لم أكن سمعت به من قبل، ولكن حين التقيته لأول مرة في إحدى مقاهي دمشق وقد جاء صحبة صديقينا علي العبد الله دخل إلى قلبي بسرعة. كان ذلك عام 1997، فوجئت وقتها بأن ميشيل كيلو يتحدث عن الوضع الداخلي في سوريا بجرأة لافتة غير عابئ بمن يجلس بجانبنا وهو يعلم، أكثر من غيره، أن من بينهم عيونا كثيرة للمخابرات.
لهذا لم أستغرب أن صار هذا الذي جلست معه جلسة تعارف قصيرة على فنجان قهوة أحد المساهمين بقوة وهمة في ما عرف بـ«ربيع دمشق» القصير عام 2000 حين انطلقت المنتديات والندوات تتحدث عن الوضع الداخلي في سوريا ومطالب الاصلاح الضرورية بعد رحيل حافظ الأسد وتسلم ولده بشار زمام الأمور. ولهذا لم أستغرب كذلك أن صار هذا الرجل عام 2005، أحد الموقعين البارزين مع عدد من الشخصيات والتيارات على «إعلان دمشق» تلك الوثيقة السياسية التي قدمت تصورا محددا للانتقال الديمقراطي في البلاد، كما كان من الموقعين على «إعلان بيروت – دمشق» في 2006، وهو العام الذي اعتقل فيه مع آخرين، وحكم عليه بالسجن لثلاث سنوات بتهمة «نشر أخبار كاذبة وإضعاف الشعور القومي والتحريض على التفرقة الطائفية».
في يوليو/تموز 2008، كنت في باريس أحاور في مقابلة تلفزيونية الرئيس السوري بشار الأسد الذي كان يزور فرنسا وقتها. كان ميشيل كيلو وقتها في السجن، لهذا ظللت ألح وأعيد على الرئيس لأظفر منه بكلمة طيبة أو أي وعد غائم بإطلاق سراحه ورفاقه الآخرين دون فائدة. واصلت الإلحاح والتكرار بأن هؤلاء المسجونين من «المعارضة الوطنية» حتى ضمن التصنيف الرسمي، لكنه ظل يتهرب ويراوغ ويعيد بأن هؤلاء لم يسجنوا لآرائهم بل لخرقهم القانون السوري!! كان عنيدا ولم يشأ أن يقدم أي تنازل أو استعداد للنظر في وضعهم وهو ذات العناد الذي أوصل البلاد إلى ما وصلت إليه الآن.
عندما اندلعت الثورة السورية مطالبة بالحرية والكرامة كان طبيعيا جدا أن يكون ميشيل كيلو أحد أبرز وجوهها وظل محافظا إلى آخر يوم في حياته على نوع من «النقاء» لم يكن موجودا للأسف عند كثيرين. ووفق ما ذكرته السيدة سميرة المسالمة الصحافية السورية التي وقفت مع الثورة مبكرا وقد كانت رئيسة تحرير «تشرين» فإن ميشيل كيلو، الذي توفي الاثنين في باريس، طلب منها إعداد وجمع رسائله التي كتبها في مقال واحد وإرسالها للصحافي معن البياري لينشرها في جريدة «العربي الجديد» لتكون «وصيته إلى كل السوريين بكل قومياتهم وإثنياتهم، متمنياً لهم وطنا حرا كافح من أجله مع كثير من السوريين الأحرار، ودفع أثماناً باهظة لموقفه الحر والنبيل».
نشرت هذه الوصية فعلا وانتشرت على نطاق واسع، قبل وفاته وبعدها بالخصوص، ففيها عبّر الراحل عن كل ما استخلصه من دروس، ليس فقط من تجربته النضالية قبل الثورة وإنما كذلك بعدها، في ضوء ما عرفته من دماء وانكسار بعد مئات الآلاف من الشهداء والجرحى واللاجئين والنازحين. أفقه الرحب وقبوله بالاختلاف ونبذه للإقصاء هو ما جعله يقول للسوريين في هذه الوصايا «ألا ينظروا إلى مصالحهم الخاصة كمتعارضة مع المصلحة العامة، وألا ينظروا الى وطنهم من خلال أهدافهم وإيديولوجياتهم، بل من خلال وطنهم» حاثا الجميع على الالتقاء «بمن هو مختلف معكم بعد أن كانت انحيازاتكم تجعل منه عدواً لكم». قائلا لهم إنهم لن «يقهروا الاستبداد منفردين، وإذا لم تتحدوا في إطار وطني وعلى كلمة سواء ونهائية، فإنه سيذلكم الى زمن طويل جدا» و أنكم «لن تصبحوا شعباً واحداً ما دمتم تعتمدون معايير غير وطنية وثأرية في النظر الى بعضكم وأنفسكم، وهذا يعني أنكم ستبقون ألعوبة بيد الأسد الذي يغذي هذه المعايير وعلاقاتها وأنتم تعتقدون إنكم تقارعونه».
لكل ما سبق رثاه الجميع، وحزن عليه الجميع، من السوريين ومن غيرهم من التواقين إلى الحرية. الكل كتب عنه برومانسية واضحة وبكثير من الود لهذا السياسي المفكر الذي ظل محل تقدير واحترام الجميع تقريبا. حتى الأحزاب خرجت بياناتها بلغة غير التي تلك الركيكة المعهودة في بيانات الأحزاب، كهذا المقطع الجميل مما ورد في بيان «حزب الشعب الديمقراطي السوري» اليساري المعارض:
لو صارت البلاد بلادنا…
لمشت دمشق في جنازتك، ولقُرعت أجراس الكنائس في باب توما حداداً عليك.
لو صارت البلاد بلادنا…
لبكتك حمص وحماة ومصياف وعفرين ووادي العيون جهاراً.
لو صارت البلاد لأصحابها…
لشدوا عليك بدير الزور معادةً في الساحة العامة، ولنصبت لك في المدن السورية خيم العزاء، ولارتفع صوت القرّاء يتلون آياتٍ من الذكر الحكيم وسورة ياسين.
ويوماً ما، إن لم نكن نحن… فسنوصي أبناءنا
حين يتحقق حلمك بسوريا الحرة والديمقراطية، المتصالحة مع نفسها، الململمة لجراحها.
سنوصي أبناءنا إن لم نكن نحن…
أن يقفوا على قبرك ليقرؤوا الفاتحة وإصحاحاً من الإنجيل.
المصدر: القدس العربي