نظرياً، ووفق الخطاب الرسمي لكل من نظام الأسد، وإسرائيل، فإن الطرفين عدوان، أو على الأقل، خصمان. وبناء على تحليل المصالح، يبدو الطرف الإسرائيلي متضرراً من استمرار نظام الأسد، في الوقت الراهن، نظراً لكونه عاجزاً عن الحد من التغلغل الإيراني على أراضيه، الأمر الذي يشكل تهديداً للأمن القومي الإسرائيلي. لكن رغم ذلك، لا تبدو هناك أية مخاوف من اعتماد إسرائيل استراتيجية لإزاحة الأسد، بهدف تأمين جبهتها الشمالية. بل الأمور تجري عكس ذلك. فلماذا تفضّل إسرائيل بقاء الأسد رغم أن عشرية عدم اليقين التي عاشتها سوريا، انتهت باستقرار الأمر لإيران على الساحة السورية؟
يعتقد علماء سياسة كُثر، أنه لو بُعث المؤرخ الإغريقي “ثيوسيديدس” حياً اليوم، لوجد ساحة الشرق الأوسط أشبه بتلك التي عاشتها اليونان في حقبة الحرب البيلوبونيزية في القرن الخامس قبل الميلاد. وهي الحرب التي تسببت على نحو ما، في أفول نجم الحضارة الإغريقية كقوة سياسية، إلى الأبد.
اندلعت تلك الحرب بين أثينا وحلفائها، وبين إسبرطة وحلفائها، واستمرت بشكل متقطع على مدار ثلاثة عقود. وقد فسّر “ثيوسيديدس” سببها الرئيس بصعود قوة جديدة لتنافس قوة مهيمنة موجودة، الأمر الذي يؤدي إلى حتمية الحرب. وهو ما بات يُعرف في أدبيات علم السياسة بـ “فخ ثيوسيديدس”.
وتغلي المستويات الدولية والإقليمية من العلاقات الراهنة بين الدول اليوم، بالعوامل التي تدفع نحو الوقوع في هذا الفخ. فهناك صعود الصين، الذي يشكل تحدياً مصيرياً للولايات المتحدة الأميركية. وهناك، في الشرق الأوسط، تمدد إيران، الذي يشكل تحدياً مصيرياً أيضاً، لإسرائيل. ويرجع هذا التحدي أساساً إلى ما يُعرف في علم السياسة، بـ “معضلة الأمن”، حيث لا ثقة من جانب طرف بالآخر، بصورة تجعل كل طرف ينظر إلى سعي الطرف الآخر لتعزيز قدراته العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية، على أنه يستهدفه. أو على الأقل، يستهدف انتزاع مساحات نفوذه. الأمر الذي يدفع في كثير من الأحيان إلى اندلاع الحرب حالما يقع صنّاع القرار في الطرفين، ضمن ما يُعرف بـ “معضلة السجين”. حيث تدفع خشية كل طرف من نوايا الآخر، وعدم الثقة به، إلى تعزيز سباق التسلح، وخوض حروب جانبية محدودة أو بالوكالة، ومحاولة كل طرف الإضرار بالآخر، قدر المستطاع. وهو ما يدفع في كثير من الأحيان إلى حرب مدمّرة بين الطرفين، في نهاية المطاف.
يُجمع المؤرخون وعلماء السياسة، أن معظم الحروب التي عرفها التاريخ كانت نتيجة الوقوع في فخ “ثيوسيديدس”، وضمن ما يُعرف بـ “معضلة السجين”. وهذه الظروف متحققة اليوم في الشرق الأوسط، وبصورة مثالية إلى حدٍ ما. فحرب الناقلات البحرية مستعرة بين إيران وإسرائيل، والضربات الجوية الإسرائيلية للمواقع الإيرانية في سوريا تتفاقم كماً ونوعاً، وأخيراً، وليس آخراً، تشعر إسرائيل أنها عاجزة عن التأثير في القرار الأميركي الذي يتجه باندفاع ملحوظ نحو إعادة إحياء الاتفاق النووي مع إيران، الأمر الذي سيرفع الضغط الاقتصادي عن الإيرانيين، مما سيعزز من قدراتهم في التمدد بالمنطقة.
وفق الوصف سابق الذكر، تبدو الحرب حتمية، حيث يتجلى “فخ ثيوسيديدس” جلياً. مع الإشارة إلى أن حرباً منخفضة الحدّة، تجري فعلاً الآن، كما سبق وأشرنا إلى حرب الناقلات والضربات الجوية في سوريا. لكن الحرب المدمّرة بين الطرفين، لم تندلع بعد. وقد يكون من الصادم للمؤرخ الإغريقي “ثيوسيديدس”، ألا تندلع الحرب الشاملة أبداً. لكن يبدو أن الاحتمال الأخير، هو الأرجح. والسبب ببساطة، هو تطور مهارات إدارة النزاعات بصورة تسمح بالخروج من “معضلة السجين”. وفي حالة التوتر الإيراني – الإسرائيلي، يبدو الأسد أحد أبرز العوامل التي تمنع الحرب الشاملة بين الطرفين.
في سبعينيات القرن الماضي، حاول العالم السياسي الأميركي، روبرت أكسلرد، إيجاد حلول للخروج من “معضلة السجين” من خلال لعبة على كمبيوتر طبق خلالها استراتيجيات مختلفة في إدارة “معضلة السجين”، فتوصل إلى أن أفضل النتائج تلك التي يمكن تطبيقها وفق مبدأ “هذي بتلك” –إن تعاونت أتعاون وإن غدرت أغدر-. وخلص أكسلرد إلى أن مجموع المنافع من اللعبة يزيد بتعلم التعاون، لكن ذلك يتطلب الاستمرار في اللعبة لوقت طويل. فإذا علمت أنك ستلعب مع نفس الناس لمدة طويلة يمكن أن تتعلم التعاون، وذلك وفق ما ورد في كتاب مميز لعالم السياسة الأميركي، جوزيف س ناي الابن، بعنوان “المنازعات الدولية، مقدمة للنظرية والتاريخ”.
هذا باختصار ما يحصل بين إيران وإسرائيل، وبينهما نظام الأسد. فرغم الاختراق الأمني النوعي، الذي حدث فجر 22 نيسان/أبريل الفائت، حينما انفجر صاروخ أطلقته قوات تتبع للنظام السوري، في سماء صحراء النقب جنوبي إسرائيل، قرب مفاعل ديمونا النووي، كان رد الفعل الإسرائيلي المرتبك، يقوم على مبدأ امتصاص الصدمة، والتخفيف من وطأتها. ورغم الاستفزاز الذي زخر به الإعلام الإيراني حينها، من حديث صريح بأن الصاروخ رسالة إيرانية، بعيد هجوم مفاعل “نطنز”، كان الأميركيون أيضاً على خط التهدئة، والتخفيف من قيمة الحدث، رغم بعده الأمني الاستثنائي. حتى أن قائد القيادة الأميركية الوسطى، كينيث ماكينزي، قال إن وصول الصاروخ إلى هذه النقطة من إسرائيل، لا يبدو متعمداً، بل ويظهر عدم كفاءة الجانب “السوري”.
كي نفهم ما حدث حينها، يمكن اختصاره ببضع كلمات. حصل خرق محدود لقواعد متفق عليها في الصراع. وسرعان ما سيعود نظام الأسد، للالتزام بتلك القواعد، رغم الضغوط الإيرانية. هذا ما أوحى به، بشكل جلّي، مقال ملفت للغاية، نشرته “هآرتس” الإسرائيلية، يوم 23 نيسان/أبريل الجاري، بعنوان “مصلحة مشتركة بين إسرائيل وروسيا في سوريا: أبقوا الأسد في القمة حتى الآن”.
ويقول كاتب المقال، الذي تحدث إلى خبير استشاري للمخابرات الإسرائيلية، إن العلاقة بين إسرائيل ونظام الأسد تعززت من خلال التفاهمات بين إسرائيل وروسيا، وكذلك مع دول الخليج، وخاصة الإمارات والبحرين.
ويتحدث المقال هنا، بطبيعة الحال، عن تعزيز تلك العلاقة، بعد استقرار مشهد الصراع في سوريا، لصالح رئيس النظام، بشار الأسد، في السنوات الثلاث الأخيرة. لكن ذلك لا ينفي أن تلك العلاقة كانت قائمة قبل العام 2011، رجوعاً حتى بداية عهد حافظ الأسد. وربما، قبل ذلك أيضاً. وهنا، لسنا في معرض توجيه اتهامات بالخيانة. لكننا في معرض تفسير، كيف لا تندلع حرب بين طرفين، من المفترض أنهما أعداء، وفي حالة سباق تسلح وصراع غير مباشر. وهذه كانت الحال، حينما كان حافظ الأسد يدعم حزب الله وحماس، في التسعينيات.
وهنا لا تسعفنا أية إجابة موضوعية، إلا نموذج عالم السياسة الأميركي، روبرت أكسلرد، الذي أشرنا إليه قبل قليل. والذي يفيد بأن نظام الأسد وإسرائيل تعلما كيف يتعاونا، ويرتبا قواعد للصراع، لا تشكل تهديداً وجودياً لأي منهما. فخرجا من “معضلة السجين”. لذلك وجدنا مباركة أميركية لتوريث الحكم من حافظ إلى بشار عام 2000. ولهذا السبب أيضاً، وجدنا آرييل شارون يضغط على الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش، عام 2005، كي لا يندفع باتجاه تغيير النظام في سوريا، إذ قال شارون يومها، لـ بوش، من الأفضل لإسرائيل أن تبقى مع “الشيطان” الذي تعرفه. وهذه الحال استمرت خلال عقد الثورة بعد العام 2011، حيث أن “أي تغيير استراتيجي في سوريا قد (يترك إسرائيل) في مواجهة أسئلة صعبة”، كما قال خبير المخابرات الإسرائيلية الذي تحدث لكاتب مقال “هآرتس”، آنف الذكر.
ويقرّ كاتب المقال أن الوضع في سوريا ليس مثالياً بالنسبة لإسرائيل، لكنه أفضل ما يمكن أن تأمل تحقيقه، وفق تصور قادتها. فالأسد، بشكل مباشر أو غير مباشر، يساهم في الحرب الإسرائيلية على الأهداف الإيرانية في سوريا، حينما لا يرد على الهجمات. وباستثناء الصاروخ الأخير، الذي بدا خروجاً عن قواعد اللعبة، يبدو الأسد واعياً لمخاطر التحرش الخطر بأمن إسرائيل. والأهم من ذلك، بالنسبة لـ تل أبيب، أن التنسيق مع الروس يعمل بالشكل الذي يأملونه. فإيران أعادت انتشارها مبتعدةً بصورة مقبولة – إسرائيلياً- من الجنوب، وتوقف ترسيخ حزب الله في الجانب السوري من مرتفعات الجولان.
لكن الأمر لا يتوقف عند علاقة آمنة مستقرة بين الأسد وإسرائيل فقط. فالتواصل الإسرائيلي – الإيراني قائم منذ عقود، عبر قنوات عديدة، أحدها عُمان مثلاً. لكن أحد أبرزها، هو الأسد ذاته، الذي يلعب دوراً أساسياً، في عدم استفزاز إسرائيل في سوريا، والقبول بلعبة تقليم الأظافر للإيرانيين فيها. أما الإيرانيون، فيبدو أن تلك المعادلة مقبولة بالنسبة لهم، حتى لو بدت للوهلة الأولى، أنها تعني أن لإسرائيل حصّة في شريكهم الأسد. إلا أنها تعني أيضاً، أن هناك قاسماً مشتركاً يسمح للطرفين بالتقاط الأنفاس، وعدم الانجرار إلى حرب شاملة بينهما، لا يرغبها أيٌ منهما. باختصار، بشار الأسد أحد أبرز صمامات الأمان التي تمنع تحول الحرب منخفضة الحدة، الجارية الآن بين إسرائيل وإيران، إلى حرب شاملة ومدمرة. أما ماذا سيكسب الأسد من ذلك؟ فقط، استمراريته في كرسي الحكم. فيما بلده ذاتها، كانت ضحية حرب مدمرة، كان هو أحد أبرز أركانها. وكانت إيران وإسرائيل، أيضاً، رابحان رئيسيان، فيها.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا