يُعد شهر رمضان أفضل الشهور لدى المسلمين كافة، وقد خصّ اللـه سبحانه وتعالى هذا الشهر بمزايا عديدة، مما جعل فيه القيم الإنسانية العليا التي أتى بها الإسلام تتجسد عالية فيه، قال تعالى ” “شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ” لذلك يبتهج المسلمون لقدوم هذا الشهر، ويتهيّأون لاستقباله بشتّى الوسائل والطرق. وصيام رمضان ركنٌ من أركان الإسلام، وهو فرض على المسلمين.
وتختلف الطرق والعادات في المجتمعات المسلمة في آليات الإحتفاء بهذا الشهر الفضيل، ولكنها تجمع على كونه شهر تُعلى فيه من القيم الإنسانية وفضائل الأعمال الصالحة التي توطد العلاقات الإنسانية فهذا الشهر تبرز فيه معالم السمو الأخلاقي والنفسي والهدوء وسيادة المشاعر الإيجابيّة، حيث يسود الشعور بالمحتاجين والفقراء والمساكين، من خلال إنقطاع المسلمين جميعاً عن الطعام والشراب، إضافة لردع النفس وتربيتها على الصبر والإنضباط.
ومن خلال كونه الشهر الذي أنزل فيه “القرآن الكريم” فيعتبر شهر قراءة القرآن وتدبره، والعمل به حتى يكون خلقاً وسجية وطبعاً، وعدم هجرانه، مما قد يعني عدم تمثل القيم الإنسانية المتضمنة فيه عملاً بقوله تعالى “وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا” فهجران كتاب اللــه هو الإبتعاد عن القيم الإنسانية التي أتانا بها وفرضها علينا، وتأكيداً على ضرورة الإقتراب من كتاب اللــه وتدبره كانت ليلة القدر في العشر الأواخر من هذا الشهر الكريم الذي قال عنها ربنا “لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ” لرفع قدر عملية تدبر القرآن الكريم وتفهم معانيه ومقاصده مما يفترض العمل بمضمونه.
وإن كان الصوم مدرسة تربوية إيمانية، تربي النفس على الأخلاق الفاضلة والبعد عما يفسدها من الإساءة إلى الآخرين وإلى القيم المجتمعية والإنسانية، كما هو شهر التربية على الفضائل والبعد عن الرذائل وحفظ اللسان عن الآفات من ذم الآخرين وهضم حقوقهم فهو شهر الإنضباط وحفظ اللسان والجوارح عما يغضب اللــه تعالى، هي القيم الإنسانية التي فصلها ربنا في كتابه الكريم وفرض على المؤمن العودة إليها وتذكرها وتمثلها من هنا كان هذا الشهر يتمثل المؤمنون خلاله بتقربهم بسلوكياتهم من القيم الإنسانية التي أوردها اللــه سبحانه في كتابه الكريم ونبهنا إلى ضرورة تمثلها ليتفرق المؤمن عن غيره، لنزداد تمسك بالقيم المنزلة، ونزداد خوفنا من الإبتعاد عنها والتنكر لها، ولنقنع بمكتسباتنا، ولنستعد ليوم الحساب”يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ” فهدف الصيام هو أن نصل إلى التقوى من اللــه في أفعالنا وأقوالنا، لذلك قال رسولنا الكريم (ربّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر) فإن لم يفعل الصوم فعله في سلوكنا من قول أو عمل فإن قيمته الحقيقية تكون غير محققة ولم نكن قد وصلنا للغاية التي فَرض من أجلها اللــه هذه الفريضة، لذلك فإنه من خلال تدبر معاني القرآن الكريم في هذا الشهر الفضيل يتوجب علينا أن نصل إلى هذه القيم النبيلة التي فرضت من أجلها هذه الشعائر.
وفي هذا الشهر الكريم تتوثق أواصر العلاقات الإنسانية من خلال المشاركة المجتمعية في تبادل الأطعمة والمشارب، من خلال موائد الرحمن، التي كانت تنطلق في جميع البلدان، عملاً بقوله تعالى “وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا” لتكون هذه الإفطارات حالة راقية من مشاركة الآخرين الطعام دون المساس بكرامتهم وبيان التفاوت في المقدرة المالية، وخلال هذا الشهر الفضيل وإنطلاقاً من كونه شهر خيرٍ وبركة، ففيه الحسنة مضاعفة، فقد استحسنت فيه الصدقات وفيها سنة صدقة الفطر التي توجب على كل مسلم قادر وتوزع على الجميع عملاً بقوله تعالى “إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ” لتعميق أواصر التكافل الإجتماعي في هذا الشهر الفضيل الذي يتلوه عيد يحتفل الصائمون جميعاً بإنجازهم ما استطاعوا تحقيقه من فهم وتطبيقاً لقيم الإسلام الإنسانية.
ويتسم هذا الشهر الفضيل إضافة لجهاد النفس التي ذكرها تعالى في كتابه الكريم “وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ” والتي تتجسد في كبح جماح نوازع الشر لصالح نوازع الخير ورفعة القيم الإنسانية، فهو شهر يكافح في الإنسان الأحقاد والحسد والكراهية وفساد ذات البين، في محاولة تحقيق قيم الدين الإنسانية بتغلبه على قطيعة الأرحام والعجز والكسل والغفلة. وإضافة لذلك فإن هذا الشهر الفضيل يتسم أيضاً بكونه أحد الأشهر التي استطاع المسلمون الدفاع عن عرضهم وممتلكاتهم وقد بدأت هذه المعارك بمعركة بدر والتي أطلق عليها سبحانه وتعالى “وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ” فقد كان بداية عهد إنتهاء خذلان المستضعفين وترك المظلومين والإنتصار لهم وترسيخ إنتهاء مهادنة مغتصبي الحقوق ومدنسي المقدسات.
ومن هنا فإننا نرى أن ما يدور على أرض القدس المحتلة أولى القبلتين ومسرى الرسول الكريم في هذا الشهر الفضيل إنما هو تعبير عن إنتفاضة ثلة من فدائيي أمتنا بعد أن خذلهم معظمنا. حيث أن تدنيس المسجد الاقصى هو تدنيس لمساجدنا في كل مكان، كما أن احتلال فلسطين هو احتلال لأراضنا. فلا يمكن أن نستوعب كيف تستقيم عباداتنا في هذا الشهر الفضيل والعديد من المسلمين المتعبدين يطبعون مع هذا الكيان الغاصب، فكيف تستقيم العبادة في هذا الشهر بالنسبة لهؤلاء المطبعين على الأقل في حين أن عصابات الكيان الصهيوني تقتل أخوتنا ويدنسون مقدساتنا ومساجدنا.
إن شهر رمضان المبارك بكونه شهر خير وبركة وزكاة، وكانت تعم فيه موائد الرحمن، وبسبب الحروب والأزمات الاقتصادية التي ألمت ببلدنا، مما جعل من الجوع حقيقة مزمنة في الحياة، حيث يعاني نصف سكان بلدنا من خطر الجوع، وأصبحت سلة المواد الغذائية الأساسية أغلى بنسبة لا تقل عن 200% مقارنة بما كانت عليه قبل عام. وأصبحت اللحوم ترفاً، والخبز أصبح وجبة في حد ذاته. بالنظر لكل هذا فإن هذا الشهر الفضيل هو امتحان حقيقي لنا لمدى مقدرتنا على إستيعاب قيمه الإنسانية والتمثل بقيم التكافل الإجتماعي الذي يمثله، وبقدر تدبرنا القرآن الكريم الذي نزل في هذا الشهر، سنستطيع أن نصل لعيد الفطر، الذي أتمنى من اللــه أن يكون سعيداً علينا جميعاً.
المصدر: اشراق