أثارت الأحداث العاصفة الأخيرة في مدينة طرابلس أحاديثًا متنوعة جدًا عن المدينة وحيثيات ما جرى وخلفياته الاجتماعية والأمنية والسياسية ومسبباته ومسؤولية السلطة كما أثيرت فرضيات التدخلات الخارجية والشبهات والمندسين والمغرضين وغير ذلك من كلام يساهم في جزء منه في تشويه صورة المدينة وأهلها والتمويه على حقيقة ما يجري فيها وما يعد لها من فتن واستهدافات مغرضة.
وحتى نتمكن من رسم صورة واضحة للأحداث فيها، يتوجب إلقاء نظرة تاريخية وحديثة على المدينة وتوضيح خلفيات بعض ما جرى فيها في سياق أحداث لبنانية وعربية قريبة.
١ – المدينة هي طرابلس الشام.. اسمها هذا يدل على دورها التاريخي الذي لطالما لعبته وتميزت به.. فهي ثغر من الثغور الساحلية التي كانت قلعة من القلاع الأساسية في الدفاع عن الداخل العربي الإسلامي وعموم بلاد الشام. وكان دورها بارزًا إلى جانب مدن فلسطين الساحلية في رد الغزوات الصليبية القادمة من الشطر الشمالي الأوروبي للبحر المتوسط.
٢ – وككل المدن العربية الساحلية على البحر الأبيض المتوسط، كانت مركز ثقل اجتماعي وسكاني ونقطة جذب وتفاعل مع عمقها الداخلي الشامي.. فكان ازدهار المدارس ودور التعليم فيها سببًا في اجتذاب أبناء القرى والمحيط إليها فصهرتهم بطابعها العربي المتفتح المتنور.
٣ – نشأت فيها وازدهرت في عصور التاريخ العربية والمملوكية والعثمانية حرف وصناعات وفنون مهنية وصلت سمعتها وثمارها إلى بلاد العالم حتى أوروبا. ليس أقلها شأنًا صناعة الصابون مثلاً. وعنها نقل الفرنجة هذه الصناعة وغيرها من الحرف إلى بلادهم.
٤ -عرف المجتمع الطرابلسي بالانفتاح والاعتدال والتسامح. ومع أن غالبية سكانها من المسلمين ” السنة ” يعيش فيها: مسيحيون ” و “علويون ” بكل انسجام ومحبة وتفاعل حر دون أن يكون بينهم جميعًا شيء من أسباب التنازع أو التضاد. وبلغ الانصهار حدًا جعل التمييز الديني أو الطائفي والمذهبي بين أبنائها متعذرًا. فكثير من شوارعها وأحيائها بأسماء مسيحية صريحة ولم يكن الأمر يشكل أدنى تحسس من أحد.
٥ – من الخطأ الجسيم محاولة فهم ما يجري في طرابلس بمعزل عما يجري في البلاد العربية عمومًا وفي بلاد الشام خصوصًا.
وباعتبارها “حاضرة تاريخية عربية مستقرة متجانسة “، فقد كانت – وما تزال – مستهدفة من جهات عديدة تعادي هذه الخصائص تحديدًا: الهوية العربية المتجانسة والمستقرة تاريخيًا. كما هو حال المدن العربية التاريخية التي شكلت منارات ثقافية لبيان هوية المنطقة والتعبير عنها، ثم كانت قلاعًا نضالية متميزة في الدفاع عن تلك الهوية وتجسيدها نموذجًا حياتيًا مستمرًا. ابتداء من الموصل مرورًا بالناصرية وتكريت والفلوجة وبغداد العراقية، ومرورًا بالرقة ودير الزور وحمص وحلب وحماه السورية وصولًا إلى بيروت وطرابلس وصيدا. فقد استهدفت تلك المدن من قوى العدوان المحلية والإقليمية والعالمية بالتدمير والتهجير والتغيير السكاني الديمغرافي لتغيير معالمها وتبديل هويتها التاريخية المستقرة بهويات مصطنعة بديلة تخدم الرؤية الإستراتيجية العامة المرادة للمنطقة العربية والمعمول عليها بدقة وخبث وبراعة. وهذا بالذات ما يراد لطرابلس الشام اللبنانية.
٦ – حتى ما قبل الحرب في لبنان سنة ١٩٧٥؛ كانت ما تزال طرابلس تمثل ذلك المجتمع العربي المتجانس الملتزم عمليًا ونضاليًا بقضية الصراع العربي ضد العدوان الصهيوني فكانت السمة الغالبة على أهلها هي الولاء لتجربة مصر الناصرية والالتزام بدعم المقاومة الفلسطينية ودعم الشعب الفلسطيني وكل قضية عربية وثورة الجزائر تشهد.
ثم جاءت الحرب سنة ١٩٧٥ وتلاها مباشرة دخول القوات النظامية السورية إلى لبنان فبدأت الأمور تتغير عنوة بالجبر والفتنة والإكراه.
٧ – مع سيطرة قوات النظام السوري على لبنان بعيد دخولها مع ” قوات الردع العربية ” انطلق العبث بالتجانس السكاني لطرابلس من قبل السلطات السورية وأدواتها المحليين. حتى أنها صنعت ميليشيات خاصة لتتولى مهمة العبث تلك. فكانت ميليشيات ” الفرسان الحمر ” مخصصة لتحفيز واستقطاب وتجنيد أبناء طرابلس من ” العلويين ” ووضعهم في خدمة أجهزة الأمن السورية وتشكيل أقلية مذهبية منهم متصارعة مع الوسط المسلم للمدينة.. (وكان يشرف عليها ويمولها رفعت الأسد شخصيًا.). فراحت تعبث بأمن طرابلس وتجانس سكانها لتضع العلويين في مواجهة السنة بحجة الحرمان واستعادة الحقوق.
٨ – ثم تولت تلك الأجهزة والميليشيات المذهبية التي صنعتها وسلطتها على الناس، ضرب الكثافة السكانية العروبية لطرابلس وتدمير القوات الفلسطينية التي لجأت إليها عقب الاجتياح الصهيوني عام ١٩٨٢.. فكانت مجازر باب التبانة والأحياء الشعبية القديمة ومعها القوات الفلسطينية. فكانت تلك ضربة مؤلمة جدًا لهوية المدينة والتزامها العروبي بقضية فلسطين.
كانت الأحياء المضروبة آنذاك تشكل المناطق الأكثر فقرًا في طرابلس مما أطلق معاناة اجتماعية كبيرة ما تزال آثارها ممتدة إلى اليوم. تمثلت أساسًا بوجود أعداد كبيرة من الشباب العاطل عن العمل ومن العائلات التي لا مأوى لها ولا دخل.
فكانت تلك أفضل الظروف لاستقطاب أعداد من الشباب لاتجاهات دينية متعصبة تبغي الدفاع عن النفس أولًا وتأمين وسيلة للعيش والكسب.
وكان اللافت أيضًا أن أجهزة الأمن السورية ذاتها رعت تشكيل تنظيمات ميليشيوية ذات طابع مذهبي ” سني ” في ذات الوقت الذي كانت تحظر على جميع القوى أية مشاركة في مقاومة العدو الصهيوني لتصل بالنتيجة إلى نسبة ” المقاومة ” إلى الميليشيات المذهبية الشيعية التي أسستها إيران..ثم تفريغها من مضمونها الحقيقي.
فتمثل دور تلك الأجهزة الأمنية في رعاية تشكيل ميليشيات مذهبية بعضها سني والآخر شيعي. وهو ما سوف تكون له تداعيات مستقبلية مهمة.
(للتذكير فقط كان تفجير مسجدي التقوى والسلام على يد عناصر جندتها تلك الأجهزة الأمنية)..
٩ – في محيط طرابلس القريب وفي عكار تحديدًا توجد جماعات يطلق عليها ” التركمان ” وهم من أصول تركية، كانوا استقروا في تلك المنطقة منذ أيام السلطنة العثمانية. ومنذ عدة عقود من السنين والسلطات التركية ترعاهم وتشبك معهم علاقات اجتماعية وتساعدهم تعليميًا وثقافيًا أيضًا. بدأت تلك الرعاية التركية في ذات الفترة التي كانت فيها الأجهزة السورية تنكل وتضطهد وتؤسس لميليشيات مذهبية منغلقة متعصبة.
عدد من أبناء هذه الجماعات اللبنانية (التركمانية الأصل) كانوا يسكنون ويعملون في طرابلس المدينة.
١٠ – في السجون اللبنانية عدة مئات من شباب طرابلس ومحيطها المسلم من مناطق وقرى الشمال في عكار والضنية. غالبيتهم ما يزالون في السجون منذ سنوات ولم يقدموا لأية محاكمة ولم تصدر بحقكم أية أحكام. والتهمة أنهم ” إسلاميون “.. وعلى الرغم من المطالبات الشعبية والسياسية والقانونية بتقديمهم للمحاكمة أو إطلاق سراحهم لأنهم أصلاً لم يرتكبوا أية أعمال مخلة بالأمن؛ إلا أنهم باقون في السجون مما يضاعف من شعورهم وشعور ذويهم وأهاليهم بالقهر والظلم الأمر الذي سوف يتسبب بمشاعر إنتقامية قد توظف بشكل سلبي يضر بالاستقرار الاجتماعي.
علمًا أن عددًا آخر من السجناء ” الإسلاميين ” قد جرى تهريبهم قبل عدة سنوات من سجن رومية اللبناني ونقلهم إلى سورية للالتحاق بفصائل ميليشيوية والقتال هناك. وقيل يومها أنهم هربوا من السجن ولم يعرف أحد كيف هربوا. يبلغ عددهم حوالي ال ٤٠٠ سجين.
أليس في الأمر مفارقات عجيبة مشبوهة؟ ولم يجر أي تحقيق ودفنت القضية في سجلات خفية.
١١ – تعاني طرابلس من إهمال رسمي شديد لكنه ملفت للنظر ومثير للريبة. مما جعلها تشهد بطالة مرتفعة وفقرًا مدقعًا وتعديات متواصلة. يضاف إليها تركيز إعلامي منذ عقدين لتصويرها وكأنها مدينة للتطرف الإسلامي وهي أبعد ما تكون عن التطرف أو التعصب الديني وأهلها مشهود لهم بالطيبة والانفتاح الثقافي والديني والدليل الدامغ ذلك التنوع السلس الآمن المستقر بين كافة أهلها على غلبة الطابع الإسلامي عليها لأسباب تاريخية وسكانية اجتماعية.
وعلى الرغم من أن من أبنائها مسؤولون كبارًا وأثرياء جدًا في نظام المحاصصة الطائفي الحاكم إلا أنهم يشتركون معًا في ذلك الإهمال المتعمد المقصود.. فما السر في ذلك؟؟
١٢ – كانت طرابلس بوابة ساحلية للداخل الشامي تاريخيًا. فكانت إحدى أبرز صلات لبنان بعمقه العربي. مما جعلها قلعة عروبية نضالية ترعى كل قضية قومية ووطنية وعربية تحررية. فهل خنق وإهمال طرابلس مطلوب لوأد تلك الصلات ومعها هويتها العربية وتقطيع لبنان وإلحاقه بالمنظومة الدولية التي ترعى الكيان الصهيوني؟؟
١٣ – مجتمع طرابلس نموذج للتسامح والتعدد والوحدة الوطنية الشعبية. فهل خنقها وإهمالها وتهميشها حد تفجيرها من الداخل؛ مطلوب للقضاء على ذلك التعدد السمح المتجانس المستقر؟ أليس مطلوبًا نسف تلك الوحدة الشعبية كنموذج باهر في لبنان الوطن؟؟ وهو ما تنبئ عنه أحداث لبنان المتلاحقة منذ أوائل سبعينات القرن العشرين؟؟
١٤ – بين الحين والآخر ينشر الإعلام المرتهن للسلطة وأصحاب المشاريع المشبوهة، أخبارًا عن وجود عناصر من تنظيم داعش الإرهابي في طرابلس وعن نوايا أو تخطيط أو تحضير لأعمال إرهابية.
هذا الإعلام المصنع المفبرك يريد تهيئة الرأي العام لتقبل اجتياح طرابلس وإسقاطها في براثن المشاريع الشعوبية المتصهينة التي يرعاها ” الإسرائيلي ” وقوى إقليمية حاقدة طامعة. تمامًا كما حصل لتلك المدن العربية المسلمة في عموم بلاد الشام. سيناريو واحد وإخراج متشابه والهدف واضح محدد.
ألم يسبق هذا سيناريو مشابه لما شهدته مدينة عرسال اللبنانية المسلمة والتي تعاني ما تعانيه طرابلس من إهمال متعمد مقصود؟؟ وهل تستعد تلك الجهات التي نقلت مسلحي ” داعش ” من جرود عرسال إلى إدلب بعد أن استثمرتهم لأغراض معروفة أقلها تجريم أهل عرسال واللاجئين السوريين فيها والتحريض ضدهم؛ هل تستعد لسيناريوهات مشابهة في طرابلس؟؟
١٥ – انطلاقًا من وضوح ما يخطط لبلادنا العربية وقياسًا على ما يجري في بلاد الطوق العربي المشرقي.. واستنادا إلى مشاريع التفتيت والتغيير السكاني الديمغرافي، وبناء على التحضيرات المكثفة لحروب مذهبية بين السنة والشيعة تحديدًا تحت شعارات مغرضة مبيتة وتعبئة مذهبية انقسامية تشترك فيها كل من إيران وتركيا تحديدًا؛ وبناء على ترابط ما يجري في لبنان بأحداث المنطقة كلها؛ أليس موضوعيًا القول أن تفسير ما يجري لطرابلس وفيها؛ يدخل في هذا السياق ويكمل ما يجري لبلاد المشرق وعموم المنطقة العربية؟؟ هل تتحضر طرابلس الشام لحروب من هذا النوع تمهيدًا للقضاء عليها؟؟
أليست تلك الوقائع المذكورة آنفًا تحمل مضمون تحضير الأدوات وتحضير الأرضية والنفوس والوقائع تمهيدًا لأحداث مشابهة لما جرى لمدن العراق وسورية تدمرها وتهجر أهلها؛ فيسقط لبنان كلية في أتون العصر الصهيوني وسيادة ” الإسرائيلي ” قولًا وفعلاً وترسيمًا؟؟
١٦ – خلاصة: في غياب ” الرسمي ” العربي وتوهانه واستغراقه في نوم الغفلة والرضوخ وقبول الهوان والتواطؤ معه ولصالحه، فلم يبق إلا تكاتف القوى الشعبية اللبنانية لمواجهة ما يرسم وإنقاذ طرابلس ولبنان كله من براثن سلطة نظامه الطائفي الفاسد المرتهن لقوى النفوذ الإقليمية والدولية، سيما وأن ما يسمى أحزابًا وطنية لبنانية تنام هي الأخرى في غفلة المصالح والتبعية والهوان.
أليس موضوعيًا المطالبة بتكامل العمل الشعبي العربي؛ أقله في بلاد المشرق؛ للدفاع عن النفس والذات والموضوع والوجود؟؟
فهل هناك خيار آخر غير انتظار ما يقررون لنا ويرسمون فينفذون ونحن نتفرج ؟؟ فمن يتصدى لعبء تلك المهمة الكبيرة حتى لا نبقى منتظرين مصيرنا البائس المحتوم ؟؟