه الكلمات عاما بعد عام وماذا عن حقوق الشعب الفلسطيني؟» و «لماذا نهتم بالعنف في إسرائيل وفلسطين فقط عندما تسقط الصواريخ على إسرائيل؟». وقال إن صراع اليوم لم يبدأ بالصواريخ، بل منذ سنوات في القدس التي يعيش سكانها خطر الطرد ويحاولون التعامل مع نظام مميز ضدهم. ومحاولات الطرد هي جزء من نظام أوسع للاضطهاد السياسي والاجتماعي. فعلى مدى السنوات شاهدنا احتلالا إسرائيليا عميقا في القدس الشرقية والضفة الغربية وحصارا على غزة. وأكثر من هذا عملت حكومة نتنياهو على تهميش المواطنين الفلسطينيين ومواصلة الاستيطان للقضاء على حل الدولتين، ولا أحد يبرر لحماس صواريخها التي حاولت أن تستغل الوضع في القدس ولا فشل السلطة الفاسدة التي ألغت الانتخابات، ولكن إسرائيل هي القوة السائدة فيما بين البحر والنهر، وعوضا عن التحضير للسلام تقوم بتحصين نفسها ضمن نظام غير ديمقراطي. وفي محاولة منه للبقاء في السلطة منح نتنياهو شرعية للأحزاب القومية اليهودية المتطرفة. وما يجري في إسرائيل ليس استثنائيا، فحول العالم حاولت حكومات استغلال الكراهية الطائفية والإثنية لبناء نظام فاسد تحكمه القلة، وكان لهذه الأنظمة صديق في البيت الأبيض.

ونرى في المقابل جيلا يريد المساواة والعدالة كما بدا في شوارع أمريكا العام الماضي بعد مقتل جورج فلويد ونراهم في إسرائيل وفلسطين. وهذا هو جيل «تيك توك» الذي لم يعد ينتظر أحدا، لا إسرائيل ولا حماس، السلطة أو الجامعة العربية. وهو جيل لو لم تتم الاستجابة له بتعقل، فسيقود انتفاضة ثالثة، يرى توماس فريدمان في «نيويورك تايمز»(12/5/2021) أنها ستكون مدمرة على المنطقة بكاملها. ويعتقد ديفيد هيرست في ميدل إيست آي (12/5/2021) أن اختيار إسرائيل القدس للمواجهة أدت لتوحيد الفلسطينيين وزرعت بذور انتفاضة، فعلى خلاف 1987 و2000 فالأخيرة تستمد قوتها من مركزية القدس والأقصى فيها ووحدة كل أطياف الشعب الفلسطيني وأخيرا التطبيع الذي أكد للفلسطينيين انهم باتوا وحدهم وعليهم الاعتماد على أنفسهم لمواجهة آلة الكراهية والعنصرية.

بايدن المتخبط

وكان يؤمل أن يقود جوزيف بايدن طريقا مختلفا في معالجة القضايا العالمية من توفير اللقاحات للجميع والتصدي للتغيرات المناخية وانتهاكات حقوق الإنسان وكذا في الشرق الأوسط التي تقدم فيها أمريكا لإسرائيل 4 مليارات سنويا. وأكد ساندرز: «علينا ألا نظل معتذرين عن حكومة نتنياهو المتطرفة وتصرفها العنصري غير الديمقراطي». وطالب بأن تتبنى أمريكا مدخلا متوازنا يعمل على احترام القانون الدولي الداعي لاحترام حقوق الإنسان، والالتزام بالقوانين الأمريكية التي تؤكد على عدم استخدام المساعدات العسكرية في الأمريكية لقتل الأبرياء. وقال ساندرز «علينا الاعتراف بأن حقوق الفلسطينيين مهمة وكذا حياتهم أيضا». وخلافا لدعوة ساندرز والنواب التقدميين في الحزب مثل رشيدة طليب التي بكت في الكونغرس وقالت إن حياة الفلسطينيين مهمة وإلهان عمر التي هاجمت نتنياهو والكسندرا أوكاسيو كورتيز وغيرها من الأصوات التي باتت ترى حقيقة عدم التوازن في الصراع الحالي، فقد بدت الإدارة الأمريكية موزعة لا تعرف ما تريد فعله واختارت مصالحها وعلاقتها بالكونغرس على حساب الدفاع عن الفلسطينيين، وكما قال بوبي غوش في «بلومبيرغ» (13/5/2021) فقد جاء رد بايدن متأخرا وأعرجا ولم يرق لمستوى الأزمة، فهو لم يتحدث بنفس الطريقة مع رئيس السلطة الوطنية محمود عباس ورد يوم الثلاثاء على رسالة تهنئة أرسلها عباس له قبل أربعة أشهر. وبدلا من ركوب وزير خارجيته أنتوني بلينكن الطائرة إلى الشرق الأوسط لخفض التوتر، اكتفى بإرسال مسؤول بدرجة نائب لوزير الخارجية للعمل على إقناع الطرفين الحد من الأعمال العدوانية.

ويرى جيمس تروب في مجلة «فورين بوليسي» (13/5/2021) أن إدارة بايدن لا تريد دفع ثمن تورطها في الحرب الجديدة بين الإسرائيليين والفلسطينيين. وكانت تتأمل بما يمكن عمله للفلسطينيين ببطء وفوجئت بالأزمة الأخيرة. وقال الكاتب إن بايدن يريد التخفيف عن الفلسطينيين اقتصاديا وأعاد المساعدات للأونروا وربما فتح بعثة منظمة التحرير في واشنطن من جديد والقنصلية الأمريكية في القدس، وهما أمران مرتبطان بموافقة إسرائيل والكونغرس، ولهذا اقترحت مذكرة للخارجية في شباط/فبراير فتح قنصلية أمريكية في المناطق الفلسطينية. وغير هذا لا يريد بايدن على ما يبدو استثمار رأسماله السياسي في الدفاع عن الفلسطينيين. والعبارة التي تتردد في البيت الأبيض «نحن هنا لا نبحث عن جائزة نوبل» للسلام. وغير الالتزام اللفظي بحل الدولتين ودعم الفلسطينيين ماديا فلا توجد للإدارة الحالية خطط للضغط، فهي في الحقيقة لا أوراق ضغط لديها بعدما تخلى ترامب عن كل الأوراق ومنحها لنتنياهو. فهذا الأخير الملاحق بقضايا فساد والمهدد بالخروج من السلطة حيث يحاول منافسوه تشكيل ائتلاف بعد فشله في تحقيق غالبية مطلقة وعبر أربع انتخابات على مدى عامين، وجد في الصواريخ التي أطلقتها حركات المقاومة فرصة لممارسة دور الرجل القوي. ويقول ديفيد إغناطيوس في صحيفة «واشنطن بوست» (14/5/2021) إن نتنياهو لم يكن مستعدا لاتخاذ القرارات المؤلمة والقبول بسلام مقابل الأمن خوفا من تفكك ائتلافه.

انهيار النظام السياسي

وبعد أكثر من عقد في الحكم تبدو السياسة الإسرائيلية هشة كالفلسطينية، حيث فقدت السلطة الوطنية تأثيرها وباتت القوة تندفع باتجاه حماس. وبدون قيادة سياسية يندفع الإسرائيليون والفلسطينيون نحو الأساليب اليائسة كما في داخل المدن الإسرائيلية والهجمات المتبادلة التي وصفتها وزيرة الخارجية الإسرائيلية بتعليق لـ»نيويورك تايمز» بأنها تشبه الحرب الأهلية. وقال إغناطيوس إن الفلسطينيين وإن خسروا وبشكل كارثي على طاولة المفاوضات لكنهم لم يكونوا مستعدين للتنازل عن حس التحدي والكرامة. ويقول إن إدارة ترامب التي اعتمدت على مدخلين في التعامل مع النزاع، وهما حل الدولتين والتأكيد على التنمية الاقتصادية والاجتماعية في المناطق الفلسطينية كانت مستعدة للموافقة على خطة ضم الضفة الغربية لو وافق نتنياهو على منح الفلسطينيين الحقوق السياسية والقانونية، لكنه لم يكن مستعدا لاتخاذ قرار كهذا خوفا من حلفائه.

صناعة إسرائيلية

وتظل الأزمة الحالية من صنع إسرائيل، صنعتها وغلفتها حكومة نتنياهو وقرارات الشرطة الإسرائيلية الخاطئة، وهي كما قالت صحيفة «الغارديان» (12/5/2021) في افتتاحيتها تعبر عن ثقافة عدم الخوف من العقاب بسبب الأساليب القاسية التي استخدمتها الشرطة في الشيخ جراح والمسجد الأقصى. ورغم الأزمة السياسية الإسرائيلية (تشكيل الحكومة) والفلسطينية (تأجيل الانتخابات) إلا أن الوقود لهذه الجولة هو قديم وعمره عقود، فقد تعمق الغضب على الاحتلال ونشأ «جيل الحصار» في غزة، وهو شريط صغير من الأرض حشر فيه السكان بدون عمل ولا كهرباء ولا مياه صالحة للشرب. وزاد الحنق، كوفيد- 19 والتباين في عمليات اللقاح بين إسرائيل والمناطق المحتلة التي تسيطر عليها إسرائيل بدون توفير الحماية لمن يعيشون فيها. كما أن توسع الاضطرابات إلى المدن العربية داخل إسرائيل في يوم الإثنين يكشف عن عمق وحجم الغضب ضد الظلم المتراكم والذي قاد منظمة «هيومان رايتس ووتش» لاتهام قادة إسرائيل بممارسة سياسة الفصل العنصري (ابارتيد). وجاء في مجلة «إيكونوميست» أن التطورات الجديدة في إسرائيل وفلسطين كانت جاهزة للانفجار مع أن العالم كان يفضل تجاهلها، إلا أن الإسرائيليين والفلسطينيين دفعوا بعضهم البعض إلى الحافة في حرب جديدة بالأرض المقدسة. وقالت إن القتال الذي لم ير مثله بين الإسرائيليين والفلسطينيين منذ سنوات كانت في قلبه القدس. وترى المجلة أن الحروب تتكرر لأن قادة إسرائيل يعتقدون أن الحل هو إدارة الأزمة مع حماس لا حلها، لكن عليهم أن يعيدوا النظر في استراتيجيتهم. ومع ذلك فمعاملة إسرائيل للفلسطينيين تؤدي إلى المشاكل. وأزمة اليوم هي متوقعة مع أن الشرارات التي أشعلتها لم تكن معروفة. وتعبر القدس عن المشكلة، فالفلسطينيون الذين يشكلون نسبة 39 في المئة من سكانها لا يعتبرون مواطنين بل مقيمين، وهم محرومون من الحقوق وملاحقون دائما، وليس غريبا استعداد الفلسطينيين المقيمين في المدينة للاحتجاج. ولكن الظلم في أماكن أخرى أسوأ، فقد راقب الفلسطينيون في الضفة الغربية إسرائيل وهي تصادر أراضيهم وتبني مستوطنات عليها، وهو عمل غير قانوني حسب القانون الدولي. وعليهم التعامل مع حواجز التفتيش ونظام التصاريح المرهق. وفي غزة هناك أكثر من مليوني مواطن قطعوا عن العالم من خلال الحصار الذي فرضته مصر وإسرائيل منذ عام 2007 عندما سيطرت حماس على القطاع، وتعاني المنطقة من مشاكل توفير الطاقة الكهربائية ومياه الصنابير وسخة، وقاد اليأس من الوضع إلى العنف في 2018 و2019 ويغذي الجولة الحالية. وفي غياب المنظور الجيد للمستقبل يفضل الشبان الفلسطينيون مواجهة إسرائيل، وهو ما يجعل من أحداث العنف المتكررة حتمية. ولن يحل الوضع إلا المفاوضات وعلى القوى الغربية والإقليمية الدفع باتجاه استئنافها. ويجب أن يعود الإسرائيليون والفلسطينيون إلى طاولة المفاوضات، فحل النزاع أصعب من إدارته، ولكن المفاوضات هي الخطوة الدائمة للخروج.

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى