هذا كتاب صدر في القاهرة، أخيراً، ويستحق الانتباه. ليس فقط لمحتواه ومضامينه، بل وأيضاً للسياقات التي تحيط بالنشر في مجتمع تحت ضغط شديد الوطأة من الضبط والقمع والمنع. فضلاً عن إعادة إنتاج الانقسام والتناحر الإقصائي الاستئصالي إلى حد إحياء ثقافة إراقة الدم بين مكوناته، وقد ترجمتها واستدعتها صناعة دراما التسلية الرمضانية على شاشات التلفزيون المصري، كما في مسلسل “الاختيار 2”.
وعند كتاب الباحث والكاتب الصحافي، هشام جعفر، المعنون “سردية الربيع العربي ورهانات الواقع” استثناءات تتحدّى سياقاً كهذا. ويُكتفى منها بالإشارة إلى أن المؤلف بالأصل إسلامي، فيما دار النشر يسارية (المرايا). وكذا لأن المؤلف ظل حبيس سجن العقرب سيئ الصيت نحو ثلاثة أعوام ونصف العام، محبوساً احتياطياً (معتقل إداري)، من دون إدانة قضائية أو محاكمة جدّية، محروماً من حقوق القراءة والكتابة، وحتى العلاج، فكاد يفقد بصره. وها هو لم يخرج متطرّفاً ناقماً على المجتمع والدولة، أو يائساً معتزلاً الحياة ومتحولاً عن الاطلاع على مستجدّات الفكر السياسي والتفكير في الوطن والثورة والإصلاح والمستقبل.
وثالث السياقات يشهد على حال الصحافة المصرية التي أفاد التصنيف العالمي السنوي لمنظمة “مراسلون بلا حدود” عن حرية الصحافة، قبل أيام، بأنها تلتزم مكانها البائس في القائمة السوداء، فتحتفظ بالمرتبة 166 من إجمالي 180 دولة. بل ويتضح أنها متراجعة ومتخلفة في محيطها الإقليمي، فلا يتبقى دونها وأتعس منها سوى صحافة دولة واحدة من إجمالي 55 أعضاء الاتحاد الأفريقي وخمس دول عربية. واللافت هنا أن هذا الكتاب يتكوّن بالأساس من تجميع 13 مقالاً رصيناً في الفكر السياسي وتصنيفه، لم ينشر منها داخل مصر إلا أربعة في موقع إلكتروني محجوب، مدى مصر، فيما وجد معظمها طريقه إلى منصّات وازنة واسعة الانتشار خارج بلد الكاتب.
يلفت النظر بداية في مقدمة الكتاب استدعاء مؤلفه الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987ـ 1993) وتحليل المفكر الراحل عبد الوهاب المسيري لها، وفق “النماذج المعرفية الإدراكية”. وهذا الاستدعاء بمثابة إشارة ذكية تربط بين حلقة مهمة من المقاومة الشعبية الفلسطينية للاحتلال الصهيوني وأثرها في مختلف الشعوب العربية والخروج الجماهيري الكبير مع موجتي الربيع العربي انطلاقاً من 2010 /2011 و2019، وإن كانت صفحات الكتاب لم تولِ هذا الارتباط اهتماماً وتعمقاً يليقان برمزية هذه الإشارة وتاريخيتها وجدّيتها. ولكن هذا الأمر يمكن تفسيره بأن مؤلف الكتاب، من موقع باحث السياسة، مهتم ومنشغل أساساً بإثارة قضايا الحاضر والمستقبل ومعالجتها، لا بمهام المؤرّخ، وحتى لو كان ما بين الانتفاضة الفلسطينية والانتفاضات والثورات العربية اللاحقة هو ما يسمى “التاريخ الآني”، الذي قد يزاوج بين حقول التاريخ والسياسة.
أولوية الكتاب مع تنوّع المجالات التي تناولها، مصرياً وإقليمياً ودولياً، عن الربيع العربي هي معالجة المسار الصعب المتعثر من أجل إحداث تحوّل ديمقراطي ذي جوهر اجتماعي، أحد شروط نجاحه إعادة بناء الدولة. وتعكس نصوصه على هذا النحو وعي كاتبه باللحظة العربية الراهنة الممتدة بين ماضٍ يرتحل، فيما يتشبث بالبقاء مع كونه “منتهي الصلاحية”، وجديد لم يستطع الحسم لصالحه ولأجل المستقبل. وهذا مع الأخذ في الاعتبار أن الإجابات عن أسئلة “كيف سيكون الجديد” غير جاهزة أو واضحة تماماً بعد. ويتجسّد هذا الماضي في دولة ما بعد الاستقلال الاستبدادية، “الدولة الوطنية” التي قامت على مقايضة ضمان الاحتياجات المعيشية الأساسية بحرية مواطنيها وكرامتهم، وقد باتت عاجزةً في عالم متغيّر عن الاستمرار في هذه المقايضة، نظراً إلى إخفاقها منذ عقود في تلبية هذه الاحتياجات من تعليم وصحة وعمل وغيرها، وتحلّلها من التزام اقتصادي اجتماعي كهذا، كما يتجسّد هذا الماضي أيضاً في تلك الحركات السياسية الإسلامية والعلمانية، أسيرة الأيديولوجيات الشمولية.
ومع إدراك خطأ التعميم تجاه منتسبي التيارات الفكرية السياسية وتعبيراتها، والحاجة لتجنب الوقوع في شراك معاركها القائمة على الاستقطاب والأحكام المطلقة، يقدّم الكتاب نقداً للإخوان المسلمين في مصر خلال موجة الربيع الأولى، ولحركات الإسلام السياسي بشقيه، السني والشيعي في العراق ولبنان والسودان، مع الموجة الثانية لهذا الربيع. وبجرأة تُحسب للكاتب، يحدّد أبرز أوجه هذا النقد في الانتهازية السياسية، وعدم امتلاك مشروع ديمقراطي للسلطة، وتفشّي مظاهر الفساد تحت لباس التقوى، وصولاً إلى قوله: “أثبتت السنوات الأخيرة أن مشروع الإسلام السياسي، في بنيته السياسة، متهافت إلى درجةٍ لا تؤهله ليكون مشروعاً للحكم يقدّم البديل للدولة العربية المتأزمة. وعلى العكس أظهرت تجربة الإسلاميين أن المشروع الذي حملته حركات الإسلام السياسي يزيد الواقع مأساة، إذ هو منفصلٌ بقدر كبير عن متطلبات الواقع، ويميل، في معظمه، إلى الشعاراتية التي لا تدعمها برامج ومشاريع واضحة للحكم”. وشجاعة هذا النقد من كاتب محسوب في النهاية على الإسلاميين تستحق التقدير، وتدعو إلى التساؤل عن مدى توفر نقد بالجرأة والشجاعة ذاتهما بين يساريين وليبراليين أيضاً.
غياب قيم الديمقراطية والمواطنة وممارساتهما، وافتقاد الوعي بالأبعاد والاحتياجات الاجتماعية، مع الرغبة في الهيمنة، أمراضٌ يشخّصها الكتاب بين أخطاء الإسلاميين، أسهمت في تعثر موجتي الربيع العربي. لكنها تتفشّى كذلك بين خصوم للإسلاميين، وتؤدّي إلى نتائج كارثية أيضاً، إذا أضيفت إليها نزعات الإقصاء والاستئصال. وفي الكتاب تبدو الحرية/ الديمقراطية بمثابة الكلمة المفتاح لعلاج واقعنا العربي. ولكن لعل ما فاته هو حاجتنا لاتفاق واسع وعقد جديد بإعلان مبادئ يضمن حقوق الإنسان وحرياته كمكتسبات تعقب الانتفاضات والثورات، لا يمكن التنازل أو التراجع عنها.
وفي المجمل، يطرح الكتاب تساؤلات، ويقدّم خطوطاً عامة أكثر مما يتوقف عند التفاصيل والتجارب المحددة، فهو على العموم يحذّر من جدل الهوية وصراعاتها وتأثيرها السلبي على فرص نجاح الانتفاضات والثورات العربية. ويشير إلى معضلة أخرى، تعانيها الدول العربية، تتمثل في ارتهان استمرار الدولة ببقاء النظام الحاكم. كما ينحاز إلى المساومات والمفاوضات من أجل إعادة بناء الدولة بين قوى من النظام القديم وتلك الجديدة القادمة من رحم الثورة. وعلى هذا النحو، كأن الكاتب ينشد “توليفة” ما بين القديم والجديد، لعبور مراحل الانتقال الصعبة. وأعتقد أن مسألة “الاستقرار” تشغل حيزاً مهماً في الفكر السياسي لمؤلف الكتاب. وربما كان هذا جرّاء ما شهده العالم العربي من ثلاث حروب أهلية في اليمن وليبيا وسورية، وما أسفرت عنه من معاناة وملايين اللاجئين إثر موجة الربيع الأولى، فمؤلف الكتاب يشدّد على أن الفوضى عدو الديمقراطية، لكنه أيضا يعتبر أن دعم الاستبداد يؤدي إلى نتائج عكسية بالنسبة لفرص الاستقرار على المدى الطويل.
ولا يغفل الكتاب عن تناول مواقف القوى الدولية من الربيع العربي، عبر قراءة الباحث السياسي وثائق ودراسات أميركية في عهد الرئيس ترامب. وهنا نلمس وعياً بالسياق المحافظ أميركياً وروسياً وصينياً إزاء انتفاضات الربيع العربي وثوراته. ويطرح الكتاب سؤالاً مهماً: هل يمكن أن تستفيد قوى التغيير عندنا من التنافس الأميركي الصيني لبناء الحكم الرشيد؟ ولا يقدم إجابة. لكنه في غير موضع من صفحاته ينفتح على حركات مناهضة العولمة النيوليبرالية. وثمّة إشارة مهمة إلى التفاعل والتفاعل العكسي بينها وبين الانتفاضات والثورات العربية. وهكذا من حركات مناهضة الحرب على العراق، مع مطلع الألفية، إلى تردّد أصداء الربيع العربي، مع صعود هذه الحركات في موجة جديدة خارج الجغرافيا العربية، وخصوصاً في عالم الشمال وأميركا اللاتينية. وثمة هنا تنبيه لافت إلى أهمية بناء تحالفات عولمية، يمكنها مواجهة الليبرالية الجديدة وتقديم حلول لأزمات الديمقراطية التمثيلية. وفي كل الأحوال، يرجح الكتاب أن العوامل والفواعل الداخلية/ المحلية تظل الأساس والعنصر الحاسم في مصير الربيع العربي.
وثمّة في الختام دروس مستخلصة من مآلات الربيع العربي، تتقدّمها حاجتنا إلى مراجعات كبرى في الثقافة والسياسة، من أجل بناء توافقات بين القوى ذات المصلحة في الإصلاح والتغيير، وبما في ذلك التوافق على هوية وطنية جامعة، وإدراك أن تفكيك الدولة العميقة عبر النضال السلمي عملية ممتدة، تتطلب إنفاق وقت طويل، والعمل على إقامة منظومة عدالة انتقالية فعالة ومحل ثقة. ولعل الدرس الأهم الذي تقدّمه التراجعات والانتكاسات في مصر وغيرها من مجتمعات الموجة الأولى للربيع العربي هو ذلك الذي يتعلق بكارثية استمرار غياب نقد الذات، وثقافة الحوار والتعايش من دون إقصاء، والقبول بالتعدّدية بين النخب والتيارات الفكرية/ السياسية المختلفة في الوطن الواحد. وفي الظن أن إصدار هذا الكتاب، والآن في القاهرة، وفق السياقات المشار إليها في بداية المقال، محاولة وخطوة في اتجاهٍ صحيح يعالج هذا الغياب.
المصدر: العربي الجديد