ثمة ترابط بين الفلسفة والفكر السياسي، فمكيافلي الذي يعتبر كتابه الأمير مرجعا لعلم السياسة الحديث، هو ابن عصر النهضة الأوربية، وقد كانت كتب الفلسفة اليونانية قد ترجمت الى اللاتينية، وما يتصل بها من فكر سياسي، وقد تأثر بها مكيافلي كما تأثر بالتاريخ الروماني، أما المفكرون السياسيون في عصر التنوير أمثال جان جاك روسو، ومونتسكيو، وجون لوك، وآدم سميث، وغيرهم فقد دخلوا للسياسة من باب الفلسفة، محاولين عقلنة السياسة، وجعلها في خدمة المجتمع والأخلاق.
وفي التاريخ العربي – الاسلامي، وبعد أن ترجمت كتب الفلاسفة اليونانيين الى العربية، فقد تأثر بها الفكر العربي – الاسلامي، ونشأت داخله عدة تيارات، وبلغ التأثر بها أن أبا حامد الغزالي الذي اشتهر بعدائه للفلسفة، واعتبر حتى اليوم من أهم أئمة تيار المحافظة ضمن أهل السنة والجماعة، والذي كتب مؤلفه الشهير” تهافت الفلاسفة “، قيل عنه: ” انه بلع الفلسفة ثم حاول أن يتقيأها فما استطاع “.
أما المدارس الأخرى فأهمها مدرسة المعتزلة، التي حاولت ادخال الفلسفة في الاسلام، مع حرصها الشديد عن الاستقلال عن الفلسفة اليونانية والبقاء في دائرة الاسلام، أما الاسماعيلية فهي قد جمعت بين الفلسفة اليونانية والفلسفات الشرقية الغنوصية العرفانية، وابتعدت عن تيار السنة والجماعة، وقرنت بين السياسة والفكر. فالمدرستان الفكريتان المعتزلة والاسماعيلية كانتا وثيقتي الصلة بالسياسة، وبينما تلاشى تيار المعتزلة بعد العصر العباسي، ولم يعد له وجود فكري أو سياسي، فقد بقيت الاسماعيلية حتى اليوم سوى أنها تعرضت للكثير من التعديلات.
وقد تميز المفكرون المغاربة والأندلسيون المسلمون بالانفتاح أكثر على الفلسفة اليونانية , والفصل بينها وبين الدين على خلاف المفكرين المشرقيين , ومنهم ابن باجه وابن طفيل وأشهرهم على الاطلاق الامام القاضي أبو الوليد محمد بن أحمد …ابن رشد , وبفضل شرحه لكتب أرسطو , تعرف الغرب على الفلسفة اليونانية ,وقد حاول ابن رشد الجسر بين الدين والفلسفة وليس ادخال الفلسفة في الدين , وذلك بالقول ان الفلسفة طريق العقل للوصول للحق والفضيلة , وباعتبار أن ذلك الهدف هو هدف الدين أيضا فهما يلتقيان عند الهدف النهائي , وبالتالي ليس من مبرر للفلسفة لتعادي الدين , كما ليس من مبرر للدين ليعادي الفلسفة , وفضلا عن ذلك فالناس بحاجة للفلسفة مثل حاجتهم للعلوم الأخرى , فبفضلها يتمكن العقل من العمل على أفضل وجه , وذلك ما أمر به الشرع , وصرح به القرآن الكريم في عدة أماكن كقوله تعالى ” قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون ” وقوله ” لو كنا نسمع أو نعقل ماكنا من أصحاب الجحيم ” وقوله ” إذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألقينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون” . يرى ابن رشد ” وجوب استعمال القياس العقلي أو العقلي والشرعي معا ” , ” فواجب أن نجعل نظرنا في الموجودات بأفضل أنواع القياس وأتمها وهو المسمى برهانا ” , ونحن نستعين بآلات العمل في شؤوننا اليومية والدينية , دون أن نتحرى في ذلك ما اذا كان منشؤها وصانعها مشاركا لنا في الملة أو غير مشارك , نحن نذبح ذبائحنا وأضحياتنا مثلا بسكاكين لا نتحرى فيها أن تكون من صنع مشارك لنا في الملة , بل نتحرى فيها فقط شروط الصحة , وهي أن تكون نظيفة غير نجسة وحادة لا تعذب الحيوان ..الخ.. وإذا كنا نفعل هذا في حياتنا العملية، الدينية وغير الدينية، فلماذا لانفعل الشيء نفسه في حياتنا الفكرية؟ يجب اذن أن نضرب بأيدينا في كتب القدماء فننظر فيما قالوه من ذلك فان كان صوابا قبلناه منهم، وان كان فيه ما ليس بصواب نبهنا عليه ” (كتاب فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال).
ولو ساد منطق ابن رشد بعقلانيته الفكر العربي – الاسلامي، لتغير الكثير في التاريخ العربي، أفلا يستحق التأمل أننا بعد حوالي /900/ عام من حياة ابن رشد نجد أنفسنا بحاجة للعودة اليه والبناء على فكره لتحفيز العقل العربي ومواجهة نزعة الجمود المتحكمة فيه؟
ولما كانت الفلسفة تفتح الباب أمام الفكر السياسي، كما تفتح الباب أمام مراجعة المسلمات التي التصقت بالدين حتى أصبح التعرض لها من المحرمات، فقد تعرضت الابن رشدية للمحاصرة والاهمال، وأحرقت كتب ابن رشد في حين كانت تدرس في جامعات أوربة، ومع انحسار الابن رشدية، انحسرت العقلانية العربية، وفقد الفكر العربي – الاسلامي نافذة التنوير، فلم يعد أمامه سوى أن يغرق في ظلام التكرار والنظر للخلف. وشمل ذلك مختلف جوانب الفكر، ومنها الفكر السياسي.