أصبح من الصعب الرهان على احتمالات حلول قريبة للأزمة اللبنانية أو حتى انفراجات فعلية، بعد حجم التعقيدات التي تُحيط بها، سواء الداخلية منها أو الخارجية. سيبقى وضعُ لبنان معلقاً ما دام يتمُّ التعامل معه على أنه ورقة من أوراق الصراع والنفوذ والضغط والمساومة في المواجهة المتعددة الأضلع والأوجه في المنطقة، والتي لن تتبلور نهاياتها قريباً، بل إنها مفتوحة على مرحلة من الانتظار الطويل، الذي لا تملك معه البلاد ترف الوقت مع اقتراب الارتطام الكبير الذي ينتظرها.
لا ترتكز المساعي راهناً على كيفية إنقاذ لبنان من الانهيار المالي والاقتصادي والاجتماعي. فهذا بات تحصيل حاصل من غير الممكن تداركه. البحث يدورُ حول سبل احتواء قوة الارتطام، والتخفيف من وقعها وتداعياتها، ومن انفلاش تأثيراتها. وتأليف الحكومة يأتي في إطار محاولات الاحتواء التي تعمل عليها فرنسا مستظلة بإمكانية التفاهم مع الأمريكيين، ودعم الاتحاد الأوروبي للمبادرة التي أطلقها إيمانويل ماكرون في أعقاب انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب/أغسطس 2020. ليست حسابات اللاعبين واحدة، فلكل من أمريكا وفرنسا والأوروبيين والروس والإيرانيين والعرب، من خليجيين ومصريين، حساباته. وهذه أيضاً حال اللاعبين الصغار من اللبنانيين، التي يعكسون، في جزء أساسي منها، صراعات الكبار، أو يكونون صدىً لها.
وحده «حزب الله» يحمل مشروعاً سياسياً عقائدياً وأجندة تتخطّى الطبيعة اللبنانية وحدودها ومنطقها وجوهرها وكينونتها. أما الآخرون، فيتصارع بعضهم ضمن الكيان، وبعضهم الآخر يُقدّم مصالحه الشخصية والسياسية على الكيان، مثل رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل، الذي يُفتّشُ عن طريقةٍ تُوصله إلى الرئاسة، سواء أكان اسمها «حلف الأقليات» أم «التوجّه شرقاً» وهو يعتقدُ أن الالتصاق بـ»محور إيران» قادر على أن يفتح الدرب أمامه للسير إلى بعبدا خلفاً لعمّه الجنرال ميشال عون، الذي فرض على لبنان والمسيحيين في العام 1989 دفع ثمنٍ باهظٍ لحلمه الرئاسي، فكان أن قصفت الطائرات الحربية السورية، بغطاء إقليمي ودولي، قصر الرئاسة في بعبدا لإخراجه منه، يوم سكنه كرئيس للحكومة العسكرية في زمن الحكومتين والجيشين. والمخاوف مشروعة لدى الكثيرين من أن يدفع لبنان مجدداً، واللبنانيون جميعاً وليس المسيحيين فقط، ثمن حلم «الصهر» في الوراثة السياسية والرئاسية، ولاسيما بعدما بات على لائحة العقوبات الأمريكية.
خلاف على الصلاحيات
يجري تصوير المأزق في لبنان على أنه خلاف على الصلاحيات في عملية تشكيل الحكومة بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلّف سعد الحريري. هذا جزء من ظاهر المشكلة وليس جوهرها، وكذلك البحث عن المستقبل السياسي المتبقي لباسيل. فالمعركة التي يخوضها الرئيس وصهره مع الحريري للحصول على «الثلث المعطل» في الحكومة ليست سوى معركة لتقطيع الوقت، حيث لم يحن آوان إخراج الحكومة من حيّز الانتظار المسموم، ذلك أن رئيس الجمهورية يعلمُ علم اليقين أن «حزب الله» ومن خلفه إيران، لن يقبلا بأن يكون لفريقه السياسي ثلثٌ معطلٌ صافٍ، وإذا كانت هناك من جهة يمكن أن يكون بيدها وحدها قرار تطيير الحكومة، فهي فريق الثنائي الشيعي وحلفاؤه الخلّص.
مُعطى الثلث المعطّل المستور لـ»الثنائي الشيعي» بدأ بالتبلور خلال الأيام الماضية مع طرح حكومة الـ24 وزيراً، على قاعدة «ثلاثة أثلاث» والتي يعملُ الشريك في «الثنائية الشيعية» نبيه بري على إخراجها، كفكرة من الزعيم الدرزي وليد جنبلاط لكسر الحلقة المقفلة، بعد تمسّك الحريري بحكومة الـ18 وزيراً من الاختصاصيين.
في الشكل، يظهرُ طرح حكومة الـ24 على أنه اقتراح تسوية يجري تسويقه على قاعدة «لا غالب ولا مغلوب» ومقايضة إسقاط الثلث المعطّل، الذي يُطالب به عون مقابل تخلّي الحريري عن مسألة العدد، ورفع تركيبة الـ18 وزيراً إلى 24 وزيراً، بما يُلبي أحد مطالب رئيس الجمهورية.
ولكن عند وضع الاقتراح تحت المجهر السياسي والتمحيص الداخلي والخارجي، تظهرُ المخاوف من أن تكون حكومة الـ24 (الموزّعة على أساس 8 وزراء لفريق رئيس الجمهورية، و8 وزراء لفريق الحريري مع جنبلاط، و8 وزراء للثنائي الشيعي وحلفائه) هي تركيبة رخوة مفتوحة على لغم تضمينها وديعةً وزارية في فريق عون، وحتى في فريق الحريري، قابلة للانقلاب بناء على إشارة «الثنائي» إذا ما أراد أن يُطيح بالحكومة، بينما كانت تركيبة حكومة الـ18، المبنية على «ثلاث ستّات» لكل من عون والحريري و»الثنائي» أكثر صلابة وضمانة من إمكانية خرقها بـ»وزير ملك» أو «وديعة» تُعطي «حزب الله» القدرة الدستورية على تطيير الحكومة.
فرغم كل ما يُحكى عن دور وسطيّ لبري، غير أن وقائع الاستحقاقات وساعات الحقيقة أظهرت أن الرجل – بعيداً عن الأسباب – هو «كاسحة الألغام» لـ» حزب الله» و»ضابط الإيقاع» لمصلحته، فهو يقف خلفه أو بمنزلة واجهة له، أو ممثل لمصالحه حين لا يكون الحزب قادراً على كشف وجهه، والظهور كلاعب مباشر. فصحيح أن بري ليس جزءاً من المشروع العقائدي لولاية الفقيه الذي ينضوي «حزب الله» تحت عباءته، ولا هو جزء من مشروع إيران التوسعي، ويُعتبر من المتمسكين بالبعد العربي للشيعة، غير أنه من الطامحين لتحقيق مكاسب أكبر لطائفته داخل النظام اللبناني وتعزيز موقعها، وتكريس مبدأ أن الشيعة هم الممسكون الفعليون بالقرار، ويتلاقى في هذه الجزئية مع «الحزب».
الفوضى الكبيرة
في الترجمة السياسية، فإن المساعي الجارية في العمق هي محاولة لتأليف حكومة بمواصفات مستترة لـ»حزب الله» فتصبح تحت مقصلته ما دام قادراً على الإطاحة بها على توقيت «سيّده الإيراني» وبوتيرة مصالحه إذا تطلب الأمر ذلك. بينما تعمل على المدى القصير، على ضخ بعضٍ من الأوكسجين في البلاد القابعة على حافة انتظار ما ستفرزه تطورات المنطقة والتفاوض مع الأمريكي، ما يجنبّها «الفوضى الكبيرة» بشتى أنواعها. هكذا يكون «الحزب» قد أضاف ربحاً على ورقته اللبنانية الرابحة أصلاً. أتى بحكومة يرأسها الحريري، الأكثر مقبولية لدى الخليجيين والغرب والأمريكيين، إنما مكبلاً، بعدما كان الزعيم السنّي – الأكثر مشروعية وتمثيلاً لطائفته – يعتقدُ أن رئاسته لحكومة مَهمّة، وفق المبادرة الفرنسية، ستمنحه هامشاً مريحاً من الحركة يضمن من خلاله مساعدة المجتمع الدولي له ولحكومته عبر الاتفاق مع صندوق النقد الدولي ولاحقاً منح القروض وبدء تنفيذ المشاريع المخصصة لدعم لبنان.
ما يجري راهناً يمكن وصفه بعمليات ضغط متوالية على الحريري من الداخل، سواء من الخصوم أو من الحلفاء الافتراضيين والفعليين، وسط محاولات لبنانية لإقناع فرنسا بتبني التسوية وإقناعها بدورها الرئيس المكلّف بقبولها، ومن ثم العمل على تسويقها أمريكياً وسعودياً. في المعلومات أن فرنسا، بعد العرقلة المتكررة لمبادرتها، باتت تريد «حكومة أياً كان» بحيث يُشكّل نجاح التأليف مكسباً سياسياً يحتاج إليه ماكرون، سواء حيال الداخل الفرنسي أو الخارجي الأوروبي والأمريكي.
تُظَهّـرُ الصورة الأكبر، «الكباش» الدائر بين الإيرانيين والأمريكيين. يعلمُ الحريري أنه من دون موافقة أمريكية، ومن خلفها موافقة سعودية، لا يمكنه فعلياً النجاح إذا ألّف حكومة. فمن دون غطاء واشنطن والرياض ستكون حكومته شبيهة بـ»حكومة اللون الواحد» التي شكّلها تحالف عون – «حزب الله» برئاسة حسّان دياب، وتعاملَ معها العالم على أنها حكومة «حزب الله» فحاصرها. وهذا عملياً سيكون مصير حكومته، ولن يكون عندها قادراً على ضمان تعاون صندوق النقد الدولي الذي أضحى ممراً إلزامياً للبنان لإعادة نيل ثقة الخارج وعودة الاستثمارات إليه، وسيحصل «الارتطام الكبير» من دون أي كوابح، ولن يُغْرِق البلاد فقط، بل سيُغرقُه هو أيضاً، ذلك أن الجميع سيتكالبُ عليه، وسيتمُّ تحميله مسؤوليه السقوط والانهيار الشاملين. ثمّة من يحاول أن يُقنع الحريري بأنه إذا لم يُقدم ويُؤلّف، فإنه يكون كمن يقضي على مستقبله السياسي، فيما هو أضرَّ بجزء كبير من صورته السياسية، حين عقدَ تسويةً مع عون و»حزب الله» تحت شعار «الواقعية السياسية» تُعتبر بنتائجها الأسوأ على لبنان منذ تأسيسه قبل مئة عام.
الطريق معبّدة بالألغام
الحريري لا يسلكُ درب القلّة من السياسيين اللبنانيين الذين يرفعون لواء مواجهة «حزب الله» والسيطرة الإيرانية على البلاد. الرجل ترك تلك الراية منذ زمن الكلام الأمريكي بأن سلاح «حزب الله» هو مسألة إقليمية. وهو لاحقاً ربط النزاع مع «الحزب» ولا يزال، وعازم على إبقاء شرارة النزاع السنّي – الشيعي خافتة تحت الرماد. وإذا تيقّن من اقتناع الأمريكيين بـ»فترة سماح ما» للبلاد، فإنه سيذهب إلى التأليف، وإنْ كانت الطريق معبّدة بالألغام. ما يهمه أن يكون غض النظر الأمريكي عن التركيبة الملغومة مصحوباً بموافقة على صندوق النقد الدولي مع إجراءات محددة كمرحلة أولى، غير أن بعضاً من المتابعين يرون أن انتهاج هذا الخيار لن يُفضي إلا إلى منح البلاد بعضاً من المسكّنات من دون علاج حقيقي، وسيتمّ لاحقاً الانقضاض عليها.
ولكن في ظل الاختلال الكبير في موازين القوى الداخلية، وفي ظل التغييرات الحاصلة في المنطقة، بعد وصول الديمقراطيين إلى البيت الأبيض، فإن ثمّة تساؤلات تُطرح حول مآلات المستقبل. في اختصار، لا قدرة فعلية في السياسة على المواجهة. القوى السيادية تدرك تماماً أن إقامة جبهة على غرار «14 آذار» سيكشفها كلياً، وسيكون الثمن عودة الاغتيالات. ومَن يتحرّك من قوى وشخصيات ومثقفين يُدرَجون في خانة الانتحاريين. هؤلاء يتلطّون خلف مبادرة البطريرك الماروني بشارة الراعي المُطالِبة بالحياد، وبعقد مؤتمر دولي من أجل لبنان، ويستمدون قوة منها ويمدّونها بالدعم، لكن لا مناخات داخلية وخارجية مؤاتية لكي تحوّلها إلى كرة ثلج.
أما مالياً واقتصادياً، فكل ما بقي في مصرف لبنان لا يتجاوز الـ15 مليار دولار، وهو الاحتياطي الإلزامي للبنوك، أي أنها الجزء المتبقي من ودائع اللبنانيين في القطاع المصرفي، فيما الليرة خسرت نحو 90 في المئة من قوتها، والحبل على الجرار. الدعمُ يسيرُ على طريق «إلغاء الضرورة»، بعدما أَمعنتِ المافيات في سرقته والتحايل عليه لتحقيق مكاسب أعلى لها وللمنظومة السياسية التي تحميها. نحو 70 في المئة من اللبنانيين أصبحوا تحت خط الفقر، وينتظرون مساعدات سيؤمنها البنك الدولي بقرض، أي بزيادة مديونية الدولة، وسيفاقم رفع الدعم من أزمة العوز. المستشفيات تئن وتنزف وتتراجع إمكاناتها المالية والتقنية كما العلاجية، مع هجرة الأطباء، وكذلك الجامعات والمدارس الخاصة، مع هجرة الأساتذة، ومع عجز الغالبية عن تحمّل كلفة التعليم والطبابة. لبنان دخل عتمة الكهرباء، والعاصمة التي جرى استثناؤها من برامج التقنين سابقاً، تدفع ضريبة قاسية بفعل غياب ظاهرة المولدات الكهربائية التي تبيع الكهرباء بديلاً عن الدولة.
وفوق ذلك، يأتي التهريب إلى سوريا ليقضي على أي أمل. ضبط جشع التجار مشكلة، وكذلك ضبط طرق ووسائل التهريب كرمى لعيون النظام الذي اتّكأ على لبنان كـ»حديقة خلفية» له، فكانت معاقبة الاقتصاد اللبناني بعدما تمادى عجز الدولة وتواطُئها وهيمنة السلاح على مقدرات البلاد. ويبدو الواقع أكثر ظلامية مع حجم الانهيار الذي يُصيب الاقتصاد السوري، والقلق الكبير الذي يُعبّر عنه الروس من تداعيات هذا الانهيار على الوضع الأمني الهشّ، وعلى إمكانية ثورة جياع لا ثورة حرية في وجه النظام، وعلى إعادة انتعاش تنظيم «داعش» على وقع الأُفق المقفلة أمام إعادة الإعمار قبل إنجاز الحل السياسي على أساس القرار 2254. فحتى لو تمّت إعادة مقعد دمشق في الجامعة العربية إلى النظام الحالي، فإن لا قرارَ عربياً وتحديداً خليجياً، ولا أمريكياً وغربياً بتعويم النظام وإراحة موسكو التي تواجه تحدّيات وجود الديموقراطيين في سدّة الحكم الأمريكي، ولا ثمة قرار بمدّ يد العون لها قبل تبيان مستقبل الوجود الإيراني في سوريا والميليشيات العاملة تحت إمرته والمطلوب تقليم أظافره.
فمصائبُ النظام السوري تستمرُ ارتداداتها على لبنان، وستتفاقم إذا لم يتّعظ حكامُه. والرهان على أن أمريكا ستهرع إلى بلاد الأرز لوقف انهيارها الشامل المحتوم بعد بضعة أشهر هو ضرب من الجنون. فهذه السردية التي اعتمدها حلفاء واشنطن وخصومها في لبنان، قبل بداية الانهيار تأكد خطؤها، في وقت لم تتأثر مصالحها الأمنية والاستخبارية والعسكرية فيه. أما التلويح بورقة المهاجرين من الشواطئ اللبنانية إلى أوروبا، فهي لا تُشكل ورقة ابتزاز لأمريكا كما هي لأوروبا المغلولة اليدين.
ما كان يصحُّ في حقبة دونالد ترامب لا يصحُّ في حقبة بايدن. إيران تعتبر أنها في مرحلة انتعاش وصعود الآن، وأنها ستمضي في جبهات تواجدها وأذرعها العسكرية في مسار تصعيدي خلال المرحلة الفاصلة عن استحقاق الجلوس إلى طاولة المفاوضات تكريساً لمشروع نفوذها في المنطقة، خصوصاً بعدما خطت خطوة متقدمة في وجه أمريكا بإعلان اتفاقها الاستراتيجي مع الصين لـ25 سنة مقبلة. وعليه، يمكن السؤال: إذا كانت إيران في مرحلة الانحدار لم تُفرج عن حكومة لبنان، فهل ستُفرج عنها في مرحلة الصعود، إنْ لم تكن ربحاً صافياً لها أو تخدم أجندتها أو نتاج «صفقة ما» مؤقتة؟ أغلب الظن أنه لن يكون مردودها إيجابياً على البلاد والعباد، إذا بقي لبنان يدور في الفلك الإيراني!
المصدر: القدس العربي