يكون هناك إجماع دولي على أن الأمل الوحيد لإنهاء الحرب الأهلية الدموية في سورية عبر تسوية سياسية تفاوضية. ومع ذلك، فإن الأسد وروسيا وإيران والمجموعات المسلحة المدعومة من قبلهم ليس لديهم حاليًا حافز للتفاوض، ويبدو الحل العسكري سيد الموقف. وقد يستمر العمل العسكري دون أن يتداعى المجتمع الدولي لعمل أي شيء لإيقافه.
وتأتي شدة تعقيد العملية التفاوضية من طبيعة النزاع نفسه. فالحرب الأهلية السورية ثلاثة صراعات في صراع واحد: حرب بالوكالة الإقليمية والدولية، انتفاضة شعبية ضد الدكتاتورية، وصراع لمكافحة مجموعات إرهابية مختلفة. بعد أن تحولت القضية في سورية من انتفاضة شعبية الى حرب مفتوحة لمحاربة الإرهاب ومشكلة لاجئين ومساعدات انسانية.
تتضارب الروايات بشأن موقف الولايات المتحدة الأميركية منذ اندلاع الأحداث في سورية في آذار 2011 ولكن الأمر الذي لا شك فيه أن واشنطن لم ولن تتجه للقيام بأي عمل عسكري يزج بقواتها في سوريا، وكان أغلب مسؤولي إدارة اوباما يرددون خلف الأبواب المغلقة إنهم لا يريدون تكرار تجربة العراق. ناهيك أن الفريق الرئاسي في ذاك الوقت كان يخطط لإتمام الاتفاق النووي بين إيران والولايات المتحدة الأميركية، وهو الاتفاق الذي بدأت مفاوضاته من أيام الرئيس جورج بوش الابن في العام 2006.
إلا أن عدم التزام الرئيس أوباما بخطه الأحمر الشهير الذي يتحدث عن عواقب رادعة في في حال نفذت القوات الحكومية في دمشق أي هجوم كيميائي على المدنيين في أغسطس 2012 وتخاذله أمام الهجوم الذي حدث في 2013، كافياً لإرسال إشارة لكل من موسكو ودمشق بأن واشنطن لن تقوم بأي خطوة عسكرية، ويبدو أن طهران دفعت بميلشياتها لمحاربة الفصائل المعارضة بعد أن تأكدت من أن إدارة الرئيس اوباما مهتمة أكثر بالاتفاق النووي الايراني كإنجاز أسطوري للرئيس أوباما.
ومع ذلك، قامت إدارة أوباما بدفع وتشجيع من الجالية السورية المعارضة في واشنطن وعلى رأسها المجلس السوري الأميركي بدعم الفصائل السورية الإسلاموية المعارضة “المعتدلة” من أجل محاربة داعش فقط، لا من أجل عمل عسكري يستهدف فيه نظام الأسد أو المجموعات المسلحة الداعمة له، ذلك أن مكافحة الإرهاب والقضاء على داعش كانت من أولويات الادارة الأميركية منذ بداية الـ 2014.
تلقت الفصائل المعارضة السورية الدعم والتدريب والتجهيز عبر برنامجين، الأول من وزارة الدفاع الاميركية ووصل إلى حوالي 500 مليون دولار، والثاني من الاستخبارات المركزية الاميركية وصل الى حوالي المليار دولار. وكان البرنامج الأميركي بالتعاون مع دول اقليمية ودولية متعددة منها بريطانيا وتركيا والأردن والسعودية وقطر والإمارات وغيرها، وكانت متابعة عمل الفصائل المعارضة المسلحة السورية “المعتدلة” تجري من غرفتي عمليات مشتركة إحداهما في الشمال (الموم) ومقرها تركيا، والثانية لفصائل الجنوب (الموك) ومقرها الأردن.
وضمن إطار الجهود الدولية لمحاربة الإرهاب، قامت واشنطن برعاية قوات سورية الديمقراطية (قسد)، وهو تحالف تهيمن عليه وحدات حماية الشعب الكردية (YPG)، والتي يُزعم أن لها صلات بالجماعة الإرهابية الانفصالية التركية (حزب العمال الكردستاني). وخلال ذلك، أطلقت تركيا عام 2016، العملية العسكرية “درع الفرات” والتي دعمت فيها مجموعة من فصائل المعارضة المسلحة مثل جيش الإسلام وأجزاء من أحرار الشام. بهدف محاربة داعش ومحاربة القوات الكردية المرتبطة بحزب العمال الكردستاني والمدعومة من الولايات المتحدة الاميركية. وبما أن كلتا القوتين كانتا متجهتين إلى الرقة، برز خط الصدام بينهما أي عناصر مدعومة من الولايات المتحدة الأميركية عسكرياً مع عناصر مدعومة من حليف الناتو لواشنطن ألا وهو تركيا.
في المقلب الآخر كان الظهور العسكري العلني لحزب الله عام 2013 في معركة القصير، إذ استعان النظام بميليشيا حزب الله في قتال الجيش الحر بين عامي 2011 و2014 بعد أن أنهكت الانشقاقات جيشه.
هناك أكثر من عامل لعب دوراً مهماً في تدخل روسيا العسكري والسياسي في الساحة السورية دعماً لنظام الأسد. إذ تعد سوريا تاريخيّاً منطقة نفوذ للمعسكر الشرقي بقيادة موسكو السوفييتية. فالجيش السوري جيش “شرقي” من حيث العقيدة القتالية والسياسية ومن حيث المعدات والتدريب.
وقد تلقف بوتين الخط الأحمر الواهي الذي رسمه أوباما بشكل محنك وتأكد أن الولايات المتحدة الأميركية ليست معنية بأي تدخل عسكري في سورية، خصوصاً أن تدخل الناتو الجوي المدعوم من واشنطن في ليبيا كان قد انعكس بشكل سلبي على موقف إدارة أوباما في تعاطيها مع ثورات الربيع العربي بشكل عام. و مع ظهور داعش عام 2014 أصبح التعاون العسكري بين موسكو وواشنطن يشكل أرضية مشتركة، وانخراط الطرفين بعمليات سياسية للوصول الى تسوية بدءاً من جنيف مروراً بالتحالف الايراني -الروسي -التركي الذي عزز مسار أستانا وقوّى موقف روسيا ضد فصائل الجيش الحر خصوصاً بعدما رفعت واشنطن الغطاء عنها، وأعلن الرئيس ترامب إيقاف الدعم العسكري للمعارضة السورية في عام ،2017 والتوجه للحديث بشكل مباشر مع روسيا في قمة هلسنكي بين الرئيسين ترامب و بوتين، ما غيّر خارطة التعاطي الكلي للولايات المتحدة الأميركية مع الملف السوري بشكل واضح و صريح، و ظهرت نتائج ذلك بإعلان الرئيس ترامب القضاء على أبو بكر البغدادي، والانسحاب من سورية، وحصر التواجد العسكري في آبار النفط لحمايتها، و تقديم الدعم لشركاء واشنطن على الأرض (قوات قسد) وهو أمر مشكوك فيه أيضاً، إذ أن السفير جيفري جيمس صرح في عدة مناسبات، إن على قوات قسد التفاوض مع جهة غير واشنطن لضمان مقعد تمثيلي في العملية السياسية في مستقبل سورية. ومنذ عام 2017 أصبح دور الولايات المتحدة الاميركية محصوراً بالمساعدات الإنسانية ومكافحة الإرهاب ودعم قرار مجلس الأمن 2254 المتعلق بالتسوية والانتقال السياسي وإجراء انتخابات والذي لم يأت على ذكر مصير بشار الأسد، إمّا سيكون جزءاً من الانتقال السياسي أو لا.
لا شك بأن رؤية موسكو للحل هي التي تأخذ مسارها بشكل واقعي. فالواقع العسكري والسياسي يفرض نفسه بقوة على مسار الحل في سورية. ولا شك أيضاً أن سيطرة قوات النظام على مناطق نفوذ المعارضة السورية المسلحة أعطت النظام وروسيا قوة تفاوض لفرض شروطهما، ورأينا هذا الأمر جلياً فيما يتعلق بلجنة صياغة الدستور والتي لم يلتئم شملها لأكثر من مرة، وعرقلت سيرها دمشق من خلال التسويف، وإطلاق حملة عسكرية استهدفت إدلب المعقل الأخير للمعارضة السورية المسلحة المدعومة تركيّاً تحت مسمى جديد “الجيش الوطني” ومجموعات إرهابية متشددة كهيئة تحرير الشام وحراس الدين. في الوقت الذي ظهر فيه رأس النظام بشار الأسد في عدة مناسبات يرسل رسائلاً إيجابية لكل من أنقرة والأكراد السوريين موضحاً الموقف السياسي الإيجابي من كلا الطرفين، ومن هذا المنظور يجب على المعارضة السورية الاعتراف بواقعية المشهد السياسي الدولي والتخطيط للمستقبل بناء على ما هو قائم لا على ما هو مأمول منه، وذلك يتطلب الكثير من العمل السياسي والقليل من النشاط الثوري وعدم التفاؤل بحسن نية الآخرين.
المصدر: بروكار برس