في السنة الأولى من الثورة، اعتقد بعض السوريين – واهمين – أن روسيا، وريثة الاتحاد السوفييتي، الذي كان يدّعي أنه داعم حركات التحرر العالمية، ستكون صاحبة مبدأ، وستدعم السوريين خلال ثورتهم للتحرر من نير النظام الديكتاتوري، أو على الأقل، ستكون وسيطاً نزيهاً فيما لو احتاج الأمر لتدخلهم كوسيط قوي، وذهب بعض المعارضين السوريين إلى الاعتقاد أن مفاتيح الحل عند روسيا، ويجب التقرّب منها قدر المستطاع، علّها تفتح أبواب الحربة للسوريين المحتاجين لها.
كل ما سبق تبيّن أنه وهم، إذ تفاجأ السوريون، على أن روسيا الاتحادية، التي باتت الحليف الأهم للنظام السوري، والأقوى والأشرس دولياً، هي نوع من أنواع النظم الديكتاتورية الشمولية العمياء، ومثال صارخ لدولة مافيات الظل، والنموذج الواقعي لمبدأ الغاية تبرر الوسيلة، مهما كانت هذه الوسيلة عنيفة ولا أخلاقية، وظلّت، منذ تلك السنة الأولى للثورة وحتى اليوم، تُراكم هذه الصفات وتزيد عليها سوءاً فوق سوء.
لا نعني هنا فقط استخدام روسيا حق النقض “الفيتو” 16 مرة ضد أي قرار يمكن أن يساهم في وقف الحرب والمقتلة السورية، رغم فداحة هذا الفعل ودونيّته، كما لا نعني فقط استغلالها للوضع العام في سوريا وزمن الحرب، لإقامة قواعد عسكرية عديدة، برّية وجوية وبحرية، رغم اقتراب هذا الأمر من أن يكون احتلالا ناعما لسوريا رغماً عن رغبة سواد السوريين، ولا نعني تعطيل روسيا كثيرا من الحلول السياسية فقط لأنها لا تضمن لها هيمنة كاملة على القرار السوري السياسي والعسكري لعقود مقبلة، بل هناك كثير مما يؤكد على أن روسيا تزيد السوء سوءاً بوجودها في سوريا، وتحترف تعطيل كل شيء.
استخدمت روسيا الفيتو مرات عديدة لتعطيل وصول المساعدات الإنسانية والطبية للمناطق الثائرة، كما استغلت المصالحات التي أجرتها بـ “القوة الناعمة” لتحقق مكاسب عسكرية أو سياسية للنظام، دون أن تلتزم مبدأ الحياد، وقصف طيرانها مدناً سورية وقرى وبلدات، بمئات الطلعات الجوية، وبأسلحة مُحرّمة دولياً، واستخدم صواريخ فوسفورية وعنقودية وقتلت المدنيين، وجرّبت أسلحتها في مسرح العبث السوري، وعملت دعاية تجارية عسكرية لها بقصف الأطفال السوريين بها، واتّبعت أسلوب الأرض المحروقة وحوّلت أسلحتها بعض الأراضي السورية إلى جحيم، وأطلقت صواريخ من بحر قزوين، على بعد آلاف الكيلومترات، لتقتل السوريين دون تمييز، ثم استهلكت مخزونها من الأسلحة القديمة الغبيّة وتخلّصت منه فوق الأرض السورية، وفوق رؤوس الأهالي في المناطق الثائرة، ودمّرت مشافي وأفرانا وأسواقا وهدّمت بيوتاً على رؤوس أصحابها.
أيضاً، ليس هذا فقط ما قامت به روسيا، بل وقّعت اتفاقيات مع النظام السوري لتبقى تسعة وأربعين عاماً على الأقل في القواعد العسكرية، واستغلت حاجة النظام السوري لها، فأرغمته على أن يوقع معها عقوداً تجارية، في معظمها عقود طاقة وأسلحة، كما عملت على أدلجة الجيش السوري وقرّبت ضباطاً منها وأرسلتهم بدورات تدريبية إلى روسيا، ولا يدري أحد هل غسلت هناك أدمغتهم أم جيّشتهم إيديولوجياً لصالحها فقط.
حاولت موسكو سرقة الثورة السورية، وتفريغ بيان جنيف من مضمونه، وكذلك القرارات الدولية ذات الصلة بالحل السياسي في سوريا، وابتدعت سلسلة اجتماعات أستانا، ومؤتمرات سوتشي، وحاولت تغيير لون المعارضة السورية، ورشوتها وتدجينها.
وعلى الصعيد السياسي أيضاً، طرحت موسكو دستوراً لسوريا، يناسبها أكثر مما يناسب السوريين الأحرار، كتبته وضغطت على المعارضة السورية لتبنّيه، وبذلت مساعيها بشكل غير مباشر لتمريره، وفشلت في ذلك، فانتقلت إلى تعطيل عمل، ونزع شرعية، هيئات المعارضة السورية، بدءاً من المجلس الوطني، مروراً بالائتلاف، ومن ثم هيئة التفاوض، وأخيراً اللجنة الدستورية، وحاولت اختراقها بمكونات، وحصرها بزوايا، وتهميش دورها بكل محفل، وأيّدت النظام بكل “التعطيلات” التي قام بها، في هيئة التفاوض وفي اللجنة الدستورية، ونجحت مع النظام في تسويف كل شيء، وترسيخ مبدأ عدم الجدوى من كل اجتماعات اللجنة الدستورية.
كذلك، ساعدت روسيا إسرائيل في تدمير ما تشاء في سوريا، ورغم أن الأهداف تتبع للنظام السوري أو لإيران، إلا أن روسيا سهّلت فكرة أن سوريا رخيصة، وأن اختراق السيادة السورية أمر متاح للجميع، وأكّدت روسيا بشكل أبلق أن العلاقات الاستراتيجية مع إسرائيل – عدو سوريا التاريخي – متشابكة ولا يفكها شيء، وكل ذلك من أجل أن تحصل موسكو على مكانة دولية.
باتت سوريا هي بؤرة نشاط الكرملين المركزية، ومحطّ اهتمام الرئيس فلاديمير بوتين كنقطة انطلاق للتوسع الإمبراطوري الروسي، وملعباً لإعادة المعنى والقيمة لروسيا في مختلف نواحي المنطقة وأوروبا.
روسيا التي يقودها نظام شمولي، يحمل أحلاماً توسعية إمبراطورية، حاله كحال إيران، الحليف الآخر للنظام السوري، انتهكت كل شيء في سوريا، حقوق الإنسان والمعاهدات الدولية والاتفاقيات، وارتكبت جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب، وعبثت بمصير السوريين، وتواصل هذا العبث، بتعطيلها كل ما يمكن تعطيله، ووقوفها حجر عثرة أمام أي حل سياسي حقيقي عادل يمكن أن يُنهي المأساة السورية.
الشيء الوحيد الذي يقف حجر عثرة بوجه روسيا هو أنها لن تستطيع الحلول محل الولايات المتحدة في المنطقة، ولن تستطيع انتزاع اعتراف أميركي بتسيّدها على المنطقة، كما لن تستطيع أن تجد فراغاً أميركياً لتسدّه، وتستطيع أن تصبح لاعباً أساسياً بقوتها، لكنها لن تستطيع أن تحل محل الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وهذا ما يجب أن تلعب عليه المعارضة السورية، وتدعمه، وتجد الوسيلة لاختراقه، عبر تواصل كثيف ومدروس مع الإدارة الأميركية الجديدة، وخطط استراتيجية تُقنع الولايات المتحدة بأنه آن الأوان لوقف العبث الروسي، ولوبي ضاغط يوصل كلمة السوريين إلى صنّاع القرار الأميركيين بأن الإمبراطورية الروسية التي يحاول بوتين صنعها انطلاقاً من سوريا، هي خطر يوازي الإمبراطورية الفارسية التي يحاول خامنئي صنعها انطلاقاً من سوريا.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا