(الحاكمية لله).. عنوان سياسي ذو طابع ديني.. يعتبر أبرز عناوين الفكر السياسي لدى الإسلاميين عموماً.. يتضمن نظرية فكرية سياسية ذات مرجعية دينية ، تعتبر المحور المركزي للفكر السياسي لدى الإسلاميين بكل تشكيلاتهم وفصائلهم من السياسية المعتدلة إلى الجهادية المتطرفة .
الفكرة الرئيسية كنواة للنظرية جاءت في كتاب ( المصطلحات الأربعة في القرآن ) للداعية الهندي ( أبو الأعلى المودودي / 1903 – 1979 ) ، مؤسس حركة ( الجماعة الإسلامية في الهند ) ، والمصطلحات الأربعة التي يعنيها هي : ( الإله ، الرب ، العبادة ، الدين ) .
يرى المودودي في كتابه ( المصطلحات الأربعة ) أن فَهم الإسلام على حقيقته ديناً للتوحيد ومنهجاً للحياة يرتبط بمدى الفهم الحقيقي لمعاني هذه المصطلحات .. المسلمون الأوائل أدركوا هذه المصطلحات بمدلولاتها القرآنية ، فأدركوا الدعوة على حقيقتها ديناً ومنهجاً .. فيما بعد التبست المفاهيم وأفرغت المصطلحات من مضامينها القرآنية .. فانحرف المسلمون وابتعدوا عن جوهر الإسلام .. إلى أن وصلوا إلى مرحلة الإشراك بألوهية الله من حيث لا يشعرون ، ذلك أن ( أصل الألوهية وجوهرها هو السلطة ) ، وقبول المسلمين في بلدانهم بأي سلطة سياسية غير سلطة الله هو نوع من الإشراك بألوهية الله .
تلقى سيد قطب الفكرة ، وتابع منهج المودودي بفهم المصطلحات القرآنية وتأويلها ، وصولاً إلى نظرية ( الحاكمية لله ) كما طرحها في كتابيه ( في ظلال القرآن ) و ( معالم في الطريق ) .
النظرية مضموناً تبحث بطبيعة الحكم والسلطة السياسية في الدولة الإسلامية كما يراها سيد قطب ، أما الحاكمية مصطلحاً فقد جاءت اشتقاقاً مباشراً من مصطلح ( الحُكُم ) الذي ورد في العديد من النصوص القرآنية ، ذلك أن سيد قطب تبنى رأي من سبقوه بتسييس المصطلح ، ورأى أن المصطلح جاء متضمناً ( الحكم / بالمفهوم السياسي المعاصر ) ، فأغرق فلسفياً بتأويل النصوص التي ورد فيها المصطلح وصولاً إلى تأويل فلسفي فكري سياسي يتناقض مع منهج الإسلام في الحكم والسياسة .
بعيداً عن منطق التأويل والفلسفة ، أعتقد أن أي قارئ عربي للقرآن الكريم ، لو تتبع مصطلح ( الحكم ) أينما ورد في القرآن الكريم ، لأدرك تماماً أنه لم يأتِ ولو مرة واحدة دلالة على ( الحكم / بالمفهوم السياسي ) ، ولا علاقة له بهذا المفهوم إطلاقاً ، ذلك أن أغلب الاستخدامات القرآنية لهذا المصطلح كما يقول الدكتور محمد عمارة : ( ورد بمعنيين : الأول بمعنى القضاء والفصل في المنازعات .. والثاني بمعنى الحكمة / أي الفقه والعلم والنظر العقلي ، ولا علاقة لمصطلح الحكم بالخلافة أو الإمامة ، أو ما نسميه نظام الحكم في أدبنا السياسي الحديث ) ص 65 من كتاب / الإسلام والسلطة الدينية .
وفي كل أدبيات الفكر السياسي في التراث العربي الإسلامي كما أجمع أبرز الباحثين ، فإن مصطلح ( الحكم ) لم يكن بساحة الوعي والثقافة العربية الإسلامية يشير إلى السلطة السياسية .. والسلطة السياسية إنما كان يشار إليها بمصطلحات ( الخلافة ، الإمامة ، الولاية ، الإمارة ) .
وفي البحث بشكل مباشر في نصوص القرآن الكريم ، نجد أنه قد ورد مصطلحان لا ثالث لهما دلالة على السلطة السياسية ونظام الحكم السياسي .. الأول هو مصطلح ( المُلْـك ) ، والثاني هو مصطلح ( الأمـر ) .
مصطلح ( المُلْـك ) :
بضم الميم وسكون اللام ، ومنه يُشْتق مصطلح ( المَلِـك / بفتح الميم وكسر اللام ) ، للدلالة على الحاكم السياسي الأعلى في قمة السلطة السياسية .
وقد استخدم القرآن الكريم مصطلح ( المُلْـك ) في الحديث عن أنظمة الحكم السابقة على الإسلام ، وكلها كانت تعتمد النظام الملكي وإن تغيرت مسمياته ، ولا تعرف نظاماً سياسياً غيره إطلاقاً ، وقد ورد هذا المصطلح في العديد من النصوص القرآنية .. منها مثلاً :
• ما جاء في الآيتين ( 246 / 247 ) من سورة البقرة : {{ ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم : ابعث لنا مَلِـكاً نقاتل في سبيل الله ، قال : هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا ، قالوا : وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله .. وقال لهم نبيهم : إن الله قد بعث لكم طالوت مَلِـكاً ، قالوا : أنى يكون له المُلْـك علينا ونحن أحق بالمُلْـك منه ولم يؤت سعة من المال ، قال : إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم ، والله يؤتِ مُلْـكه من يشاء ، والله واسع عليم }} .
• وما جاء في الآية ( 251 ) من سورة البقرة : {{ …. فهزمزهم بإذن الله ، وقتل داود جالوت وآتاه الله المُلْـك والحكمة وعلمه مما يشاء }} ، حيث تولى نبي الله داود السلطة السياسية وكان مَلِـكاً على بني إسرائيل ، وكذلك جاء بعده مَلِـكاً نبي الله سليمان .
• وما جاء في الآية ( 258 ) من سورة البقرة أيضاً : {{ ألم ترَ إلى الذي حاجّ ابراهيم في ربه ، أن آتاه الله المُلْـك إذ قال ابراهيم : ربي الذي يحي ويميت ، قال : أنا أحيي وأميت ، قال ابراهيم : فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأتِ بها من المغرب ، فبُهت الذي كفر ، والله لا يهدي القوم الظالمين }} ، والمعروف أن الذي حاج ابراهيم في ربه هو الملك نمرود بن كنعان الجبار .
• وما جاء في الآية ( 43 ) من سورة يوسف : {{ وقال المَلِـكُ إني أرى سبعَ بقرات سمان يأكلهن سبعٌ عجافٌ وسبعَ سنبلات خضر وأخرَ يابسات ، ياأيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون }} .
ومثل الكثير من المصطلحات القرآنية التي جاءت تحمل أكثر من مدلول ، كذلك جاء مصطلح ( المُلْـك ) ومشتقاته يحمل مدلولاً آخر غير هذا المدلول السياسي ، إذ جاء في مواضع متعددة تعبيراً مجازياً عن ألوهية الله وسلطانه المطلق في عالم الوجود ، فارتضى سبحانه وتعالى لنفسه اسم ( المَلِـك ) واحداً من أسمائه الحسنى ، وهذا ما جاء مثلاً في الآية 116 من سورة ( المؤمنون ) : ( فتعالى الله المَلِـك الحق ، لا إله إلا هو رب العرش الكريم ) ، فهو مالك المُلْـك ، وله مُلْـك السموات والأرض .
مصطلح ( الأمر ) :
مصطلح ( الأمر ) كمفردة لغوية منفردة ، لا يشير تحديداً إلى مفهوم ( الحُكم بالمعنى السياسي ) ، فهو مصطلح لغوي عام ، يمكن استخدامه مجازاً للتعبير عن أية مسألة أو فكرة أو اي مفهوم مجرد ، وإن دلالته الحقيقية بطابعه العمومي هذا – مثل الكثير من المصطلحات القرآنية – لا تفهم بشكل دقيق إلا في سياق النص الذي يرد فيه ، وهكذا ورد في القرآن الكريم في كثير من الآيات يشير إلى دلالات مختلفة غير مدلول ( الحُكم ) .. منها مثلاً :
• ما ورد في الآية 18 من سورة يوسف : {{ وجاؤوا على قميصه بدم كذب ، قال : بل سولت لكم أنفسكم ( أمْـراً ) فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون }} .
• وما ورد في الآية / 10 / من سورة الكهف : {{ إذ آوى الفتية إلى الكهف فقالوا : ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من ( أمْـرنا ) رشدا }} .
• وما جاء في الآيتين 8 و 9 من سورة الطلاق : {{ وكأين من قرية عتت عن ( أمْـر ) ربها ورسله فحاسبناها حساباً شديداً وعذبناها عذاباً نكراً ، فذاقت وبال ( أمْـرها ) وكان عاقبة أمْـرها خسرا }} .
• ومنها ما تردد كثيراً في القرآن الكريم : {{ إنما ( أمْـره ) إذا أراد شيئاً أن يقول له : كن فيكون }} .
كثيرة جداً هي الأمثلة في القرآن الكريم ، وفي مثل هذه الآيات فـإن مصطلح ( الأمْـر ) لا يعني الحُـكم بالمعنى السياسي ، ولا علاقة له بمفهوم الحُكم والسياسة نهائياً .
ومن بين استخدامات المصطلح في القرآن الكريم ، ما جاء يشير إلى السياسة وإدارة شؤون المسلمين ، أي إلى مسألة ( الحُـكم / بالمفهوم السياسي المعاصر ) ، وقد ورد بهذه الدلالة في أهم النصوص التي تتحدث عن هذه المسألة ( فيما يخص المسلمين حصراً ) :
• {{ وأمْـرهم شورى بينهم }} .
• {{ وشاورهم في الأمْـر }} .
ويلحق بالمصطلح بهذا المفهوم عبارة ( وَلِيّ الأمْـر ) ، للدلالة على الحاكم الذي يتولى مهمة القيام بالأمر ، ومن النصوص القرآنية التي وردت بهذا المعنى : {{ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمْـر منكم }} .
رغم قلة ورود هذا المصطلح بهذا المفهوم في القرآن الكريم ، فإن مصطلح ( الأمر ) تحديداً ، هو المصطلح الذي اختاره الله سبحانه وتعالى للمسلمين من بين العديد من المصطلحات اللغوية الدالة على ( الحكم والسياسة والسلطة السياسية ) ، وقد جاء هذا الاختيار لحكمة إلهية بالغة الدلالات والمعاني ، نستقرئها مما يتضمنه المصطلح من أعماق فكرية تتجاوز حدود المعنى الاصطلاحي ، إذ أن عمومية المصطلح اللغوية / حتى في دلالته السياسية الخاصة ، قد فتحت أمام المسلمين أبواب الاجتهاد حول أساليب الإدارة والسياسة في المجتمع ، وأباحت لهم الحرية الكاملة باختيار النظام السياسي ونموذج الحكم الذي يشاؤون بما يتناسب مع تطورات النظم السياسية والمعارف الفكرية ومستجدات العصور ، بمعنى أنه لم يُلزم المسلمين بأي نموذج قد يشير إليه ولو تلميحاً أي مصطلح آخر بديل ، فجاء مصطلح ( الأمر ) منسجماً مع هذا الاتجاه ، ليكون ( أمرهم ) أي نظامهم السياسي : ( خلافة .. أو إمارة .. أو مملكة .. أو رئاسة .. أو أي نموذج آخر يشاؤون ) .. فالعبرة في المضمون وفي آليات الحكم ومقاصده ، وليست في العنوان أو في الإطار الشكلي للنظام السياسي الحاكم .
إذن مصطلح ( الأمْـر ) وليس ( الحُـكم ) ، هو المصطلح القرآني الدال على السياسة والنظام السياسي الحاكم في المجتمع ، وهو المصطلح الذي استخدمه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بكل أحاديثه بمسائل السياسة وإدارة شؤون المسلمين ، وهو المصطلح الذي شاع في أدبيات الفكر السياسي العربي في صدر الإسلام ، واشتقاقاً منه أطلق المسلمون الأوائل على الحاكم السياسي لدولتهم لقب ( الأمير / أمير المؤمنين ) .
هذان المصطلحان حصراً ( المُلْـك والأمْـر ) ، هما اللذان وردا في القرآن الكريم للدلالة على مفهوم السلطة السياسية الحاكمة .. ومصطلح ( الحُـكم ) الذي ورد في القرآن الكريم الذي اعتمده دعاة نظرية ( الحاكمية لله ) ، لا علاقة له بالسياسة والسلطة السياسية نهائياً ، وأعتقد أن دعاة هذه النظرية لم يكونوا جاهلين بذلك ، فهم بالتأكيد على مستوى أعلى بفهم المفردات والمصطلحات القرآنية في سياق النصوص التي ترد فيها ، إلا أنهم تجاهلوا عامدين متعمدين ، إذ وجدوا بهذا المصطلح والعبارات التي ورد فيها ما يمكن تأويله وفلسفته فكرياً دعماً لنظريتهم ، حيث لم يجدوا نصاً قرآنياً يدعم نظريتهم صراحة أو ضمناً .
ودعماً لنظريتهم وفقاً لمنطق التأويل والفلسفة ، استعاروا من القرآن الكريم عبارة ( لا حُـكم إلا لله ) ، التي توحي لغوياً للعامة من المسلمين بمضمون النظرية وشرعيتها ، ورفعوها شعاراً سياسياً لما فيه من قوة جذب واستقطاب عاطفي جماهيري في عالم المسلمين ، بحكم أنه يلامس بشكل مباشر عواطف المسلمين وولاءهم للإسلام ، بل يلامس المدارك السطحية البسيطة للعامة من المسلمين .
وهو الشعار الذي رفعته فرقة الخوارج التي انشقت عن جيش علي بن أبي طالب ، لكن ليس بالمعنى السياسي كدلالة على ( السلطة السياسية ) ، إنما بمعنى ( القضاء والفصل في المنازعات بين المسلمين عندما يختلفوا ) ، ذلك أنهم رفعوا الشعار رفضاً لعملية التحكيم في الصراع الدموي على الخلافة بين علي ومعاوية ، إلا أن الطبيعة السياسية للصراع ، أضفت على هذا الشعار طابعاً سياسياً ، دفع علي بن أبي طالب إلى القول : ( إنه كلمة حق يراد بها باطل ) ، والباطل الذي قصده عليٌ هنا ، هو مصادرة حق المسلمين في الحكم بقضية مدنية سياسية ، بدعوى أن الفصل بهذه المسألة شأن إلهي ، وليس من شؤون البشر .
هذا عن المصطلحات ، وعن دلالاتها اللغوية .
فماذا عن مضمون النظرية وعن منطلقاتها ونتائجها ومُخرجاتها ؟ .. وما مدى انسجامها مع قواعد ومنهج الإسلام في الحكم / بالمعنى السياسي ؟ .. هذا ما نجده بأدق تفاصيله عند سيد قطب في كتابه ( معالم في الطريق ) :
( الحاكمية لله ) وفقاً للنظرية تعني باختصار أن السلطان السياسي في المجتمع البشري ليس من حقوق البشر ، إنه حق لله سبحانه وتعالى وحده ، وهو من خصائص الألوهية ، بل ( إنه من أخص خصائص الألوهية ) ، إذ أن الألوهية هي الحاكمية ذاتها ، ذلك أن الدين كما يقول : (( هو إعلان ألوهية الله وحده وربوبيته للعالمين .. إن إعلان ربوبية الله وحده للعالمين معناها : الثورة الشاملة على حاكمية البشر بكل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها ، والتمرد الكامل على كل وضع في أرجاء الأرض الحكم فيه للبشر بصورة من الصور .. ذلك أن الحكم الذي مرد الأمر فيه إلى البشر ومصدر السلطات فيه للبشر هو تأليه للبشر ، يجعل بعضهم لبعض أرباباً من دون الله .. إن هذا الإعلان معناه انتزاع سلطان الله المغتصب ورده إلى الله وطرد المغتصبين له الذين يحكمون الناس بشرائع من عند أنفسهم ، فيقومون منهم مقام الأرباب ، ويقوم الناس منهم مكان العبيد ، إن معناه تحطيم مملكة البشر لإقامة مملكة الله في الأرض ، أو بالتعبير القرآني ( وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله ) ، {{ إن الحكم إلا لله .. أمر ألا تعبدوا إلا إياه .. ذلك الدين القيم }} .. )) ص 61 من كتاب معالم في الطريق .
ذلك نص واضح متكامل ، يحدد بدقة تامة الإطار الفكري العام للنظرية بكل أبعادها الفكرية ، وبكل أركانها ومبادئها وبأدق تفاصيلها .. نص واضح تماماً أنه يغلب عليه الطابع الفلسفي إلى درجة الإغراق بفلسفة الدين عموماً انطلاقاً من فلسفة المصطلحات ، وصولاً إلى نظرية فكرية سياسية تتناقض مع منهج الإسلام في الحكم بالمعنى السياسي .
وصولاً إلى هذه النظرية ، فقد انطلق سيد قطب من شعار التوحيد الإسلامي ( لا إله إلا الله ) ، وقد عمل على فلسفة هذا الشعار بأكثر مما يحتمل ، ليكون أساساً ومنطلقاً لفلسفته في النظرية ، فالإسلام كما يقول : ( هو أولاً إقرار عقيدة ” لا إله إلا الله ” بمدلولها الحقيقي ، ومدلولها الحقيقي هو رد الحاكمية لله في أمرهم كله ، وطرد المعتدين على سلطان الله بادعاء هذا الحق لأنفسهم ، إقرارها في ضمائرهم وشعائرهم ، وإقرارها في أوضاعهم وواقعهم ) ص 35 ، أو هي كما يقول : ( إفراد الله بالألوهية والربوبية ، والقوامة والسلطان والحاكمية ) ص 47 .
وحول شعار ( لا إله إلا الله ) كأساس ومنطلق للنظرية ، لا بد من العودة مرة أخرى إلى مسألة المصطلحات والمفاهيم :
واضح تماماً عند سيد قطب .. الاختلاط .. أو الخلط المتعمد .. بين مفهومين تجاوز العقل البشري مرحلة الخلط بينهما منذ قرون ، ولم يَعُد يقبل أدنى مقاربة بينهما ، بين مفهوم الإله ومفهوم الحاكم السياسي .. بين مفهوم الألوهية ومفهوم الحكم السياسي ، لهذا فقد تبنى مصطلح الحاكمية كمرادف لمصطلح الألوهية : ( الإسلام منهج الله للحياة البشرية ، وهو منهج يقوم على إفراد الله وحده بالألوهية – متمثلة في الحاكمية – ) ص 81 ، وعليه .. وباعتبار حاكمية الله بهذا المفهوم تعتبر حاكمية مطلقة .. تشمل حاكمية الكون بأكمله بما فيه عالم الإنسان ، فإن حاكمية الله في عالم الإنسان تشمل كل أمور الإنسان على الإطلاق دون استثناء ، بما فيها الأمور الإدارية السياسية وكل ما ينبثق عنها في المجتمع البشري .
بالتالي فالحاكمية السياسية في المجتمع البشري ، تعتبر جزء لا يتجزأ من ألوهية الله ، أي جزء من حاكمية الله المطلقة ، لهذا ( فالمدلول الحقيقي لشعار لا إله إلا الله هو رد الحاكمية إلى الله ) .. بهذا أعطى الشعار بعداً سياسياً بمعنى ( لا حاكم إلا الله ) ، وبهذا المعنى أدركها الإنسان العربي العارف بمدلول لغته كما يقول / ص 25 .
لم يقدم سيد قطب أي دليل على ما يقول ، علماً بأنه لم يكن في الواقع العربي ما يوحي للعربي بهذا المدلول ، فمفهوم الإله في اللغة العربية يختلف جذرياً عن مفهوم الحاكم ، ولم يكن للعرب دولة يحكمها حاكم متأله ، مثل فرعون مثلاً .. أو نائب عن الإله مثل كسرى أو قيصر ، لكي يتطابق أو يتقارب عندهم مفهوم الإله مع مفهوم الحاكم ، كما تطابق أو تقارب مثلاً عند المصريين القدماء أو الفرس أو الروم .
بل لم تقم للعرب في قلب الجزيرة العربية دولة يحكمها حاكم سياسي بأي شكل من أشكال الحكم ، وكيانهم الاجتماعي في قلب الجزيرة العربية مهبط الوحي والرسالة ، لم يكن إلا مجموعة كيانات قبلية متفرقة ، يشكل كل منها كياناً اجتماعياً إدارياً بدائياً متخلفاً ، يحكمه زعيم القبيلة بصلاحيات إدارية سياسية محدودة محددة ، مُقيـّدة بالأعراف والتقاليد القبلية المتوارثه التي لا يستطيع تجاوزها .. وزعيم القبيلة العربية الحاكم هذا لم يدّعِ الألوهية لكي يتطابق عند العربي مفهوم الإله مع مفهوم ( الحاكم / زعيم القبيلة ) ، ولم يكن رعيته يركعون له أو يسجدون ، كما كانت بعض القبائل المُغرِقة في البدائية في مناطق أخرى من العالم آنذاك .
وشعار ( لا إله إلا الله ) الذي جاء عنواناً ومنطلقاً للدعوة الإسلامية ، جاء بمضمون ديني لاهوتي بحت .. لا علاقة له بالسياسة إطلاقاً .. جاء رداً على عقيدة الشرك بالله التي كانت هي السائدة في ثقافة الإنسان عموماً وكذلك في قلب الجزيرة العربية مهبط الوحي والرسالة ، فالعرب دينياً كانوا يشركون مع الله آلهة أخرى / تقرباً من الله .. لا يشركون معه الحاكم / زعيم القبيلة ، ولم يكن لهذا الحاكم في ثقافة العرب أدنى نصيب بهذه الشراكة ، لهذا .. لا يمكن أن يتقارب أو يتطابق مفهوم الإله مع مفهوم الحاكم بوعي الإنسان العربي وثقافته .
هذا هو الواقع العربي ، وهذا هو فضاء الوعي العربي الذي تلقى دعوة التوحيد على قاعدة ( لا إله إلا الله ) ، إلا أن منطق الخلط والاختلاط عند سيد قطب بين مفهوم الإله ومفهوم الحاكم ، دفعه إلى اتباع منهج أستاذه المودودي بفلسفة المصطلحات وصولاً إلى نتيجة لا وجود لها إلا بفضاء خياله الفلسفي ، وهي أن للشرك بالله طابعين متلازمين ، الطابع الأول ديني غيبي لاهوتي ، والطابع الثاني مدني دنيوي سياسي ، وكلاهما يُخرِج الناس من دين الله ، وهذا ما قاله منسجماً مع فلسفة المودودي : ( لم يكن الناس ينكرون مبدأ الألوهية ، أو يجحدون وجود الله البتة ، إنما هم كانوا يخطئون معرفة حقيقة ربهم الحق ، أو يشركون مع الله آلهة آخرى / إما في صورة الاعتقاد والعبادة ، وإما في صورة الحاكمية والاتباع / ، وكلاهما شِركٌ كالآخر يَخرُج به الناس من دين الله ) ص 46 .
فالاساس الذي قامت عليه النطرية هو منطق الخلط .. الخلط في المفاهيم القرآنية وفي ما وراء هذه المفاهيم من مقاصد ومضامين ، وهو المنطق الذي يقبله سيد قطب لنفسه وينكره على الآخرين ، ففي سياق حديثه عن موضوع آخر بنفس الكتاب ( معالم في الطريق ) يقول : ( والذين يسوقون النصوص القرآنية للاستشهاد بها على منهج هذا الدين في الجهاد .. يخلطون خلطاً شديداً ، ويلبسون منهج هذا الدين لبساً مضللاً ، ويُحمّلون النصوص القرآنية ما لا تحتمله من المبادئ والقواعد النهائية ، ذلك أنهم يعتبرون كل نص منها كما لوكان نصاً نهائياً ، يمثل القواعد النهائية في الدين ) ص 57 ، وهو نفسه يتبع منهج الخلط هذا ، فيخلط بين الدين ( الألوهية ) والسياسة ( الحكم ) ، ويلبس منهج هذا الدين لبساً مضللاً ، ويُحمل النصوص القرآنية ما لا تحتمله من المبادئ والقواعد النهائية ، ويَعتبر كل نص منها كما لو كان نصاً نهائياً يمثل القواعد النهائية في الدين .
وعندما لم يجد في القرآن الكريم نصاً نهائياً ، مُحكماً أو متشابهاً يدعم نظريته ، لجأ إلى اقتطاع بعض العبارات والنصوص القرآنية من سياق الأحاديث التي وردت فيها ليتأوّلها تأويلاً داعماً لموقفه ، وهو يُجيز لنفسه هذا المنطق أيضاً وينكره على سواه فيقول : ( كما يفهم الذين ينتزعون النصوص القرآنية من سياقها ليستشهدوا بها في غير مواضعها ) ص 134 ، وهو قد فعل ذلك تماماً ، انتزع بعض النصوص القرآنية من سياقها ليستشهد بها في غير مواضعها ، ليس بهذه المسألة فحسب ، بل بمعظم ما عرض من أفكار ومعتقدات في كتابه ” معالم في الطريق ” .
من أبرز النصوص التي انتزعها من سياقها ، كي يضعها دليلاً وبرهاناً على نظرية الحاكمية : ( إنِ الحُكم إلا لله .. أمَر ألا تعبدوا إلا إياه .. ذلك الدين القيم ) ص 61 .
وهذا النص اجتزأه من الآية ( 40 ) في سورة يوسف ، عرضه وكأنه جاء في القرآن نصاً نهائياً مستقلاً معزولاً عما قبله وعما بعده ، ليستشهد به في غير موضعه كما أراد ، فالنص هو جزءٌ من الآية (40 ) .. والآية بأكملها جاءت متممة لسابقتها الآية ( 39 ) في سياق حديث متكامل عن وحدانية الله سبحانه وتعالى في الربوبية .. وفي الآيتين معاً يخاطب نبي الله يوسف عليه السلام صاحبيه في السجن : {{ يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خيرٌ أم الله الواحد القهار / 39 / ما تعبدون من دونه إلا أسماءً سمّيتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان ( إن الحُكْـم إلا للـه ، أمر ألا تعبدوا إلا إياه ، ذلك الدين القيم ) ولكن أكثر الناس لا يعلمون / 40 / }} ، هكذا تماماً وردت في القرآن الكريم ، وأعتقد أنه واضح تماماً المعنى الحقيقي لهذا النص جملة وتفصيلاً ضمن هذا السياق حتى لأبسط قراء القرآن الكريم ، وعبارة ( إن الحُـكْـم إلا لله ) في سياق هذا الحديث ، لا علاقة لها نهائياً بمسألة الحاكمية السياسية أو الحكم السياسي في الدولة ، إنما تعني تحديداً أن الحكم / بمعنى الفصل والبيان / بمسألة تعدد الأرباب إنما هو لله وحده .. وقد حَكمَ الله بزيف هؤلاء الأرباب المتفرقين بكل أسمائهم المصطنعة ، وأمر ألا تعبدوا إلا إياه ، تأكيداً لوحدانيته في الألوهية .. فهو الإله الواحد ، ولا إله آخر سواه .
وعبارة ( إن الحكم إلا لله ) قد وردت في مواضع متعددة في القرآن الكريم ، ويلاحظ بوضوح أنها أينما وردت على الإطلاق ، لا علاقة لها نهائياً بالحاكمية السياسية ، أو بأي أمر من أمور السياسة إطلاقاً .. منها مثلاً :
• ما ورد في الآية ( 67 ) من سورة يوسف على لسان يعقوب عليه السلام : {{ يابنيّ لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة ، وما أغني عنكم من الله من شيء ، إن الحُـكم إلا لله ، عليه توكلتُ ، وعليه فليتوكل المتوكلون }} .
• وما ورد في الآيتين ( 56 / 57 ) من سورة الأنعام : {{ قل إني نُهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله ، قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين ، قل إني على بينةٍ من ربي وكذبتم به ، ما عندي ما تستعجلون به ، إن الحُـكم إلا لله ، يقصّ الحق ، وهو خير الفاصلين }} .
ومن النصوص الأخرى التي اعتمدها سيد قطب لاستكمال بناء النظرية ، والتي اجتزأها أيضاً من سياق النص القرآني الذي وردت فيه : {{ ومن لم يَحكُم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون }} .. وتابع أنصاره وتلاميذه نهج الاجتزاء هذا دعماً للنظرية ، فاستعانوا بنصين آخرين بنفس المعنى تماماً :
• {{ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون }} .
• {{ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون }} .
بعد مقولة ( إن الحُـكم إلا لله ) ، تلك ثلاثة نصوص ، اعتبرها سيد قطب وتلاميذه وأنصاره من أقوى البراهين في نظرية الحاكمية لله ، وهي نصوص مجتزأة على التوالي من الآيات ( 44 ، 45 ، 47 ) من سورة المائدة ، وأعتقد أن أبسط قرّاء القرآن الكريم لو تتبع هذه النصوص في سياق الآيات التي وردت فيها ، لأدرك بكل بساطة أنها جاءت في سياق حديث متكامل ، يبدأ بالآية (41) من سورة المائدة وينتهي بالآية ( 50 ) .. حديث يختص بالقضاء والفصل في الخلافات والنزاعات القضائية وفقاً للشرائع السماوية الثلاث ، ولا علاقة له بالحكم بالمعنى السياسي إطلاقاً .
وعن تلك النصوص الثلاثة تحديداً ، يقول الدكتور محمد عمارة بعد أن يضعها في سياقها ويتناولها بالشرح والتفسير : ( تلك هي الآيات التي يحسبها دعاة الحاكمية لله حصناً منيعاً يتحصنون به ، على حين نراها نحن غير شاهدة لهم ، بل شاهدة عليهم ، شهادة تنقض النظرية التي يدعون ) .
إذن .. على قاعدة الألوهية أقام نظرية ( الحاكمية لله ) ، بعد أن أعطى الألوهية مفهوماً جديداً ، وهو مفهوم ( الحاكمية ) ، لكي يتوافق بمنطق علم الكلام لغوياً وسطحياً مع ما أراد الوصول إليه فلسفياً ، لهذا اعتبر أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كما يقول : ( جاء ليرد الناس إلى حاكمية الله ، كشأن الكون الذي يحتوي الناس ، فيجب أن تكون السلطة التي تنظم حياتهم / السياسية / ، هي السلطة التي تنظم وجود الكون ، فلا يشذوا هم بمنهج وسلطان وتدبير غير المنهج والسلطان والتدبير الذي يصرف الكون كله ) ص 47 .. وذلك موقف يستوجب الحديث عن ثلاث مسائل تاريخية بالغة الاهمية تتعلق بالموضوع ، قد غفل عنها أو تغافل ، أو .. لم يدرك سيد قطب دلالاتها ، تحمِل في طياتها دلالات فكرية واضحة المعالم .. تنسف كل ما جاء في النظرية جملة وتفصيلاً :
المسألة الأولى :
إن الدولة – باعتبارها هي الإطار الذي تمارس فيه السلطة السياسية – منذ أن عرفها الإنسان ، وبعناصر تكوينها الرئيسية الثلاثة ( الأرض والشعب والسلطة ) ، لم تأت نظاماً إلهياً مقدراً من السماء في عالم الإنسان والمجتمع البشري ، إنما جاءت إبداعاً بشرياً ، خلال مسار تاريخي طويل الأمد ، كضرورة تنظيمية لإدارة شؤون المجتمع ، ضمن إطار سياسي شامل يضم في حدوده الجغرافية كامل الوجود الاجتماعي للشعب ، بعد أن استقر الشعب تاريخياً على أرض خاصة به بين الشعوب الاخرى .
بالتالي فالسلطة السياسية الحاكمة للشعب في إطار الدولة ، لم تأتِ إلا إبداعاً بشرياً من وحي التجربة الإنسانية طويلة الأمد في مجال تنظيم المجتمع وإدارة شؤونه المدنية ، وقد جاءت في معظم مراحل التاريخ كأداة للتسلط والهيمنة الفئوية أو الطبقية ، أفرزتها آلية الصراع الاجتماعي داخل الدولة ، فهي منذ نشأتها الأولى التي رافقت نشوء الدولة ، لم تكن إلا أداة تنظيمية لإدارة الصراع وإدارة شؤون المجتمع ضمن إطار الدولة ، بالتالي فهي منذ نشاتها الأولى كانت من اختصاص الإنسان حصراً ، ولم تكن من خصائص الألوهية ، وخصائص الألوهية أسمى من ذلك بكثير وكثير ، والألوهية لو شاءت .. ليست بحاجة إلى مثل هذه الأداة السياسية المباشرة لإدارة شؤون الإنسان والمجتمع البشري ، إذ أن السياسة في عالم الإنسان شأن بشري بامتياز وليست من شؤون الله .
هذا عملياً في الواقع الاجتماعي بعالم الإنسان تاريخياً .. أما فكرياً في الإسلام ديناً وفكراً .. فقد خلتْ أدبيات الإسلام الدين قرآناً وسنة ، من أي نص ضمني أو صريح ، عن الوجوب الشرعي أو الضرورة الدينية ( للسلطة السياسية ) ، لهذا فقد تعددت اجتهادات المسلمين الأوائل بمرحلة من مراحل الصراع على السلطة حول وجوبها وشرعيتها وضرورتها ، ولم يقل بوجوبها شرعاً كضرورة دينية إلا فقهاء المذهب الشيعي .
ويُذكر في ملفات الفكر السياسي الإسلامي ، أنّ فرقة النجدات من الخوارج ، والبعض من شيوخ المعتزلة ، قد ربطوا ضرورة السلطة السياسية / معبراً عنها بمصطلح الإمامة أو الإمارة / بالشرور والمظالم التي يعاني منها الناس ، فإذا زالت هذه الشرور وانتفت المظالم وأسبابها ، تكون السلطة السياسية كأداة للردع في المجتمع قد فقدت ضرورتها وشرعيتها ، وبهذه الفكرة قد سبقوا كارل ماركس بأكثر من عشرة قرون ، الذي ربط وجود السلطة السياسية كأداة للقهر الطبقي بحالة الانقسام والصراع الطبقي في المجتمع ، لتفقد شرعيتها وضرورتها وتزول لاحقاً بزوال حالة الانقسام الطبقي في المرحلة الشيوعية .
بصرف النظر عن مدى واقعية هذه الفكرة أو مثاليتها ، ومع الإقرار بطوباويتها بنسختيها الإسلامية والماركسية ، فإن جوهر الفكرة عند نجدت بن عامر والبعض من شيوخ المعتزلة ، أن السلطة السياسية ( ضرورة اجتماعية تنظيمية ، وليست ضرورة دينية شرعية ) ، وهذا ما عبر عنه علي بن أبي طالب بصيغة أخرى : ( لا بد للمسلمين من إمارة ، برّة كانت أم فاجرة ) .
وذلك يطرح سؤالاً : علي بن أبي طالب والمسلمون الأوائل ، الذين نهلوا ثقافتهم الإسلامية من الرسول الكريم مباشرة ، هل كانوا غافلين عما أدركه فلسفياً سيد قطب وأنصاره ، أن الحاكمية السياسية هي ( أخص خصائص الألوهية ) ؟؟ … والإجابة واضحة تماماً ، لا تحتاج إلى فلاسفة أو فقهاء في علم اللاهوت :
لو كانت الحاكمية السياسية في المجتمع البشري ( أخص خصائص الألوهية ) ، لما تجاهلها سبحانه وتعالى في كتابه الكريم إلى هذه الدرجة ، لأعطاها على الأقل ما تستحقه من الاهتمام باعتبارها أخص خصائصه ، مثلما أعطى خصائصه اللاهوتية الأخرى بنصوص قرآنية محكمة واضحة ( الوحدانية ، والأزلية ، والخلود ، والقدرة ، وعلم الغيب ، وعلم الشهادة ، و …… و……. وغيرها ) .
بل ، لو كانت أخص خصائص الألوهية ، لما تركها الله سبحانه وتعالى على أرض الواقع البشري تاريخياً لعبة مباحة بين الكفرة والطغاة والمتجبَرين ، يلعبون بها ومن خلالها بدين الله ، وبعالم الإنسان والمجتمع البشري ضماناً لمصالحهم الخاصة .
لو كانت من أخص خصائص الألوهية ، لأنزل الله في عالم الإنسان آية من السماء بهذا الخصوص ، ظلت أعناق الناس لها خاضعين ، وهو القادر سبحانه على ذلك ، كما فعل تماماً بإدارة مجتمع الملائكة في عالم السماء مثلاً .. أو كما فعل في إدارة شؤون كافة مخلوقاته الأخرى على كوكب الأرض ، لكن الله الذي أعطى الإنسان دون سواه من المخلوقات الأخرى الحرية المطلقة بمسألة الإيمان والكفر ، على قاعدة ( لا إكراه في الدين ، من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) ، فمن الأولى أن يعطيه وقد أعطاه فعلاً الحرية المطلقة بهذه المسألة باعتبارها من شؤونه الدنيوية ، ليكون الإنسان قادراً على تنظيم وإدارة شؤونه الدنيوية بنفسه ، وليكون قادراً على اتخاذ قراره بنفسه بعيداً عن وصاية السماء ، فيكون بحياته الدنيا هو المسؤول عن سياساته وعن نتائج أفعاله ، بالتالي يكون مسؤولاً عن كافة أفعاله أمام عدالة الله يوم الحساب ، إذ أن الحرية هي أساس المسؤولية ، وهنا يكمن منطق الحساب ، وتكمن عدالة الله في حساب الإنسان يوم الحساب .
وعندما تولى الإنسان بنفسه حاكميته السياسية بكل أبعادها ومضامينها ، لإدارة حياته المجتمعية بكل تفاصيلها ، في إطار الدولة التي أبدعها وأنشأها بنفسه .. فهو لم يخرج عن حاكمية الله المطلقة ، ولم يشذ بمنهج وسلطان وتدبير غير المنهج والسلطان والتدبير الذي يصرف الكون ، لكي يأتي الرسول الكريم لرد الإنسان إلى حاكمية الله كما يقول .. بل إن ما فعله الإنسان جاء لزاماً حتمياً في المنهج الرباني ، إذ أن المنهج الرباني ذاته ، قد أتاح للإنسان في فضاء عالمه الخاص ، أن يتولى بنفسه إدارة كافة شؤونه الدنيوية على الإطلاق ، لهذا خلق الله الإنسان بتقويم خاص متميز من بين مخلوقاته الأخرى ، ومنحه من المؤهلات ما يجعله قادراً ومؤهلاً للقيام بهذه المهمة .
أما خارج نطاق هذه المهمة ، وفي المنهج الرباني ذاته ، فيما يتعلق بعلاقة الإنسان مع الله ديناً وإيماناً ، وبموقف الإنسان من ألوهية الله ووحدانيته ، وبموقع الإنسان فرداً ومجتمعاً ضمن نطاق هذا الكون الشامل ، فتلك مسألة أخرى مختلفة تماماً ، فمنذ أن خلق الله آدم إلى يوم البعث ، والإنسان يخضع مكرهاً لحاكمية الله المطلقة ، كشأن الكون الذي لا يحكمه إلا الله ، والإنسان جزء لا يتجزأ من هذا الكون ، وأنى له أن يفرّ بحياته الدنيا من حاكمية الله : (( هو القادر أن يبعث عليكم العذاب من فوقكم أو من تحت أرجلكم ، أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض )) ، بل أنى له أن ينفذ من أقطار هذا الكون أمام سلطة الله : {{ يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا ولا تنفذون إلا بسلطان }} ، وهيهات .. هيهات أن ينفذوا ، فلا نفاذ ولا مفر بأي سلطان أمام سلطان الله .
المسألة الثانية :
عرفنا من مراجع التاريخ المؤكدة ، ومن القرآن الكريم ذاته قبل أي مرجع آخر :
• إن البشرية بكل تاريخها الطويل منذ أن عرفت نظام الدولة ، لم تخضع بأي شكل من الأشكال لحاكمية الله السياسية ، وإن كان حكم الأنبياء ورجال الدين هو النموذج المعبر عن حاكمية الله السياسية ، فإن هذا النموذج لم يقم إلا فترة وجيزة تكاد لا تذكر بمسار التاريخ البشري .. قرابة قرن من الزمن فقط .. عندما تولى السلطة نبي الله داود ملكاً على بني إسرائيل بإيحاء وتمكين من الله ، وكذلك جاء بعده ابنه سليمان نبياً وملكاً حاكماً ، وذلك إقرار تشريعي من الله سبحانه وتعالى بوحدة السلطتين الدينية والسياسية في دولة بني إسرائيل ، وذلك موقف مرتبط بظروف وخصوصيات المرحلة .
ومن أبرز خصوصيات المرحلة ، أن ثقافة الإنسان المتوارثة على مدى أحقاب وأحقاب من الزمن ، قد استقرت على فكرة أحادية السلطة بجوهرها الديني ، دون أي تمييز بين الدين والسياسة ، والعقل البشري آنذاك لم يكن يتقبل سلطة سياسية مستقلة عن الدين ، إذ أن الدين سابق في الوجود على السلطة السياسية ، والسلطة السياسية منذ نشأتها الأولى ارتبطت ارتباطاً مباشراً بالدين ، لهذا كان الحاكم السياسي بوعي الإنسان وكيلاً عن الآلهة وقائماً على أمر الدين محاطاً برجال الدين وكهنة المعبد .. حتى عندما يأتي إلى السلطة حاكماً سياسياً جديداً مغتصِباً للسلطة عن طريق القوة ، فما هو بوعي الناس إلا وكيل جديد للآلهة ، جاء بتكليف مباشر من قبل الآلهة ، وإلا لما تمكن من الانتصار على الحاكم السابق .
هذا في المجتمعات الوثنية قبل شريعة التوراة منذ أن عرف الإنسان السلطة السياسية .. وهكذا جاءت شريعة التوراة متفقة تماماً مع وعي الإنسان وثقافته حول هذه المسألة في تلك المرحلة ، لهذا كان مجتمع بني إسرائيل منذ نشأته الأولى تحت سلطة الأنبياء مباشرة ، حيث ( كانت تسوسهم الأنبياء ، كلما هلك نبي خلَـفه نبي ) كما قال صلى الله عليه وسلم .
• وبعد شريعة التوراة ، جاء السيد المسيح عليه السلام بشريعة الإنجيل ، أقرّ موقفاً مختلفاً ونهجاً جديداً ، تمثل بالفصل التام بين الدين والسياسة ، بين السلطتين الدينية والسياسية .. جاء المسيح عليه السلام نبياً ولم يأتِ حاكماً ، ولم يفكر أو يسعى إلى إقامة دولة دينية مسيحية تحت سلطته السياسية .. وفي دولة وثنية كافرة ، احتفظ لنفسه بالسلطة الدينية على أنصاره فقط كرسول من السماء ، ونأى بنفسه نهائياً عن سياسة الدولة ، وترك السلطة السياسية في الدولة لقيصر ونبلائه ، وذلك موقف آخر مختلف تماماً ، لم يأت تقية من المسيح أمام جبروت قيصر ، فمن نصر موسى على جبروت فرعون قادر على نصرة المسيح على جبروت قيصر ، إنما جاء تأسيساً لثقافة جديدة حول العلاقة بين الدين والسياسة ، بالتالي تمهيداً لنهج جديد في مرحلة قادمة .
• وفي مرحلة قادمة بعد المسيح عليه السلام ، جاء آخر أنبياء السماء ، مصدقاً في الدين لكل من التوراة والإنجيل ، مختلفاً عنهما في السياسة .
وحيث نضجت تجارب الإنسان على مدى عشرات بل مئات من القرون ، ومن ثم بلغ الإنسان مرحلة رشده علماً وفكراً وتحضراً ، جاء عليه الصلاة والسلام بنهج سياسي جديد مختلف .
أقام الرسول الكريم بقيادته أول دولة لأمة الإسلام على شريعة القرآن ، فبعد أن استقر نظام الدولة في عالم الإنسان والمجتمع البشري ، وأصبح بدونها لا وزن لأي مجتمع بين المجتمعات ، فلا بد لهذه الأمة الوليدة من دولة بين الدول ، لتنظيم وإدارة علاقاتها الخارجية مع الدول الأخرى سلماً أو حرباً ، ولتنظيم وإدارة شؤونها المجتمعية داخلياً ضمن إطار الدولة ضماناً لوحدتها الاجتماعية كطليعة لنشر آخر رسائل السماء بين الأمم .
وقد أرسى عليه الصلاة والسلام لدولة المسلمين نهجاً سياسياً جديداً ، لم تكن تعرفه البشرية من قبل ، يرفض وحدة السلطتين الدينية والسياسية كما في شريعة التوراة ، ويرفض الفصل بينهما كما في شريعة الإنجيل .
والنهج الجديد ، قام على مبدأ جديد ، بوجود الرسول الكريم ذاته بين المسلمين ( نبياً وحاكماً ) ، مبدأ التمييز وليس الفصل بين السلطتين الدينية والسياسية ، وذلك إقرار إلهي بعدم الخلط بين الدين والسياسة ، خاصة أن السلطتين الدينية والسياسية بهذه المرحلة قد اجتمعتا معاً بشخص واحد ، وهو شخص الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام ، وذلك تمهيداً لإلغاء ( السلطة الدينية ) من دولة المسلمين بعد وفاة الرسول الكريم ، لتبقى لهم ( السلطة السياسية ) سلطة مدنية مجردة من القداسة الدينية ، كضرورة إدارية لإدارة شؤون الدولة ، ولضمان وحدة الأمة اجتماعياً وسياسياً ضمن إطار الدولة حتى إن كان على رأس السلطة حاكماً سياسياً فاجراً ، وهذا ما أشار إليه علي بن أبي طالب ، وهو من تربى على الإسلام ديناً وثقافة بين يدي الرسول الكريم مباشرة : ( لا بد للمسلمين من إمارة ، برّة كانت أم فاجرة ) ، لا بد لهم من إمارة ، حتى إن كانت فاجرة ، وإلا انقسمت الأمة وانفرط عقدها ، وعادت إلى مرحلة ما قبل الأمة ، إلى مرحلة التفكك القبلي والعشائري ، وربما تضيع لاحقاً بين الأمم ، كما ضاع بنو إسرائيل عندما انقسمت دولتهم بعد سليمان ، لهذا رفض عليٌ اقتراح معاوية بتقسيم الدولة واستقلال بلاد الشام سياسياً تحت مُلْـكه ، ومن ثم قبل بقرار التحكيم أياً كانت النتيجة ، حفاظاً على الوحدة السياسية للدولة ، وحرصاً منه على الوحدة الاجتماعية للأمة .
الشريعة الجديدة شريعة القرآن الكريم ، أسقطت السلطة الدينية عن المسلمين بعد الرسول الكريم ، ولم تفوّضها لأحد منهم نيابة عن الله أو عن الرسول .. ولملء الفراغ بهذه المسألة منحتهم حق الاجتهاد ، فجعلت أمور السلطة الدينية اجتهاداً شوروياً بين أبناء الأمة .. وذلك ليكون {{ أمرهم شورى بينهم }} .
توفي الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، ومن بين ما ترك للمسلمين من سنته الشريفة ضرورة الحفاظ على الدولة والسلطة السياسية ، لكنه .. لم يوصِ المسلمين بخليفة له كحاكم سياسي للدولة ، ولم يلزمهم بنموذج محدد للسلطة السياسية في الدولة ، فهي حق الأمة وليست حق الله .. سلطة الأمة وليست سلطة الله .. ترك مسألة السلطة السياسية جملة وتفصيلاً لاختيارات المسلمين بعده ، فهي من أمور دنياهم المتغيرة والمتطورة أبداً .. وذلك ليكون {{ أمرهم شورى بينهم }} .
هذا باختصار هو منهج الإسلام الدين تاريخياً بشرائعه الثلاث ، وهذا هو موقف الإسلام من السياسة ومن السلطة السياسية ، عرفناه من القرآن الكريم ومن سنة الرسول الكريم ، بعيداً عن منطق الخيال الديني الفلسفي ، الذي يرفضه الإسلام رفضاً قاطعاً .
وإن منطق العقل العلمي الإسلامي الواقعي ، لا يمكن أن يقبل إلا أمراً واحداً ، ولا يقبل سواه ، أن المنهج الإلهي الذي أسقط ( السلطة الدينية ) عن المسلمين بعد الرسول الكريم ، من الطبيعي أن يجعل ( السلطة السياسية ) للأمة .. وليست لله .
وما لا يقبله العقل أياً كان دينه ، أن يسقط الله السلطة الدينية عن المسلمين ويجعلها شورى بينهم ، ويحتفظ لنفسه بالحاكمية المدنية السياسية عليهم .. ويحتاج وفقاً للفلسفة القطبية إلى من يرد له حاكميته المدنية عندما تغتصب منه بمرحلة ما .
وإن كانت حاكمية الله تتضمن الأمور الدينية والمدنية السياسية معاً ، وهي من اختصاص الله وحده كما يقول سيد قطب ، فكيف يترك الأمور الدينية للمسلمين اجتهاداً شوروياً بينهم بعد الرسول الكريم ، وكان قد ترك لهم أيضاً الأمور المدنية مذ كان الرسول الكريم حاكماً سياسياً في دولتهم ، وذلك باعتراف الرسول الكريم ذاته : ( ما كان من أمور دينكم فإنه لي ، وما كان من أمور دنياكم فأنتم أعلم به ) ؟؟ … وإن كانت أمور دنياهم من اختصاص الله وحده وفقاً للفلسفة القطبية ، فكيف يكون المسلمون أعلم بها كما جاء في نص الحديث النبوي الشريف ؟؟
بل .. بعد أن ترك الله الأمور الدينية اجتهاداً بين المسلمين ، ومن ثم ترك لهم الأمور المدنية كما جاء في الحديث ، ماذا بقي لله من الحاكمية في المجتمع ؟؟ .. سبحانك .. جل جلالك عما يصفون .. بأي عقول هؤلاء يفكرون ؟
ألم يفكروا في الآية / 38 / من سورة الشورى ؟ : {{ والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون }} ، وفي الآية الكريمة إقرار واضح صريح : أنه في مجتمع المسلمين تحديداً ( الذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة ) ، فإن مسألة الإدارة والسياسة تعتبر ( أمرهم ) .. أمر المسلمين .. وليست أمر الله .. ولو كانت أمر الله لما جعله ( شورى بينهم ) كما جاء في الآية الكريمة .
وأمرهم في سياق الآية الكريمة ، يعتبر إطار عام شامل مفتوح لا سقف له ولا حدود ، يبدأ من الشؤون الخاصة بالجماعات مهما صغرت داخل المجتمع ، ويرقى إلى مستوى الشؤون العامة للمجتمع بأكمله ، حتى على مستوى السلطة السياسية في قمة الدولة .
هذا هو المنهج الإلهي ، وهذا هو موقف الإسلام من السياسة في عالم الإنسان والمجتمع البشري .. وفقاً لهذا المنهج ولهذا الموقف ، فالسياسة شأن بشري .. وليست شأناً إلهياً .
والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لم يأتِ لـرد الناس إلى حاكمية الله السياسية ، أو لانتزاع سلطان الله المغتصب ورده إلى الله كما يقول سيد القطب ، وحاشى لله أن يغتصب منه الإنسان سلطاناً ، فالسلطان السياسي سلطان الأمة وليس سلطان الله ، وعندما يغتصبه حاكم متجبر فإنما يغتصبه من الأمة وليس من الله .. وعلى الأمة تقع مسؤولية استعادة سلطانها المغتصب .
وإن كان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، قد جاء لرد الناس إلى حاكمية الله السياسية ، فيمكن القول بكل ثقة : إنه قد أخفق في هذه المهمة ، أو على الأٌقل ، لم ينجح إلى المستوى الذي يرقى إلى مستوى هذه المهمة النبوية المقدسة ، وآية ذلك .. أن نجاحه كان نجاحاً مؤقتاً ، لم يتجاوز السنوات العشر التي كان فيها نبياً وحاكماً سياسياً لدولة الإسلام ، أما بعدها .. فمنذ اليوم الأول لارتقاء روحه الطاهرة إلى ملكوت السماء ، وقبل أن يوارى جسده الطاهر في قبره الشريف ، بدأت الحاكمية السياسية في الدولة بالاضطراب ، أي .. بدأ سلطان الله السياسي / أخص خصائص الألوهية بالاضطراب في أول دولة للإسلام .. ومن ثم تم اغتصابه مجدداً من الله لاحقاً .
بدأ الاضطراب في سقيفة بني ساعدة جدلاً سياسياً ساخناً حول الحاكمية السياسية بين الأنصار والمهاجرين .. تلاه انشقاق وارتداد ( سياسي لا ديني ) عن الشرعية السياسية لأبي بكر ، انشقاق دفع أبا بكر إلى قتال المرتدين سياسياً ، لإخضاعهم وإعادتهم إلى إطار حاكميته السياسية .. تلا ذلك الخروج والثورة على سلطة عثمان بن عفان وقتله .. وبعده صراع دموي على السلطة بين علي ومعاوية .. وآلت الأمور في النهاية إلى عزل علي واغتياله .. ومن ثم تولى معاوية بن أبي سفيان المُلك السياسي نظاماً مَلكيـّاً ، فتحولت الحاكمية السياسية منذ ذلك الحين في دولة الإسلام إلى مُلك وراثي استبدادي عضود ، توارثه الأمويون قرابة قرن من الزمن ، ومن بعدهم العباسيون والمماليك أكثر من خمسة قرون ، ومن بعدهم العثمانيون على مدى أربعة قرون .. حتى آلت الأمور السياسية في أمة الإسلام إلى مانحن فيه اليوم ، قمع واستبداد وظلم وفساد .
كل ذلك حصل بدولة الإسلام صراعاً على السلطة ، حتى بمرحلة الجيل الأول من المسلمين ، الجيل الذي تربى في حضرة الرسول الكريم مباشرة ، على قاعدة ( لا إله إلا الله ) .. أي أن الرسول الكريم قد فشل بما جاء من أجله ، أو قد فشل في التأسيس لما جاء من أجله ، إن كان قد جاء لرد الناس إلى حاكمية الله السياسية كما يقول سيد قطب .
لكن حاشى لرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم أن يفشل ، فهو لم يأت من أجل ذلك ، إنما جاء لمهمة أخرى ، أدى خلالها الأمانة كاملة خير أداء ، حقق فيها النجاح الذي أراده الله سبحانه وتعالى ، وإن لم يؤمن كل الناس أو أكثر الناس بما جاء من أجله ، فتلك مشيئة الله : {{ وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين }} ، {{ لو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين }} ، {{ لو شاء ربك لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين }} .
هذا تماماً ما جاءت به الشرائع السماوية الثلاث ، عرفناه من القرآن الكريم وليس من اي مصدر آخر ، وهذا تماماً ما حصل للحاكمية السياسية بدولة الإسلام بعد الرسول الكريم ، عرفناه من مراجع التاريخ الإسلامي المؤكدة .
ومن مراجع التاريخ المؤكدة ، فالأمة منذ ذلك الحين حتى هذه اللحظة ، عرفت كل أشكال ونماذج الحكم السياسي التي عرفتها البشرية بكل دياناتها ، ومرت بمراحل أشباه دول مختلفة متفرقة متصارعة .. وبمراحل أخرى فقدت الحاكمية السياسة نهائياً ، وخضعت لحاكمية الغزاة والمستعمرين وهم على ديانات أخرى معادية للإسلام ، وبقي الإسلام ديناً لم يتغير ، ديناً سماوياً راسخاً بضمير الأمة على قاعدة ( لا إله إلا الله ) لكن .. بمدلولها الديني الحقيقي الذي أدركه العربي العارف بمدلول لغته العربية ، لا بالمدلول الفلسفي السياسي عند سيد قطب .
المسألة الثالثة :
الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، كنبي وحاكم سياسي لأول دولة إسلامية في التاريخ ، قد وضع لدولة الإسلام الوليدة ما لم تكن تعرفه من قبل أية دولة في التاريخ ، وضع لها أول دستور مدني سياسي بتاريخ البشرية ، وهو ما عرف بـ ( الصحيفة / الكتاب ) .
بصرف النظر عن مضمون الصحيفة رغم أهميته بهذا الموضوع ، وبصرف النظر عن المدى الزمني لصلاحيتها ، فالأهم في سياق هذا البحث ، أن مصدرها لم يكن السماء ، أي أنها لم تأتِ نصاً دينياً بوحي من السماء ، إنما جاءت بكل بنودها صيغة مدنية توافقية ، توافقت عليها المكونات الاجتماعية للدولة باختلاف انتماءاتها الدينية ، كعقد اجتماعي سياسي لتنظيم العلاقات المجتمعية بدولة تعدد واختلف الناس فيها ديناً ، لكنهم اتحدوا واتفقوا فيها سياسة ، وذلك في إطار نموذج جديد للدولة لم تكن تعرفه البشرية من قبل ، وهو نموذج الدولة المدنية ، لا دولة الكهنوت الديني التي كانت هي السائدة في تلك المرحلة وما قبلها ، مع أن الحاكم السياسي في دولة المسلمين المدنية ، كان نبياً ورسولاً من السماء حقيقة وليس ادعاءً ، وتلك سابقة لم تكن تعرفها البشرية من قبل .
والقيمة التاريخية المنهجية للصحيفة ، أنها جاءت بوجود الرسول الكريم ذاته ، وتحمل توقيعه السامي كنبي للمسلمين وحاكم سياسي لدولتهم ، ولم تأت بمرحلة لاحقة في عهد أي من الخلفاء الراشدين مثلاً ، ولو جاءت بمرحلة لاحقة ، لكانت اجتهاداً سياسياً مرحلياً ، قد يثير اختلافاً بين المسلمين ، وقد يعتبره البعض خروجاً عن الدين ، ولهذا دلالات بالغة الأهمية وبالغة الوضوح :
• أولاً : تأكيد إسلامي على التمييز وعدم الخلط بين الدين والسياسة .
• ثانياً : إقرار منهجي أكيد من الإسلام الدين ، أن الأمة هي مصدر السلطات وليست السماء ، وأن السلطة السياسية في الدولة هي سلطة الأمة وليست سلطان الله ، وأن الحكم السياسي في الدولة أمر مدني دنيوي ، وليس أمراً دينياً مقدساً ، وهذا ما توافقت عليه تماماً كل المدارس والمذاهب الإسلامية ، ( باستثناء الشيعة ) .
لكن نظرية ( الحاكمية لله ) توافقت تماماً مع الاستثناء الشيعي ، وخالفت عموم المدارس والمذاهب الإسلامية الأخرى من خلال الخلط بين الدين والسياسة ، والإقرار صراحة بنظريتين متكاملتين ، تشكلان معاً دعامتي الدولة الدينية ، الدولة التي يرفضها الإسلام رفضاً قاطعاً ، ولا يقبلها إلا إسلام الشيعة وسيد قطب وشيعته :
النظرية الأولى : الحكم بالحق الإلهي المقدس .
النظرية الثانية : مصدر السلطات هو السماء وليست الأمة .
الإقرار بالنظرية الأولى جاء واضحاً عند سيد قطب في كثير من النصوص ، أبرزها ما تضمن التعريف الشامل لمفهوم ( حاكمية الله ) ، وضمن هذا التعريف فالحاكمية كما يقول : ( انتزاع سلطان الله المغتصب ورده إلى الله ، وطرد المغتصبين له ، الذين يحكمون الناس فيه بشرائع من عند أنفسهم ، فيقومون منهم مقام الأرباب ، ويقوم الناس منهم مكان العبيد .. إن معناه تحطيم مملكة البشر لإقامة مملكة الله في الأرض ، أو بالتعبير القرآني : وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله ) .
وتعليقاً على ذلك :
بالتأكيد إن رد سلطان الله المغتصب إلى الله ، لا يعني أن يتولى الله الحاكمية السياسية في الأرض بشكل مباشر ، فالحاكمية السياسية لا يمكن أن يتولاها في المجتمع البشري إلا حاكم من البشر ، وإن كانت مهمة هذا الحاكم ، هي انتزاع سلطان الله المغتصب ورده إلى الله لإقامة مملكة الله في الأرض ، فهذا يعني وفقاً للنظرية – حتى إن لم تعترف صراحة – أن هذا الحاكم وكيل عن الله ونائب عنه ، بل إنه ممثل لألوهية الله في الأرض ، باعتبار الحاكمية السياسية في المجتمع البشري جزء من الألوهية كما يعتقد سيد قطب .. ماذا بقي أكثر من هذا لكي يكون الحاكم السياسي حاكماً بموجب نظرية الحق الإلهي المقدس ؟ .
وقد حاول سيد قطب في عرضه للنظرية الإفلات من هذا المأزق ، إلا أنه لم يوفق بالمحاولة ، إذ جاءت المحاولة بنص متناقض منطقياً ، يتضمن إقراراً ضمنياً بالنظرية التي يدّعي ظاهرياً رفضها ، فيقول : ( .. ومملكة الله في الأرض لا تقوم بأن يتولى حاكمية الله في الأرض رجال بأعيانهم هم رجال الدين ، كما كان الأمر في سلطان الكنيسة ، ولا رجال ينطقون باسم الآلهة ، كما كان الحال فيما يعرف باسم الثيوقراطية أو الحكم الإلهي المقدس ، ولكنها تقوم بأن تكون شريعة الله هي الحاكمة ، وأن يكون مرد الأمر إلى الله وفق ما قرره من شريعة مبينة ) ، وآية هذا التناقض :
إن شريعة الله .. كمنظومة من الأحكام والضوابط والقيم والثوابت الدينية ، ليست ناموساً إلهياً في عالم الإنسان ، بمعنى أنها ليست قانوناً موضوعياً حتمياً يحكم سلوك البشر ومعتقداتهم بشكل حتمي وتلقائي ، كالقوانين العلمية الموضوعية مثلاً التي تضبط حركة الأشياء والظواهر في عالم الكون والطبيعة ، لو كانت كذلك لكان عالم الإنسان أشبه بعالم النجوم والكواكب .. كل في فلك يسبحون .. إنما هي حقيقة أشبه بالقوانين الوضعية التي يصوغها البشر ، بل يمكن القول مجازاً مع إيماننا الكامل بقدسيتها : إنها وضعية بامتياز .. لكنها وضع إلهي .. وليست وضع بشر .
وبهذه الطبيعة الوضعية الإلهية لشريعة الله ، فإن فاعليتها في الواقع البشري تفتقد لعامل ( الحتمية الموضوعية ) ، بمعنى أن الإنسان أمامها مخيـّرٌ تماماً وليس مسيراً .. بإمكانه الالتزام بها إيماناً واعتقاداً .. أو حتى نفاقاً ، وبإمكانه تجاهلها وخرقها كلياً أو جزئياً متى يشاء ، إن لم يكن في العلن فبالخفاء ، مثلها مثل القوانين الوضعية التي يصوغها البشر تماماً ، وإن مدى الالتزام بها يحدده الموقف من الدين ، ومدى عمق الإيمان والتدين لدى الإنسان .
بالتالي لكي تكون هي الحاكمة في الواقع البشري ، بالصورة الشمولية الإلزامية التي تتحدث عنها النظرية ، لا بد أن يتولى ( مهمة ) تفعيلها وتحكيمها حاكم من البشر ، مستعيناً برجال الدين باعتبارهم الأعلم بشريعة الله .. وتلك المهمة لا بد أن تكون مهمة مقدسة بحكم قدسية الشريعة وقدسية مشرّعها ، بالتالي لا بد أن يكون هذا الحاكم ورجاله ينطقون باسم المشرع وهو الله ، كما كان الأمر تماماً بسلطان الكنيسة ، وكما كان الحال تماماً فيما يعرف باسم الثيوقراطية ، وهذا هو جوهر نظرية الحكم بالحق الإلهي المقدس .
أما عن النظرية الثانية ( مصدر السلطات ) :
نظرية ( الحاكمية لله ) ترفض صراحة أن تكون الأمة هي مصدر السلطات ، وتقر صراحة أن مصدر كل السلطات على الإطلاق بدون استثناء هو الله ، وهذا ما جاء بنص واضح صريح : {{ ومعنى تقرير هذه القاعدة من الناحية النظرية أن تعود حياة البشر بجملتها إلى الله ، ( لا يقضون هم في أي شأن من شؤونها ، ولا في أي جانب من جوانبها من عند أنفسهم ) ، بل لا بد أن يرجعوا إلى حكم الله فيها ليتبعوه }} ص 48 – 49 ، لا حاجة إلى أي تحليل للنص فكرياً أو لغوياً ، فهو صريح واضح فكرياً ولغوياً ، فقد جرد الأمة نهائياً من حقها بأن تقضي من عند نفسها بأي شأن من شؤونها ، وبأي أمر من أمور دنياها على الإطلاق ، مع العلم أن ذلك حق أقره الرسول الكريم للأمة ، أثناء وجوده نبياً وحاكماً سياسياً في دولة الإسلام ، وذلك في حديثه الشريف : ( ما كان من أمر دينكم فإنه لي ، وما كان من أمر دنياكم فأنتم أعلم به ) .. صحيح أن الحديث الشريف قد جاء إشارة إلى قضية علمية محددة لا علاقة لها بسياسة المجتمع ( تأبير النخل ) ، إلا أنه جاء بصياغة لغوية فكرية عامة تقر قاعدة منهجية عامة ثابتة ، تشمل كل الأمور المدنية السياسية على الإطلاق ، وفي سنته السياسية الكثير من الأمثلة العملية ، التي تؤكد ذلك منهجاً إسلامياً لإدارة شؤون المسلمين .
وأبرز ما في سنته السياسية على الإطلاق .. أن صحابته رضي الله عنهم كانوا يسألونه في كل مرة كان يطرح فيها راياً : ( أهو الوحي أم المشورة يا رسول الله ؟ ) .. إن أجابهم بالوحي .. فهو أمر ديني إلهي مقدس ، وليس لهم إلا السمع والطاعة .. وإن أجابهم بالمشورة .. فهو رأي مدني سياسي ، ولهم حق مقدس في الرأي والمشورة .. بالتالي أشاروا عليه وحاوروه .. فأقنعهم أو أقنعوه ، وكثيرة هي الحالات التي اقتنع بها وعدل بها عن رأيه ، ومن هذه الحالات ما أدى إلى نتيجة سلبية كارثية ، لكن الله سبحانه وتعالى قد أثنى عليه وأمره بالحفاظ على مبدأ الشورى ، إذ لو كان فظاً غليط القلب ورفض مشورتهم لانفضوا من حوله .. وهنا تكون الكارثة أكبر .
وفي ذلك إقرار إسلامي أكيد : أن السياسة أمر بشري بامتياز وليست أمراً إلهياً مقدساً ، وأن الأمة وليست السماء هي مصدر السلطات .. بمعنى آخر : إن في ذلك تأكيد إسلامي على رفض تلك النظريتين اللتين أقرهما سيد قطب .
وبعد إقرار سيد قطب بهاتين النظريتين خلافاً للموقف الإسلامي .. ماذا بقي لفكرة الدولة الدينية التي يدعى سيد قطب رفضها ؟ .. لم يبقَ إلا الإقرار صراحة بفكرة محاكم التفتيش ، كما أقرت ذلك الكنيسة في الدولة الدينية في أوروبا خلال عصور الظلام ، وذلك للبحث والتفتيش في ضمائر الناس عن كل من لا يؤمن بحقهم المقدس في التشريع والحكم والسلطة السياسية ، نيابة عن الله الحاكم الأعلى ومصدر كل السلطات ، وكل من لا يؤمن فهو كافر زنديق ، يستحق شرعاً خشبة الصليب أو المقصلة .
لكن .. إن لم يتحدث سيد قطب عن مثل هذه المحاكم فقد تحدث صراحة عما يبررها ، وهو تكفير كل من لا يؤمن بحاكمية الله بهذا المضمون ، وتكفير كل من يعترف بسلطة سياسية لغير الله ، وتكفير كل من يرتضي بالعيش في وطنه تحت ظلال مثل هذه السلطة ، حتى إن كان مسلماً متديناً .. لهذا أنشأت التنظيمات الداعشية القطبية محاكمها عندما اغتصبت الحاكمية السياسية بالعنف والإرهاب في بعض ديار المسلمين ( لكي تردها إلى الله ) .. أي لكي تستأثر بها نيابة عن الله .
وبإقرار هاتين النظريتين ، وبنهج التكفير المترتب عليها ، يكون دعاة نظرية ( الحاكمية لله ) قد اتفقوا تماماً مع فقهاء الشيعة دعاة نظرية ( الإمامة ) ، ولم يختلفوا عنهم إلا بطريقة تعيين ( الإمام / الحاكم ) ، وكلاهما أقر الحكم بالحق الإلهي المقدس ، ومن ثم جردوا الأمة باسم الدين من حقها بأن تكون هي مصدر السلطات .. أي جردوها من حقها في التشريع والتقنين لواقعها الاجتماعي الدنيوي ، المتغير والمتطور أبداً ، بزعم أن سلطة التشريع للبشر أمر سماوي لا يحق للبشر التدخل فيه .
وعن هذين الفريقين من الدعاة يقول الدكتور محمد عمارة : {{ هؤلاء النفر من المشتغلين بالعمل والدراسات في الحقل الإسلامي ، يمعـنون بافتعال التناقض بين أن تكون السلطة للأمة ، وبين أن يكون الحكم لله سبحانه وتعالى ، وسبيلهم إلى ذلك هو الخلط بين أمور لا تقبل الاختلاط ، بل ويرتبون على مقدماتهم ( الفاسدة ) الحكم بكفر كل من يجعل مصدر السلطة السياسية لغير الله }} ص 34 من كتاب / الإسلام والسلطة الدينية .
والمعلوم أن فقهاء الشيعة قد سلكوا ذات المنهج القطبي في اجتزاء النصوص القرآنية وتأويلها فلسفياً للوصول إلى نظرية ( الإمامة ) ، كما أنهم قد فهموا قاعدة ( لا إله إلا الله ) بذات المدلول الفلسفي عند سيد قطب تماماً ، لذلك اعتبروا الإمامة أصلاً من أصول الدين ، بل ( أهم أصول الدين على الإطلاق ) ، فالإمامة عندهم تعتبر جزء من الألوهية .. والألوهية تتضمن الإمامة .. مثلما الحاكمية السياسية عند سيد قطب جزء من الألوهية .. والألوهية تتضمن الحاكمية السياسية .. والحاكمية السياسية ( أهم خصائص الألوهية ) .
وعلى أساس هذه المقدمات ( الفاسدة ) وفقاً لتعبير الدكتور عمارة .. فمثلما فعل دعاة نظرية الإمامة وكفروا من لا يؤمن بالإمامة .. كذلك فعل سيد قطب .. كفر كل من لا يؤمن بحاكمية الله السياسية ، ذلك أن الإيمان بحاكمية الله وفقاً لهذا المضمون ، هو معيار الفصل بين الإيمان والكفر عند سيد قطب ، وكل من لا يؤمن بحاكمية الله وفقاً لهذا المضمون ، فهو خارج عن ملة الإسلام ، وهذا ما قاله صراحة بنص واضح صريح : ( القاعدة النظرية التي يقوم عليها الإسلام على مدار التاريخ البشري هي شهادة أن لا إله إلا الله ، أي إفراد الله سبحانه بالإلوهية والربوبية / والقوامة والسلطان والحاكمية / .. إفراده بها اعتقاداً في الضمير ، وعبادة في الشعائر ، وشريعة في واقع الحياة .. فشهادة أن لا إله إلا الله لا توجد فعلاً ، ولا تعتبر موجودة شرعاً ، إلا في هذه الصورة المتكاملة ، التي تعطيها وجوداً جدياً حقيقياً ، / يقوم عليه اعتبار قائلها مسلماً أو غير مسلم / ) ، ص 48 .
وبموجب هذا المعيار للفصل بين المسلم وغير المسلم ، فقد وضع سيد قطب كل بني البشر على الإطلاق في خانة الشرك والجاهلية ، إذ أن الجاهلية المعاصرة كما يقول : ( تقوم على أساس الاعتداء على سلطان الله في الأرض ، وعلى أخص خصائص الألوهية وهي الحاكمية ، إنها تسند الحاكمية إلى البشر ، فتجعل بعضهم لبعض أرباباً ، لا في الصورة البدائية الساذجة التي عرفتها الجاهلية الأولى ، ولكن في صورة ادعاء حق وضع التصورات والقيم والشرائع والقوانين والأنظمة والأوضاع بمعزل عن منهج الله للحياة ، وفيما لم يأذن به الله .. فالناس في كل نظام غير النظام الإسلامي يعبد بعضهم بعضاً في صورة من الصور ) .
فالناس في كل نظام غير النظام الإسلامي ( كما يفهمه سيد قطب ) ، يعبد بعضهم بعضاً في صورة من الصور .. ! ، كل الناس .. بما فيهم كما يقول : ( تلك المجتمعات التي تزعم لنفسها أنها مسلمة ، وهذه المجتمعات لا تدخل في هذا الإطار لأنها تعتقد بألوهية أحد غير الله .. ولا لأنها تقدم الشعائر التعبدية لغير الله أيضاً .. ولكنها تدخل في هذا الإطار لأنها لا تدين بالعبودية لله وحده في نظام حياتها ، فهي وإن لم تعتقد بألوهية أحد إلا الله ، تعطي أخص خصائص الألوهية لغير الله ، فتدين بحاكمية غير الله ، فتتلقى من هذه الحاكمية نظامها وشرائعها وقيمها وموازينها وعاداتها وتقاليدها ، وكل مقومات حياتها تقريباً ) ص 91 .
وفي تلك المجتمعات التي تزعم لنفسها أنها مسلمة ، فالمسلمون هم فقط من يتبنى نظرية الحاكمية لله إيماناً واعتقاداً ، فهم شيعة سيد قطب ( الاخوان المسلمون ) وأنصارهم .. وكل التشكيلات والتنظيمات الجهادية التي انبثقت عنهم .. فهم الطليعة الإسلامية المكلفة قطبياً برد سلطان الله المغتصب إلى الله .
ويدعو سيد قطب شيعته صراحة إلى الاستعلاء على مجتمع الجاهلية المعاصرة ، والانسلاخ عنه بالكامل ، والعمل تحت قيادة مستقلة عن حكومة الدولة ، بالتالي الجهاد والخروج والتمرد على الحكومة والمجتمع معاً ، دون أي اعتبار لرابطة الأهل والقرابة والأرض والوطن ، ذلك أن وطن المسلم كما يقول : ( لم يعد هو الأرض ، إنما عاد وطنه هو دار الإسلام ، الدار التي تسيطر عليها عقيدته وتحكم فيها شريعة الله وحده ، الدار التي يأوي إليها ويدافع عنها ، ويستشهد لحمايتها ومد رقعتها .. والأرض التي لا يهيمن فيها الإسلام ولا تحكم فيها شريعته هي دار حرب بالقياس إلى المسلم وإلى الذمي المعاهد كذلك .. يحاربها المسلم ولو كان فيها مولده ، وفيها قرابته من النسب وصهره وفيها أمواله ومنافعه ) ص 143 ، وهذا ما تفعله اليوم التنظيمات الداعشية القطبية في بعض ديار المسلمين ، فهي لا تحارب أنظمة الفساد والظلم والاستبداد فقط ، بل استباحت دماء كل من يعيش في وطنه تحت سلطان أي من هذه الأنظمة ، حتى إن كان مسلماً متديناً معارضاً معادياً لهذه الأنظمة .
تلك هي أبرز معالم نظرية ( الحاكمية لله ) .. نقرأ ما بين سطورها قراءة علمية موضوعية ، مؤمنين إيماناً مطلقاً ( بحاكمية الله المطلقة / الألوهية ) ، مسترشدين بالإسلام ديناً سماوياً ومنهجاً ربانياً قبل أي منهج آخر .. بعيداً عن المواقف والنظريات الفكرية السياسية .
تلك هي النظرية التي قال عنها الداعية الإسلامي أبو الحسن الندوي : (( والذين حصروا صفات الله وحقوقه في حق الحاكمية والسلطة العليا وحده ، ورأوه اصل الحقوق الإلهية ، وأول المطالب الربانية ، أخاف أن يكون قد صدق عليهم قول الرب تبارك وتعالى : ” وما قدروا الله حق قدره ” )) ص / 79 ، من كتاب ” التفسير السياسي للإسلام ” .
واختصاراً سياسياً للنظرية ، وبلغة الفكر السياسي المعاصر .. فهي ترفض رفضاً مطلقاً الديمقراطية كأسلوب سياسي لإدارة شؤون الدولة والمجتمع ، وتعتبرها خروجاً عن الدين وتشريعاً للشرك بوحدانية الله ، لأن الديمقراطية هي حكم الأمة والسلطة فيها للأمة .. ومن أهم مفردات العملية الديمقراطية فكرة التداول السلمي للسلطة ، في حين أن السلطة السياسية بمنهج الإسلام كما يزعم سيد قطب وشيعته من الإسلاميين ، هي من اختصاص الله وحده ، أي أنها غير قابلة للتداول ، وهي حق لهم وحدهم .. فهم وحدهم من يمثل سلطة الله السياسية على الأرض .
هذا وفقاً لنظريتهم القطبية المقدسة ، وقد جهلوا .. أو تجاهلوا .. أن الإسلام ذاته كدين سماوي ، وكمنهج فكري رباني عابر لحدود الزمان والمكان ، لم يلزم المسلمين بنظام محدد للحكم ، ولم يضع لهم نظرية سياسية مقدسة ، أو تشريعاً مقدساً بأي فرع من فروع السياسة ، باعتبار السياسة شأن دنيوي مدني متغير في الزمان والمكان ، إنما وضع لهم ( منهجاً عاماً ، وقواعد ومعايير منهجية ، وأحكام ومقاصد ثابتة ، تستهدف تحقيق المصالح العليا المتغيرة والمتجددة للأمة ) ، منها تستنبط النظريات السياسية بكل مضامينها الاجتماعية والاقتصادية والإدارية وغيرها .. تأخذ بالاعتبار سنة التغير والتحول والتطور ، وهي السنة التي صاغها الخالق العظيم ، وأحكم حتميتها في عالم الإنسان والمجتمع البشري .
ولو أن الإسلاميين دعاة هذه النظرية وأنصارها ، تحلوا بشيء من عقلانية الإسلام .. أو بشيء من عقلانية السياسة .. لاحترموا سنة الاختلاف في الرأي والاعتقاد ، وهي سنة من سنن الله في خلقه قبل أن تكون أصلاً من أصول الديمقراطية ، أي لتخلوا عن عقلية الإرهاب الفكري وعن فلسفة التكفير السياسي ، واعترفوا بحق الآخر في الاجتهاد الفكري والسياسي ، واعترفوا بأن معتقداتهم السياسية ليست إلا اجتهاداً خاصاً من وحي منهج الإسلام في السياسة ، وأعلنوها على مسؤوليتهم الخاصة ضمن حسابات الخطأ والصواب ، على مذهب الإمام الشافعي ( اجتهادي صواب يحتمل الخطأ ، واجتهادك خطأ يحتمل الصواب ) .. على الأقل كيلا ينسب فشلهم وأخطاؤهم إلى الإسلام الدين ، ولكي يغلقوا أمام المتغربين فكرياً وثقافياً أبواب الترويج لفكرة ( رجعية الإسلام ) ، أو قصوره فكرياً عن معالجة قضايا العصر ، وكيلا يدفعوا الأجيال المتنورة بثقافة العصر إلى التطرف بالاتجاه المعاكس واللجوء إلى علمانية الغرب بعيداً عن الإسلام .. اعتقاداً بأن الإسلام فكر مثالي لاهوتي مفصول عن الواقع ، لا يصلح للتعامل مع الواقع البشري .. أو لا يصلح فكرياً للتعامل مع قضايا المجتمع الحديث ، أو .. لم يعد صالحاً إلا للعبادات لمن شاء أن يتعبد .. كغيره من الديانات .
666 40 دقائق