تعيش اسكتلندا مخاضها المتجدد الذي يأمل الاتحاد الأوروبي أن يعيدها إليه بعدما أفقده إياها البريكست البريطاني، فيما دعاة الاستقلال عن المملكة المتحدة يرفعون أصواتهم مطالبين باستفتاء ثان، ويطعن كل من الطرفين الآخر، في مواجهة مفتوحة لن تتوقف تداعياتها عند حدود البلاد.
كاد السياسي الإسكتلندي المخضرم أليكس سالموند، 66 عاماً، يسقط سقوطاً مدوياً، حين وُجهت إليه 14 تهمة بالاعتداء الجنسي على عدد من مساعداته السابقات بين 2008 و2014، أي بعد عام من وصوله الى رئاسة الحكومة المحلية وحتى عشية استقالته منها.
لكن سرعان ما نهض الرجل الذي قاد “الحزب القومي الإسكتلندي” عشرين سنة، من كبوته، فانتزع البراءة في آذار (مارس) 2020، ثم راح يسدد لكمات شبه قاضية إلى نيكولا ستورجين رئيسة الحكومة الإسكتلندية منذ 2014، والتي كانت نائبته لسبع سنوات. ولا تزال هذه تترنح تحت وطأة الفضيحة، لا سيما بعدما أدانتها لجنة التحقيق البرلمانية الشهر الماضي بالتكتم على معلومات تتصل بالقضية عن البرلمان.
هكذا يكمل طائر “الفينيق” الإسكتلندي رحلة العودة الى صدارة الحياة السياسية في بلاده من جديد، بإطلاق حزب “آلبا” (اسكتلندا باللغة الغيلية)، قبل أيام، لخوض الانتخابات البرلمانية المحلية المقرر إجراؤها في السادس من أيار (مايو) المقبل.
يصعب الجزم بما إذا كانت عودة سالموند الى الحياة ستؤذن ببداية النهاية بالنسبة الى ستورجين. ومن السابق لأوانه التكهن بنتائج “الحرب” بين الاثنين والمستمرة بوتيرة تصاعدية منذ 2014، على الأقل. إلا أن الدلائل تشير حتى الآن الى أن نزاعهما قد يصل الى مستويات لم تبلغها صراعات الإخوة – الأعداء من أبناء الشعوب الصغيرة الباحثة عن الاستقلال، والتي كثيراً ما ينشغل أبناؤها بحروبهم الداخلية، كما يقال عن سياسيي كاتالونيا وكردستان العراق مثلاً، فيفوتون على أنفسهم فرصة إقامة دولتهم المنشودة.
والحق أن اسكتلندا كانت ولا تزال ميداناً لصراعات عدة، تدور فيها وعليها، وهي تتداخل ليؤثر بعضها ببعض، ما يجعل المواجهة بين القطبين القوميين محفوفة بالأخطار، وحبلى بالاحتمالات.
صحيح أن ستورجين تلحّ منذ سنوات على وجوب السماح للإسكتلنديين الذين صوّتوا بغالبية 62% لمصلحة البقاء في الاتحاد الأوروبي بتقرير مصيرهم عبر استفتاء ثان على استقلالهم عن المملكة المتحدة التي باتت خارجه. وقد اتخذت من الاستفتاء على الاستقلال عنواناً لحملتها الانتخابية الحالية. أما سالموند، فهو الآخر شدد على أن حزبه لن ينافس “الحزب القومي الإسكتلندي” في الدوائر الانتخابية الرئيسة، بل سيدفع بمرشحيه لخوض السباق الانتخابي فقط في المناطق، في محاولة لتحقيق “غالبية مطلقة” في البرلمان المحلي للنواب المؤيدين للاستقلال، من شأنها أن تشكل ضغطاً لا يستطيع بوريس جونسون رئيس الوزراء البريطاني مقاومته ورفض إعطاء الإذن بإجراء الاستفتاء.
ثمة صعوبات كثيرة دون بلوغ هذا الهدف، يعود بعضها الى صراعهما الخفي. فقد أخذت أسهم ستورجين تتراجع منذ أثيرت التساؤلات حول مدى تدخلها، ولو بشكل غير مباشر، في تحريك قضية الاعتداءات المزعومة ضد سالموند. ويتردد أن شعبية الأخير متدنية إلى مستوى أقل حتى من بوريس جونسون، حسبما تفيد شركة “يو غوف” لاستطلاعات الرأي. وقوبل تعهده عدم منافسة مرشحي حزبه السابق، بالسخرية من جانب معلقين شككوا في صدق نياته، معتبرين أنه عازم على الانتقام من ستورجين حتى ولو أدى ذلك الى شق صف أنصار الاستقلال. ولا ننسى أن نسبة هؤلاء تتأرجح حالياً في استطلاعات الرأي لأسباب عدة، بينها الصراعات الداخلية، ولكون الاستقلال مغامرة قد تكبدهم خسائر اقتصادية جسيمة، ما حمل 55% من الإسكتلنديين على رفضه في استفتاء 2014. ويشير تقرير أصدرته “كلية لندن للاقتصاد” في شباط (فبراير) الماضي إلى أن الاقتصاد الإسكتلندي سيتقلص بنحو 11 مليار جنيه استرليني سنوياً في حال الانسحاب من المملكة المتحدة.
وإذا أُجهضت المحاولة الثانية للفوز بالاستقلال، فإن ذلك سيصب في مصلحة بريطانيا، التي تخوض هي الأخرى صراعاتها مع اسكتلندا منذ سنوات. أما انسحاب اسكتلندا فسيقلل من مكانة بريطانيا على المسرح الدولي والسياسي، لا سيما أنه يأتي بعدما تعرّضت مكانتها لضربة البريكست القاصمة، وسيؤذيها اقتصادياً، نظراً الى أنها ستضطر لتقاسم عائدات النفط والصيد البحري وغير ذلك مع الدولة الجديدة. وإذا فقدت دولة الاتحاد البريطانية اسكتلندا أهم أركانها، فسيدفعها ذلك بعيداً على طريق التفكك والانهيار، وهي التي تسمى تندراً “مملكة مقسمة”.
وسينعكس هذا بالضرورة، بطرق شتى، على الاتحاد الأوروبي، الذي يعتبر طرفاً آخر ممن يطاولهم الصراع المعقد الذي تشهده اسكتلندا. وقد نُسب الى مسؤولين أوروبيين ترحيبهم بالاستقلال. رئيس المجلس الأوروبي السابق دونالد توسك، هو أحد هؤلاء المتحمسين لاحتضان الاتحاد الأوروبي اسكتلندا من جديد بعدما أخرجتها بريطانيا منه عنوة، فهو قال في مقابلة أجرتها معه “هيئة الإذاعة البريطانية” (بي بي سي) في شباط (فبراير) 2020، إن الاتحاد سيتعاطف مع طلب اسكتلندا إعادة الانضمام اليه في حال استقلالها. وهذا موقف متوقع، فانفصال الدولة الصغيرة عن “المملكة المقسمة” سيمهّد الطريق لعودتها الى الاتحاد الأوروبي، ما سيمثل صفعة مؤلمة للقوميين الإنكليز الذين ظنوا أن البريكست سيضمن لهم “استعادة السيطرة” على مقدرات المملكة المتحدة، حسبما نصّ الشعار الذي رفعوه قبيل استفتاء 2016، وإحياء بعض أمجادها التليدة حين كانت امبراطورية لا تغرب عنها الشمس، فإذا به يمعن بتشتيتها وبعثرة أجزائها.
وفي المقابل، سيفقد حزب العمال الكثير من سطوته السياسية في البلاد إذا انفصلت اسكتلندا التي كانت لوقت طويل بمنزلة “عقر داره”. فهو هيمن على اسكتلندا لنحو نصف قرن من الزمان (2007-1964)، كما كان أبناؤها عملياً أركان السلطة البريطانية في ظل الحكومات العمالية التي قادها توني بلير والاسكتلندي غوردون براون بين 1997 و2010، إذ تسلّموا وزارات الخارجية والمالية والدفاع والعمل والداخلية وغيرها، ما أثار حفيظة الإنكليز الذين أخذوا يشعرون حينها بشيء من الظلم لجهة توزيع مراكز القوى!
المرجح أن يكون استقلال اسكتلندا أشبه بسيف ذي حدين بالنسبة الى المتصارعين عليها، فهو ينطوي على إيجابيات غير أكيدة، وسلبيات لا أدلة قاطعة على صحتها. ومثلاً، على رغم حماسة الاتحاد الأوروبي المستتر لاسكتلندا المستقلة، فإن دلالات انفصالها المقلقة بالنسبة الى عدد معتبر من دوله التي تعاني من صراعات مفتوحة مع توجهات انفصالية، كما في إسبانيا وإيطاليا وبلجيكا مثلاً، لا تخفي نفسها.
مع ذلك، من المستبعد أن يقف الاتحاد الأوروبي الى جانب بريطانيا في محاولتها كبح أنصار الاستقلال، فلندن انسحبت منه، ولا تستحق أن يعاملها كما عامل مدريد التي انتصر لها ضد أبناء كتالونيا المنادين بالانفصال عن إسبانيا.
ومهما كانت حدة الارتدادات الخارجية للاستقلال وعمق الشروخ التي سيحدثها في جبهات عدة، فهي لن تكون أكثر فاعلية من الانقلابات الداخلية على المستوى السياسي ضمن بريطانيا نفسها، جراء انفصام اتحاد تشابكت علاقات أطرافه على مختلف المستويات منذ 300 عام. الاستقلال، ببساطة، هو دعوة للذهاب الى المجهول بما ينطوي عليه من مغامرة، ومفاجآت وخسائر، فلتربطوا الأحزمة أيها الإسكتلنديون.
المصدر: النهار العربي