شهدت الأسابيع الماضية، التي تزامنت مع اقتراب الذكرى العاشرة لانطلاق الثورة السورية، تحركات تخص الملف السياسي، الذي شهد جمودًا نتيجة تعقيد الملف السوري، والتداخلات الإقليمية والدولية فيه.
مع هذه التحركات، انتشرت أنباء حول قرب تشكيل “مجلس عسكري” يتولى زمام الأمور في سوريا، بقيادة العميد السابق مناف طلاس، وسط تضارب التصريحات حول حقيقة الأمر من أطراف معارضة للنظام السوري بالإضافة إلى موسكو.
كما يتزايد الحديث عن قرب انعقاد مؤتمر دولي خاص بسوريا، يدفع بالملف السياسي للتحرك مجددًا.
للوقوف على هذه الأحداث، التقت عنب بلدي برئيس “المجلس الوطني” الأسبق، الدكتور برهان غليون.
تحركات السوريين “بدأت تؤتي ثمارها”
عُقدت منذ 2011، عام انطلاق الثورة السورية، عشرات الاجتماعات والمسارات السياسية، وصدرت عشرات القرارات الأخرى التي لم تؤدِّ إلى إجبار الأسد على التنحي عن حكم سوريا، ولا يزال الأفق مسدودًا حتى اليوم.
يعتقد الدكتور برهان غليون أن الثغرة لتحريك الملف لن يفتحها سوى السوريين، “فليست هناك أي دولة، حتى بين تلك التي تسمّي نفسها صديقة لسوريا، مستعدة للتضحية من أجل مساعدة السوريين على الخروج من محنتهم”.
وبرأي غليون، فإن هذه الثغرة تحتاج إلى “ضغوط منّا نحن على الجميع”، موضحًا أن بعض النشاطات، التي قام بها السوريون، “بدأت تؤتي ثمارها”.
يعدّد الدكتور غليون ثلاثة نشاطات، “الأول، الملاحقات القانونية للمجرمين، التي كشفت حقيقة النظام للجميع، ولم تعد الحكومات التي دفنت رأسها في الرمال، بما فيها الحكومة الأمريكية، قادرة على أن تبقى مكتوفة اليدين أمام الحقائق الدامغة عن جرائم ضد الإنسانية، هي الأكثر وحشية منذ الحرب العالمية الثانية”.
تلك الجهود سوف تستمر وتُكثّف لتتحول إلى محاكمة علنية للنظام بأكمله، من وجهة نظر غليون، “ما سيحول دون تحقيق النظام طموحه، وطموح حُماته في فرض الأمر الواقع، كما اعتادوا عليه، وتمرير انتخابات مزوّرة مرة أخرى”.
والنشاط الثاني برأي غليون، وهو أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة “السوربون” بفرنسا، “يتعلق بالوضع اللا إنساني، الذي صارت عليه الحال المعيشية والنفسية، وخوف المجتمع الدولي، الذي تواطأ مع المجرم لأسباب مختلفة، من الفوضى، أو سيطرة المتطرفين”، وبالتالي فإن هناك فرصة أخرى تدفع المجتمع الدولي للتحرك لإيجاد حل حقيقي.
ويذهب الدكتور غليون إلى أبعد من ذلك، في تسليط الضوء على عدم فعالية دور المجتمع الدولي “اعتقادًا منه بأن الأسد لا يمكن زحزحته من دون حرب، لا يريد أحد الانخراط فيها”.
وأضاف، “يخاف المجتمع الدولي من نتائج المجاعة والانهيار الشامل، الذي يرى الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، أن سوريا على بعد خطوة واحدة فقط منهما، وهذا يعني ستة ملايين أخرى من اللاجئين (…) لا يريد أحد أن يتحمل بلده عبء توطينهم فيه”.
لكن غليون ليس متشائمًا كثيرًا، فهو يرى في النشاط الثالث مخرجًا، فهناك بحسب رأيه “بوادر صحوة سياسية لدى العديد من ناشطي الثورة والمعارضة، وسعي للتواصل والتجمع، وتجاوز خلافاتهم وحساسياتهم السابقة”.
ويرى أن هناك “انخراطًا في عمل جديد، لتشكيل أدوات جديدة، أكثر فاعلية للعمل السياسي والدبلوماسي”.
“فبعد انفراط العقد، وتنامي مشاعر التنافس والتناحر، بل الكراهية (…) تنمو اليوم مشاعر ألفة وتقارب واضحة، ودعوة لتجاوز الحساسيات والخلافات الشخصية، والتسامح مع الآخر، وقبوله على علاته، من أجل تشكيل أجسام سياسية أكثر جدية ومن ثم مصداقية”، من قبل المعارضة السورية.
ومن أمثلة هذه التحركات بحسب غليون، “المجلس العسكري”، وهو خطوة يرى غليون أنها “أثارت اهتمامًا وغذّت الآمال واستبق فيه التأييد والتمني الواقع العملي”.
وفي كانون الثاني الماضي، انتشرت أنباء حول تشكيل “مجلس عسكري” سيتكون من ثلاثة أطراف، هم “متقاعدون خدموا في حقبة الرئيس حافظ الأسد، ممن كان لهم وزن عسكري واجتماعي مرموق، وضباط ما زالوا في الخدمة، وضباط منشقون لم يتورطوا في الصراع المسلح، ولم يكن لهم دور في تشكيل الجماعات المسلحة”.
وكانت صحيفة “الشرق الأوسط” قالت، في 10 من شباط الماضي، إنها حصلت على نسخة من وثيقة قدمها معارضون من منصتي “موسكو” و”القاهرة” لتنفيذ القرار “2254”، وتضمنت اقتراحًا بـ”تشكيل مجلس عسكري خلال مرحلة انتقالية يتم الاتفاق حول مدتها”.
إلا أن المنصتين نفتا تقديم أي وثيقة لروسيا تتضمن طلبًا بتشكيل “مجلس عسكري سوري” مشترك بين النظام والمعارضة في مرحلة انتقالية، إذ صرّح عضو منصة “القاهرة” فراس الخالدي، في حديث سابق إلى عنب بلدي، أن “الوثيقة غير صحيحة وملفقة”.
كما نفى رئيس منصة “موسكو”، قدري جميل، أيضًا وجود الوثيقة قائلًا في تغريدة عبر حسابه على “تويتر”، إن “الخبر لا يمت للواقع بأي صلة”.
بدوره، نفى مبعوث الرئيس الروسي الخاص إلى سوريا، ألكسندر لافرينتيف، وجود محادثات حول “المجلس العسكري”، في 16 من شباط الماضي.
لكن في 12 من شباط الماضي، أوضح المعارض السوري جمال سليمان الملابسات حول “المجلس العسكري”، قائلًا إنه صاحب الفكرة.
وعلّق سليمان أن اللقاء الذي حضره مع وزير الخارجية الروسي كان بصفته الشخصية وليس بصفته ممثلًا عن منصة “القاهرة”، لأنه جمّد عمله فيها وفي “هيئة التفاوض”، لأسباب داخلية تتعلق بالخلافات الأخيرة التي قال إنه بذل مع آخرين جهدًا كبيرًا لحلحلتها ولم يفلح.
لا توافق حول مؤتمر دولي
سبق انتشار الأخبار حول تشكيل “مجلس عسكري”، أحاديث أخرى عن مؤتمر دولي حول سوريا، دون تبني جهات معارضة سورية أو جهات دولية للفكرة.
ويبدو أن المهمة الأساسية لهذا المؤتمر هي “إخراج سوريا من مأزق الحل السياسي”.
ويرى الدكتور برهان غليون أن فكرة المؤتمر الدولي من الأفكار المثيرة للاهتمام، ويوافق عليها معارضون ومعنيون بالحل من بين السوريين، بحسب رأيه.
لكن لا يبدو، بحسب غليون، أن الأوساط السياسية الدولية على استعداد لتبني هذه الفكرة، و”لا يمكن للدول أن تدعو إلى مثل هذا المؤتمر، وتشارك فيه، إن لم تكن واثقة أنه لن يكون فشلًا إضافيًا يكشف عجزها وانعدام حيلتها”، بحسب رأيه.
وبالتالي، هذا يعني أن المؤتمر الدولي حول سوريا لا يمكن توقع عقده، طالما لم يحصل بعد اتفاق واضح بين الدول على طبيعة الحل في سوريا، “خاصة أن المؤتمرات الدولية تعقد عادة للتصديق على اتفاق تمّ التفاوض عليه مسبقًا”.
ولا يبدو أن روسيا وأمريكا وأوروبا والعرب توصلوا إلى أدنى حدود التوافق في هذا الأمر، بحسب غليون.
ويقترح غليون “أن ندفع نحن السوريين، متى ما تمكنّا من أن نوحّد قوانا، ونتحدث بصوت واحد، ونبرز ثقتنا ببعضنا أمام الرأي العام الدولي، وأمام شعبنا، وندفع بالقضية من جديد إلى مجلس الأمن”.
ويضيف، “مجلس الأمن هو المسؤول عن تنفيذ قرارات أممية، صدّق عليها الجميع، ونطالب بآليات تنفيذية وسقف زمني، يضمنان تحقيق بنودها، بعد أن فشل النظام وحُماته عن الوفاء بالتزاماتهم والقيام بواجبهم”.
لكنه يرى في المقابل “أن على القيادة السياسية المعارضة، التي يأمل أن تتبلور قريبًا، أخذ القرار العسكري من يد الفصائل وإنهاء الفصائلية، وإعادة صياغة استراتيجية جديدة عسكرية ودبلوماسية، تزيد من قدرتنا على الضغط على النظام وقوى الاحتلال والمجتمع الدولي معًا”.
برهان غليون، المولود في مدينة حمص وسط سوريا عام 1945، تولى رئاسة “المجلس الوطني”، الذي شُكّل من معارضين وتيارات وأحزاب سورية معارضة في عام 2011، قبل أن ينضم إلى “الائتلاف الوطني لقوى الثورة السورية” لاحقًا.
تفاوض السوريين “ضرورة”
وحول مراوحة الأوضاع الحالية مكانها، واحتمال اتجاه الأمور إلى تقسيم سوريا، قال الدكتور برهان غليون، وهو مدير مركز “دراسات الشرق الأوسط” في جامعة “السوربون”، “في الظروف الحالية التي تفتقر فيها البلاد لحكومة شرعية منتخبة من الشعب، يؤدي تكريس مناطق النفوذ إلى التقسيم، وقد يدفع أكثر من ذلك، إلى إلحاق مناطق بدول أخرى، أو تحويل سوريا إلى مناطق احتلال وقواعد عسكرية لدول عدّة”.
وهناك ثلاث حكومات حاليًا على الأراضي السورية، هي حكومة النظام السوري، وحكومة “الإنقاذ” في إدلب وأجزاء من ريف حلب الغربي، و”الحكومة المؤقتة” في ريف حلب الشمالي، بالإضافة إلى “الإدارة الذاتية” في شمال شرقي سوريا.
ويجد غليون أنه “ليست هناك وسيلة للحيلولة دون التقسيم، سوى بتدشين حلقة تفاوض وحوار واسع بين السوريين، في مختلف المناطق، والانفتاح المتبادل، وتجاوز الحواجز التي أفرزتها الحرب”.
ويرى غليون الأمر من زاوية أخرى، وهي أن “التحدي تجاوز مسألة التحرر من الطغيان، وأضاف إليها مسألة مواجهة الموت جوعًا وبردًا وقلقا وضياعًا وتشردًا، يهدد الجميع بالتساوي”.
واعتبر أن “الشعب الذي قسمه الأسد بزج البلاد في الحرب، عاد فوحده الانهيار الاقتصادي الذي قادت إليه حربه الوحشية نفسها”.
ويرى الدكتور غليون أن السوريين ليس لهم خيار إلا أن يأخذوا قضيتهم بيدهم، أو يستمروا في حالة الضياع وانتظار الحل، “إذا لم ننجح في الأشهر القليلة المقبلة في دفع الدول إلى الالتزام الجدي بالعمل على الحل وإنهاء المحنة السورية، ينبغي أن نحضر أنفسنا لانتفاضة جوع سلمية جديدة”.
المصدر: عنب بلدي