يحاول الكثيرون في إطار التشديد على ضرورة بلورة الهوية الوطنية، وتعميق الانتماء الوطني، وترسيخ الثقافة الوطنية الجامعة، المتجاوزة لكل الهويات الأخرى، أن يقيموا حواجز واهية بين الكينونة الوطنية والانتماء الهوياتي والثقافي، وهم بذلك يسعون لبلورة هوية محلية، ذات خصائص وقسمات مستقلة بذاتها، وعلى خجل واستحياء، يروجون لتناقضها مع فضائها الواسع وعمقها المحيط بها، بل يذهبون لأبعد من ذلك حين يخلطون بين الراهن السياسي والثابت التاريخي ليصلوا الى قطيعة بين الماضي والحاضر، الحاضر والمستقبل.
إن إيماننا وعملنا المتركز على ضرورة إقامة سورية جديدة وفق عقد اجتماعي جديد بين كل مكوناتها، في ظل دولة عصرية، تحترم وتلتزم بشرعة حقوق الانسان، لا يجب أن يصرفنا عن حقائق الانتماء الجغرافي والثقافي وبأننا جزء من أمة، وحضارة، ضاربة في عمق التاريخ، وقدمت للبشرية الكثير مما يمكن سرده والاستدلال به، لا ينبغي الانفكاك منها، أو الانفصال عنها.
هذه مقدمة لنصل للقول إن هجاء أو الإشادة “بالوحدة” التي نعيش ذكراها، ونحيي حاليا قيامها، كحدث مفصلي في تاريخنا الحديث والمعاصر [22 فبراير/ شباط 1958]، والوقوف معها، والدفاع عنها، أو الوقوف ضدها، وتضخيم أخطائها، لسنا معنيين به، هنا على الأقل، بقدر ما نحن مشغولون ومهمومون ومهتمون بمستقبلنا كسوريين وبدولتنا السورية التي نريد أو نطمح لتحقيقها، ونعمل لأجلها.
ومن هنا فانحيازنا لفكرة “الوحدة” في أي صورة واقعية أتت بها، أو أي صيغة ملاءمة، هي وفق فهمنا الذي نسترشد به، الوحدة بضرورات الواقع والمستقبل.
فتحت الثورة السورية الباب واسعًا للتدخل الخارجي، بسبب سياسات نظام القتل والاجرام، ومنذ ذاك تعرضت، وتتعرض سورية لاستباحة كاملة من الدول العظمى والاقليمية المتدخلة في الصراعات التي نشبت على سورية، في حدود كيانها الجغرافي، ولمشاريع غزو من ذات القوى، الطامعة، وهي بذلك تستهدف وحدتنا وكياننا وثقافتنا ووجودنا، وهذه المشاريع، عدا عن عدم إمكانية ايجاد دولة وطنية سورية قوية وذات سيادة يحترمها جوارها، في ظل وجودها وهيمنتها، حتى لو خرجت أو انسحبت بنتيجة عملية سياسية دولية، يبقى في ظل المعطيات الحالية أو الناشئة، من الوهم تصور إمكانية مواجهتها بالقدرات الذاتية الوطنية، المحدودة، لأنها ستبقى موجودة وقائمة، وهي مشاريع لا تستهدف دولة بعينها، دون بقية جوارها ومحيطها، ما يعني، بمعنى ما، مصير المنطقة برمتها مشترك وواحد، صعودا وهبوطا.
وعليه دعوتنا وإيماننا ب”الوحدة” ليس جريا وراء سراب، وأحلاما منفصلة عن الواقع، بقدر ماهي ضرورة حياة وبقاء وديمومة في مواجهة حال أصبح مكشوفا وعاريا، جعل دولنا، ومنها سورية، وشعوبنا ومنه السوري، عرضة لكافة المخاطر في عالم سمته السيطرة والنفوذ والصراع، وهكذا كان عبر التاريخ الانساني برمته، وإن اتخذ أشكالا مختلفة.
إن عوامل نجاح المشروع الوطني، الذي يطغى على ما عداه اليوم من أولويات وأهداف، وتحصينه بعوامل المنعة وعدم الاختراق، لا يمكن أن يقفز على، أو يتجاهل، الظروف المحيطة به، وكل ما يقال عن شروطه الداخلية هي شروط لازمة وضرورية، ولكنها غير كافية، ولعل ما تواجهه سورية اليوم أشبه بحريق مشتعل في عمارة متعددة الطوابق لا يمكن نجاة سكان أحد طوابقها، وقد وصل لهب النيران الى محيطه وجواره، عليه، فان تحقق كل الشروط اللازمة من توفر النخبة الوطنية الى ارادة السوريين في التجمع واتفاقهم على أسس دولتهم المستقبلية، واسدال الستار على حقبة طويلة من مآسيهم، لن تكون كافية بدون استقرار المنطقة ونهضتها واستقلالها، وهو ما نقصده ونكرره بقولنا عن الوحدة بضرورات الواقع، وفق “شكل ما” يستجيب للتحديات الشاملة والمخاطر العامة، وهو ما يجب التفكير به مليا بعيدا عن كل ما يقال عن تجربة الوحدة المصرية_ السورية وعوامل فشلها لأسباب داخلية، وعوامل قصور وخلل فيها، أو لأسباب خارجية شكلت “المؤامرة” عاملا حاسما فيها، أو في تضافر كلا السببين معا.
نحن السوريون ومن منطلق مصالحنا وبناء دولتنا الوطنية التي تليق بتضحياتنا الكبيرة على مدى عقود طويلة، خصوصا منها العقد الأخير معنيين ب”الوحدة” من منطق مصالحنا المشتركة، ومصيرنا المشترك على مستوى الاقتصاد والأمن والسياسة، بالإضافة الى العوامل الأخرى كاللغة والثقافة والتاريخ والجغرافيا.
من المتعذر على الوحدويين، اليوم، الحديث عن الوحدة الاندماجية وقيام الدولة_ الأمة ولكن أشكال أخرى كثيرة في وارد الممكن والضروري، مع الحفاظ على دولنا الوطنية والاعتزاز بها، وضرورة بنائها ومراعاة خصوصياتها التعددية، في ظل هوية وثقافة جامعة، لا يمكن التنكر لها، أو خلق بدائل عنها، كما يروج بعض نخبنا ومثقفينا عن دولنا، ويتحدث عن سورية_ الأمة.
قدرنا الوحدة ومستقبلنا ومصيرنا مرتبط بالوحدة.