أصبح المشهد السوري مدهشًا ومثيراً للجدل من جميع جوانبه، الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية، وباتت الإحاطة بكامل الصورة أمراً أكثر تعقيداً، لاسيما بعد مرور عقد من التدخلات والتداخلات بين ما هو محلي ودولي وأقاليمي، فتضاربت الأهداف وتقاطعت المصالح على الجسد السوري المُثخن بجراحاته والمُثقل بتركات مكوناته الملونة والمتباينة، والنازف لمعظم موارده، ولعل أكثر خساراته إيلاماً هو تفتت الرصيد الاجتماعي من العلاقات والصلات والشبكات المجتمعية، والمشاركة والقيم والاتجاهات بين مكونات الشعب السوري من أفراد وجماعات ومنظومات وكيانات تعيش على الأرض السورية.
ولعله أصبح من الضروري لكل سوري ينتمي إلى سوريّته، دون أن نحيّد أهمية الانتماءات الفرعية الأخرى، أن ينظر بعين المسؤولية إلى نزيف رأس المال الاجتماعي السوري، والانتقال من منظور كونه أحد نتائج النزاع، إلى منظور كونه أحد مداخل عودة لمّ شمل السوريين، بعد شتاتهم الجغرافي والنفسي، وغربتهم التي طالت، وأصابت تفاصيل حياتهم.
ومن المهم أن نولي الدور الاجتماعي لبعض السلوكيات والأنشطة والفعاليات وصداها بين السوريين، ما تستحق من اهتمام من مثل: نشاط التحويلات المالية من اللاجئين إلى ذويهم، والرياضة والأغاني والفنون المختلفة، والتفوق العلمي والدراسي والإبداعات الفردية، وريادة الأعمال والمشاريع الناجحة، لأن تحقيق هذه الأنشطة والمساهمة فيها يعيد إذكاء جذوة الأمل، ويعيد السوريين للحقيقة الجميلة الموجعة وهي أنه ليس للسوري إلا السوري نفسه.
ومن المفيد أن نتساءل في هذا السياق عن كيفية انهيار رأس المال الاجتماعي في سوريا قبل مرحلة الثورة؟
لعل الأمر لم يكن بخير أصلًا قبل ثورة السوريين الكاشفة، وقد كان في العلاقات والصلات الاجتماعية الكثير من الخلل والفجوات والتعقيد و الناجمة عن سياسات الدولة في تنمية مجتمعية غير متوازنة وغير عادلة، وغياب تكافؤ الفرص في الواجبات والحقوق، وتدني جودة العلاقات بين المكونات وتفشي الخوف والغموض في التعاملات، إضافة إلى تغييب دور المجتمع المدني ووأد المبادرات الأهلية بشتى أنواعها، ورسم الحدود الاجتماعية، وتقييد الوصول للفرص من خلال سياسات التوظيف والتعليم والخدمات، ولا ننسى تغييب الحياة السياسية السليمة والحرص على خلق الأوهام والأعداء بما يسمح بإعادة ترتيب الأولويات من قبل سلطة الحكم كيفما تريد.
وقد جاءت ثورة 2011 لتكشف الغطاء عما كان مستورًا، وجاء هذا الكشف في كثير من مظاهره مدفوعًا بتوظيف يعتمد على الشحن الطائفي والفئوي والسياسي السلبي، وتجلى هذا الانكشاف على هيئة ظواهر تدق ناقوس الخطر، وتشير إلى عمق الشرخ واتساع الهوة وغزارة هذا النزيف، ومن تلك الظواهر التي كشفتها مرحلة الثورة هي مرحلة تخلي الدولة عن مسؤولياتها الاجتماعية، وانتشار ظاهرة العقاب الجماعي، والتجويع والحصار، وتشويه القيم الاجتماعية، مما سمح لانتشار مظاهر الفساد الأخلاقي والعنف بأشكاله، وكذلك التهجير القسري والتغيير الديمغرافي داخل حدود البلاد، وبأسلوب فيه من الدلالات والأسى ما يصعب تجاوزه في زمن قصير، ولا تفوتنا الإشارة إلى الاعتداء على أملاك الغائبين والاستقواء بميليشيات مأجورة، والاعتماد على الاعتقالات العشوائية والتغييب والتصفية، والتهاون بأدنى درجة من درجات الإنسانية، وتهيئ بيئة حاضنة لنشوء جماعات لا تقبل من يختلف معها، بل تسعى إلى إزالته من الوجود بشتى سبل الموت والتغييب، وبرزت ظاهرة التشفي والسحل والحرق والذبح، بالإضافة إلى حالة اللجوء السوري، التي يتم استثمارها في تنافس المشروعات الدولية والإقليمية في ملاعب الإعلام والسياسة.
ولعبت سلطات الأمر الواقع على امتداد الجغرافية السورية دوراً كبيراً في تشويه مفهوم الانتماء لسورية وشيطنة الرأي العام، وتفصيل معايير خاصة بكل سلطة، ونشر شعارات تزيد الشرخ واتساع الفجوة بين مكونات المجتمع السوري، التي تواجه الظلم والألم على حد سواء، لكن لكلِ مكون الطريقة الخاصة به.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: ما الذي يمكننا القيام به؟ ومن يقوم بذلك؟
قد يبدو لنا التحدي كبيراً والتصدي له صعب، وتلمس دورنا في خضم هذا المشهد ليس أمراً سهلاً، ولكن هذا لا يعفينا من هدم كل التصورات الخاطئة المسبقة عن بعضنا البعض نحن السوريين، وإعادة برمجة العقلية السورية، من خلال الأدوات الاجتماعية المتاحة كالفن والنشر والإعلام والدعوة للتعارف من جديد، ثم البحث عن دور المجتمع المدني والأهلي المفقود، والبدء بالتواصل بين المكونات وفتح الانسداد الحاصل في قنوات الاتصال وعدم الاستسلام لأوهامنا وخوفنا من شركاء الوطن، والتركيز على التعليم للسوريين أينما وكيفما وُجِدوا، والابتعاد عن التلاعب والاعتداء والتزوير في الوثائق والملكيات للغائبين والمغيبين، واعتبار ذلك حداً اجتماعياً لا يجوز عبوره مطلقاً، وكذلك من خلال السوريين المشغّلين لمشاريع المنظمات العاملة في الشأن السوري، إذ يمكن إعادة النظر بدورها وتطويره إلى دور تنموي، وضرورة تفعيل الحوار المجتمعي والتدريب على تقبل الآخر وتقبل السوري الجديد، ونبذ كل مظاهر العنف والإقصاء، والاستفادة من تجارب الآخرين، ولا سيما بعد هذا الخذلان الكبير، والخيبة التي تلقاها الشعب السوري من الكثير من مكونات المجتمع الدولي وأدواته.
من نافل القول التأكيد على أن البشر أولى بالرعاية من الحجر، ولعله من المفيد أن ندعو نحن السوريين بعضنا البعض إلى أن نتعارف من جديد، ونتآلف على المشتركات، لأن نظام الحكم والاستبداد وأشكال المعارضات الهزيلة لن تدوم، والثابت الأكيد أننا سنلتقي على هذه الأرض ذات العمق الحضاري، التي تستحق الحياة أكثر مما تستحق الموت.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا