في كل الأعمال الخارجة عن أي مألوف، وحيث الواقع أكبر من احتمالاته، كما قال الفيلسوف هيغل، يصعب على المتابع، حتى إن كان من النوع الذي سماه هيغل نفسه “مؤرّخ كل يوم”، أن يقرأ ثورة السوريين، فهي من أبرز الأعمال الخارجة عن المألوف، وتتحدى قدرتنا على إيجاد لغة تليق بها، وتعبر عن مضامينها التي تجل عن الوصف، وتتخطّى كل ما سبق أن عرفته بلادنا ومنطقتنا خلال تاريخها الطويل، وما عاشته من أمجاد ومآس.
تتحدّانا الثورة التي خال أعداؤها أنها مستحيلة، وها هي تجعل كل ما عداها باطلا وقبض ريح. وبعد أن كانت حلما تُقاس به الأماني، صارت واقعا لا حلم سواه ولا أمنية عداها، يعيشه السوريون منذ الخامس عشر من مارس/ آذار عام 2011. ونحن في يوم الذكرى العاشرة لانفجارها الذي زلزل الدنيا بمعنى الكلمة الحرفي، ولم يستطع أعداؤها حجب ارتداداتها عليهم، وعلى أولئك الذين هرعوا إلى الحرب عليه، وفي ظنهم أنه يكفي أن يهشّوا لها من بعيد، حتى تنهار، ويفرّ أحرارها مذعورين لا يلوون على شيء.
قبل الثورة بأيام، قال بشار الأسد إن سورية لن تشهد ثورة، بسبب التطابق بين معتقداته وما يعتقد به الشعب. بعد أيام، واجه الثورة بردّ فعلٍ أحمق قدر ما هو إجرامي، لأنه استهان بالربيع العربي، وأفهمه جلاوزته أن مجال السلطة العام لا يتّسع للسوريين، فإن دخلوه تم اصطيادهم واحدا بعد آخر، وجماعة بعد جماعة. لم يدخل الشعب مجال الأسدية العام أفرادا أو جماعات، بل اقتحمه كشعب ينتمي إلى مجاله الخاص، القائم على الحرية، والمتنافي مع كل ما يمتّ إلى الأسدية بصلة، والمفعم بالحرية الكرامة والتصميم على كسر قيود الطغيان. وما أن واجهته آلة القمع بعنفها، حتى أخذت تتصدّع بعجزها عن كسر إرادته أولا، ثم بإصراره على تخطّي حواجز النار والدم، الذي بلغ عامه العاشر. ولو أنك سألت متحمسّا للثورة عن الفترة التي يمكن أن يستمر الصراع فيها بين الاستبداد المنظم في مستوى السلطة والحرية التي وحّدت إرادتها وسط الأهازيج، لأخبرك أن الاستبداد أعد نفسه لمثل هذه الساعات، والشعب مشتّت مبعثر، ومن الصعب أن تستمر الثورة. لكن الواقع كان بعيدا عن هذه المخاوف، فالسوريون راهنوا على أنفسهم برهانهم على حريتهم، وأسّسوا إرادتهم العامة في الشارع، وخذلوا من خال، كالأسد، أنه لن تقوم لها قائمة، ما دام نظامه قائما، غير أن هذه الإرادة التي عبرت عن نفسها ناضجة فاعلة خلال الثورة، وجدت قبلها. ولو لم توجد، لما كان هناك غير مزق متناثرة من مواطنين تائهين، ولما شهد العالم جموعا هائلة توحّدها الحرية، وهي تحتفي بها في الشارع، والرصاص ينهمر عليها كالمطر، فكأنها تحتفل بأحد طقوس التضحية التي كانت ضرورية في الزمن الغابر لإنقاذ الجماعة، وغدت بعد الثورة رهان الخلاص، ومعيار التفوّق الأخلاقي والوطني على من كان الرصاص لغتهم التي فشلت في إسكات من يحتفون بأنفسهم وهم يردّدون: سورية بدها حرية، والشعب السوري واحد.
واليوم، وبعد أن بدأ الشعب تاريخا جديدا، وبلغ العاشرة من عمر حريته الذي انتزعه بدمه ودموعه من عمر الأسدية، واجتاز المطهر السياسي والروحي الذي فرض عليه، لم يعد هناك أي شكٍّ في أن النظام الأسدي المقيت صار وراءه، لأنه عجز عن ليّ ذراعه، أو كسر عزيمته، أو إجباره على التخلّي عن إيمانهم بالحرية وبوحدة الشعب، وربط وجودهم به، ما دامت الحرية هي النقطة التي فصلوا أنفسهم بواسطتها عن إجرام الأسدية وبؤسها، وشتلة المستقبل اليانعة التي تتنامى كل يوم وفي كل خطوة يخطونها، حيثما كانوا، على درب الألم الراهن، والحلم الآتي.
المصدر: العربي الجديد