على الرغم مما جاء في كلام وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف المسرّب، وما تضمنه من توصيف واقعي لأزمة الدبلوماسية الإيرانية خلال العقود الأربعة الماضية من عمر النظام الإسلامي، فإنه تحوّل إلى مادة صراعية حول السياسة الداخلية وحدود ودور ونفوذ المؤسسات المتنافسة للاستحواذ على السلطة من جهة، وتلك التي تحاول الدفاع عن صلاحياتها الدستورية والقانونية والطبيعية من جهة أخرى.
الواقعية التي سيطرت على كلام ظريف في توصيف الحالة الدبلوماسية الإيرانية وعلاقتها المعقدة من المؤسسة العسكرية، وحجم التداخل والتدخل في الصلاحيات بين الذراع الدبلوماسية للدولة، والذراع العسكرية للنظام، وحجم التأثير الذي يمارسه الأخير على طبيعة العمل السياسي، والعلاقات الخارجية، تحديداً الإقليمية لإيران، من المفترض أن تدفع القيادة الإيرانية لإعادة النظر في ترسيم الأدوار بين هذين الذراعين، بناء على متطلبات المرحلة المقبلة التي من المفترض أن تشهد عودة إيرانية إلى الانفتاح الدولي، وترميم علاقاتها مع العالم، وممارسة دورها الطبيعي، واتباع سلوك واقعي وعقلاني في إطار الثوابت والأسس التي تحكم علاقات الدول.
وفي قراءة واقعية لما جاء في كلام ظريف، يمكن القول إنه لا يشكل تهجماً أو عداء للدور الذي مارسه قائد قوة القدس الجنرال قاسم سليماني في ترجمة السياسة الإقليمية للنظام، إنما يمكن أن يدخل في إطار التوصيف لطبيعية هذه العلاقة التي افتقرت إلى نوع من التوازن وعدم التنسيق المتبادل ثنائي الاتجاه بين الدبلوماسي والعسكر، وما يشبه الامتعاض من طبيعة العلاقة بينهما التي كانت الغلبة فيها للبعد الميداني الذي تقوده المؤسسة العسكرية، في حين أن ما يطالب به ظريف ضرورة أن تتوقف قيادة النظام أمام الحاجة إلى تكريس نوع من التوازن بين هذين الجانبين، بما يساعد على إعادة ترميم الدور الدبلوماسي للمؤسسة الرسمية الإيرانية وإعادة إنتاج لعلاقاتها الدولية والإقليمية وفقاً لمقتضيات المرحلة الجديدة، خصوصاً أن خيار الدولة العميقة يأخذ في الاعتبار العودة إلى الحوار مع المجتمع الدولي والذهاب إلى تسويات في مختلف الملفات الإشكالية بعد أن تبنى مبدأ الحوار والانفتاح، وحل الأزمات وتخفيف التوتر بما يسمح له بترجمتها إيجابياً، بحيث توظف في إطار إخراج إيران والدولة والنظام من العزلة الدولية وإعادة بناء الاقتصاد الذي بدأ يترنح تحت ضربات العقوبات والحصار القاسية التي باتت تهدد أسسه واستقراره الذي من المفترض أن يشكل الهاجس الأول لكل أطياف المشاركة في العملية السياسية، وتعمل تحت لواء الدستور القائم إصلاحية كانت أو معتدلة أو محافظة.
وأمام عجز الحكومة الإيرانية على فرض هذا التوازن بين دور المؤسسة الدبلوماسية، وطموحات المؤسسة العسكرية، وحدوده على ساحة العمل السياسي والتأثير في العلاقات الخارجية لإيران، يبدو أن كلام ظريف الذي يدخل تحت عنوان “توصيف الأزمة” لم يكن المخاطب المقصود في الكلام هو السلطة التشريعية العاجزة عن الدفاع عن صلاحياتها أمام المؤسسات الأخرى الخارجة عن سلطتها، أو التي لا تمتلك أي تأثير عليها، بل كان الهدف منه مخاطبة الجهة التي تتحكم بمفاصل القرار التي تعتبر الحكم ونقطة التوازن بين كل المؤسسات والسلطات الدستورية في النظام والدولة الإيرانية، وهي مطالبة تدخل في إطار ضرورات المرحلة المقبلة من تاريخ إيران التي من المفترض أن يرسم معالمها المرشد الأعلى لما بعد قيادته، والخشية من أن تتحول إلى أزمة حقيقة تهدد استقرار النظام وتفتح الباب أمام صراع مفتوح الأفق على السلطة مستقبلاً.
كلام وزير الخارجية لم يكن في جوهره معارضاً أو رافضاً للدور الذي كان يقوم به سليماني على مستوى الإقليم أو تعزيز الوجود الإيراني في الخارج، بل محاولة لتأسيس مفاهيم جديدة للتعامل والتعاطي بين الإدارة الدبلوماسية والذراع العسكرية والأمنية للنظام بما يخدم المصالح الاستراتيجية والقومية الإيرانية، انطلاقاً من ضرورة التأسيس لعلاقة توازنية بين هذين البعدين، وألا تكون الغلبة لطرف على حساب آخر، وألا تكون الدبلوماسية مجرد أداة تنفيذ فقط لرغبات وتطلعات واستراتيجية الذراع العسكرية، لأن التوازن بين حاجات كلا الطرفين يساعد على تحقيق النتائج الأفضل وعدم تحويلها إلى نتائج تكتيكية أو مرحلية قد ترتد سلباً في حال تغيرت الظروف والمعطيات الميدانية.
بغض النظر عن التأثيرات السلبية التي قد تنتج عن هذا التسريب على مستقبل ظريف السياسي والجدل الذي ارتفع في الأسابيع الأخيرة بين إمكانية أن يكون مرشحاً للانتخابات الرئاسية عن التيار الإصلاحي، أو على الأقل أن يكون في صلب المشروع الإصلاحي في قيادة السلطة التنفيذية في حال فوزهم، وأن يتولى مهمة النائب الأول للرئيس، وفي أقل التقديرات إمكانية استمراره في قيادة الإدارة الدبلوماسية التي ستكون محكومة أو متأثرة بالتفاهمات التي رسمها وزير الخارجية خلال السنوات الثماني الأخيرة في العلاقات الدولية لإيران، إلا أن الأهم من الآثار السلبية المباشرة على ظريف، ما فرضه على قيادة النظام والمؤسسة العسكرية بأن تكون مجبرة على إعادة تقويم التطورات، والتوقف عند “جرس الإنذار” الذي قرعه ظريف، وكان من المفترض أن يشكل دافعاً لإعادة النظر في نمط العلاقات داخل السلطة، واللجوء إلى مراجعات حقيقية بعيداً من الأنظار لإعادة إنتاج آليات جديدة من التعامل بين مؤسسات النظام والدولة بما في ذلك رسم حدود التداخل في الأدوار بينها.
وفي مقابل الصمت الذي يخيم على موقف المرشد الأعلى من كلام ظريف، فإن المؤسسة العسكرية باتت في مواجهة حقائق كانت تحاول أن تبقيها بعيداً من الجدل العلني والاستمرار في حالة الانكار وعدم الاعتراف بالأزمة التي تحكم علاقتها مع مؤسسات الدولة، وقد يفرض عليها إعادة النظر في الاندفاعة التي تعيش فيها والتحفز للسيطرة على السلطة التنفيذية من بوابة رئاسة الجمهورية والانتخابات الرئاسية المرتقبة، ما قد يؤخر طموحاتها السياسية التي قد تنتهي بتكريس عسكرة الدولة، في حين أن صمت المرشد قد يحمل على الاعتقاد بأن يكون عاكفاً على دراسة الإيجابيات والسلبيات لهذا الكلام، خصوصاً أن الحاجة إلى ظريف في هذه المرحلة تبدو أكثر إلحاحاً وضرورة للانتهاء من عقدة التفاوض والدور المفصلي الذي يلعبه في الحوارات مع المجتمع الدولي، فضلاً عن أن الآثار السلبية لقرار إخراجه من موقعه، كما تطالب به بعض الجهات المتشددة، قد تكون أكثر وأكبر من قرار المحافظة عليه وإبقائه في موقعه لما بعد الانتخابات، واتضاح معالم المرحلة الجديدة وطبيعة السلطة التي ستنتجها بعد الانتخابات.
المصدر: اندبندنت عربية