إنَّ الهزيمة مدرسةٌ عظيمة، تقدّم لأبنائها أكثر ممّا يقدّمه النّصرُ من الدّروس والعبر، وتمنح أبناءها جرعاتٍ من المناعة أكثر من تلك التي يمنحها النّصر، لكن بشرط أن يحسنوا التّعامل مع الهزيمة إدارةً لها ووعياً بكُنهِهَا ودروسها.
ولا يشكّ عاقلٌ في أنَّ الثّورات التي اشتعلت مع الرّبيع العربي قد أصابتها انتكاسةٌ أذهلت أبناءها، واستعلت الثّورة المضادة بطريقةٍ أفقدت العديدين صوابهم وجعلت الأرض تميد من تحت أقدامهم.
والعقلاء هم من يمتلكون القدرة على إدارة الهزيمة إذا وقعت، ويحسنون التَّعامل معها فيملكون زمامها بدل أن تملك هي زمامهم وتقودهم إلى حيث لا تُحمَدُ العاقبة.
الإقرارُ بالهزيمة لا القَبُول بها
الإقرار بالهزيمة والاعتراف بها لا يعني على الإطلاق القَبول بها، فالإقرار بالهزيمة هو نقطة البداية للخروج منها وقلبها إلى نصر، بينما القبول بالهزيمة هو بداية طريق خنوعٍ وذلٍّ طويل.
إنَّ “تجمُّد الّزمن” الذي يعتري العديد من الرّموز والقيادات الثّورية يتنافى مع الاعتراف بالهزيمة.
وتجمّد الزمن هو أن يتوقّف الزمن عند لحظةٍ معيّنة لا يستطيع الثّائر مغادرتها أو الخروج منها، كأن يتوقّف الزّمن عند البعض في عام 2011م فيتعاملون مع القضايا في عام 2021م بالمنطق ذاته الذي ثاروا فيه وانطلقوا فيه من قمقم الاستعباد.
إنَّ إدارة الهزيمة تقتضي التّعامل مع القضايا بمعايير الحاضر بعد الانغماس فيه والخروج من قوقعة الزّمن الحلم.
وهذا لا يعني مطلقًا القبول بالهزيمة بل الإقرار بالحقيقة والاعتراف بالواقع حتّى يمكن التّعامل معه.
ليس العار أن نُهزَم في جولةٍ أو جولات، بل العار يكمن في الاستسلام لوطأة الهزيمة والخنوع أمام موجتها والغرق في لجّتها مع الإصرار على عدم وقوعها.
الهزيمة أمام القوّة لا الفكرة والذّات
في المعارك الكبرى ذات الطّبيعة المعقّدة والأبعاد المتشابكة والزّمن الطّويل من الطّبيعيّ أن تحدث انكساراتٌ عسكريّةٌ وهزائم ميدانيّة.
ومن الطّبيعيّ أن يتفوّق الباطل في جولاتٍ ويغلب في معارك، ولكنّ غيرَ الطّبيعيّ وغيرَ المقبول على الإطلاق أن ينهزم أهل الحقّ أمام أنفسهم في ميدان الفكرة التي يتبنّونها، ويرتكسوا في ساحة الحق الذي يحملونه في قلوبهم ونفوسهم ويذودون عنه.
غلبةُ أهل الباطل في ميدان القتال يجب أن لا تؤثّر على الإطلاق في ميدان المبادئ والقناعات، فالباطل هو الباطل مهما استعلى وغلب، والحقّ هو الحقّ مهما تزلزل أهله في ساحات القتال، ينبغي أن يبقى ثابتًا راسخًا لا تزعزعه كلّ قوى الأرض، وإيمان المرء بحقّه هو قوّة عظمى، وهو سلاحٌ نوعيّ، وهو الضّامن للبعث من تحت رماد الهزيمة الحاضرة.
فريضةُ المراجعات
من أوجب الواجبات عند حلول الهزيمة أن يسارع العقلاء في المجالات كافّة، العسكريّة والسياسية والفكريّة والشرعيّة والأخلاقيّة إلى عقد مراجعاتٍ شاملةٍ تستند إلى مكاشفاتٍ عاقلةٍ ومصارحاتٍ جريئةٍ لتشخيص الخلل ومواطنه.
فإنَّ وضع اليد على موضع الخلل، والضّغط على موطن الألم، والولوج إلى عمق الأسباب التي أورثت الهزيمة؛ هو واجب الوقت على أبناء الثّورات الموؤودة.
إنَّ أسهل السّبل للتّعامل مع الهزيمة يكمن في تعليقها على مشجب المؤامرة، وإقناع الذّات بطهرانيّة الصّف ورجس العدوّ والعالم المتكالب المتآمر علينا.
لكنّ هذا الأسلوب لا يعني سوى البقاء في الهزيمة والخروج منها إلى هزيمةٍ أشدّ وأعظم.
وهذا لا يعني إنكار وجود المؤامرة بل المطلوب هو عدم الغياب في عقدة المؤامرة غيابًا يمنع تلمُّس مواضع الخلل الحقيقي.
فعندما هزم المسلمون يوم أحد جاء البيان القرآنيّ ليركّز على مربط الفرس في قراءة الهزائم؛ حيث قال تعالى: ” أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا ۖ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ”.
لا بدّ أن نفرّق بين المراجعات الحقيقيّة الرّامية إلى الخروج من دائرة الهزيمة إلى ميادين النّصر وبين تصفيّة الحسابات الضيّقة تحتَ ستارٍ من ادّعاء المراجعة
وعند الحديث عن المراجعات لا بدّ من التفريق بين جلسات النّقد العامّة والمصارحات الإعلاميّة والسّهرات الحواريّة، وبين المراجعات المنهجيّة التي تتمّ بصورةٍ علميّة عبر ورش عمل ولقاءاتٍ تخصصية تجمع الأطراف المتخصصة وأهل الخبرة والنّظر لتشخيص مواطن الخلل والإحاطة بأسباب الانتكاس دون مجاملةٍ لأحدٍ أو مداراةٍ لكيانٍ أو جماعةٍ أو فصيل.
كما أنّنا لا بدّ أن نفرّق بين المراجعات الحقيقيّة الرّامية إلى الخروج من دائرة الهزيمة إلى ميادين النّصر وبين تصفيّة الحسابات الضيّقة تحتَ ستارٍ من ادّعاء المراجعة ممّا يعني الغرق أكثر في أوحال الهزيمةِ المُستَحقّة.
وبعدَ تعرُّف السّنن والقوانين التي تمّت مخالفتها فهزمنا؛ لا بدّ من ووضع الحلول النّاجعة، واتّخاذ الإجراءات العمليّة والقرارات الشّجاعة لمنع تكرار الهزيمة، والمباشرة بالتنفيذ دون تردُّدٍ أو تأخٌّر.
إنَّ المراجعات المنهجيّة وحالُنا هذه ليست ترفًا فكريًّا، ولا ينبغي أن تُترك لفضول الوقت، بل هي واجبٌ على المخلصين والعقلاء أن يبادروا إليه راغبينَ قبلَ أن يخضعوا له رغم أنوفهم.
سرعةُ الإفاقة
من الواجبات الضروريّة في إدارة الهزيمة؛ المسارعةُ إلى الإفاقة من المصيبة لا الغرق في إحباطاتها.
والمعاجلة إلى الكَرّة بعد الفَرّة، والنّهوض السّريع للبدء بمعركةٍ جديدةٍ بآليّاتٍ مختلفةٍ ووسائل غير تلك التي أدّت إلى الهزيمة وساهمت في وقوعها.
وقد بيّن داهية العرب عمرو بن العاص رضي الله عنه أنّ هذا من أهمّ صفات الرّوم التي تحدّث عنها رسول الله صلّى الله صلّى الله عليه وسلّم في حديث المستورد القرشي.
فعن المستورد القُرشيّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “تقومُ الساعةُ والرومُ أكثرُ الناسِ”. فقالَ لهُ عمرو بن العاص: أبصرْ ما تقولُ؟ قال: أقولُ ما سمعتُ مِنْ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ.
قال عمرو: لئنْ قلتَ ذلكَ، إنَّ فيهِمْ لخصالًا أربعًا: إنهُمْ لأحلمُ الناسِ عندَ فتنةٍ، وأسرعُهمْ إفاقةً بعدَ مصيبةٍ، وأوشكُهمْ كرَّةً بعدَ فرَّةٍ، وخيرُهمْ لمسكينٍ ويتيمٍ وضعيفٍ، وخامسةٌ حسنةٌ وجميلةٌ: وأمنعُهُمْ مِنْ ظُلمِ الملوكِ”.
إنَّ سرعة النّهوض بعد الهزيمة هو من أهمّ القضايا التي تؤثّر في حركة التّاريخ كلّه، وتربكُ العدوّ، وتبقي على روح المواجهة متّقدة.
وقد تجسّد هذا عند خروج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عقب وصوله إلى المدينة بعد أُحُد، حيث نادى بالجنود الذين أنهكتهم الجراح وأصابهم القرح للخروج معه مجدّدًا في أثر العدوّ.
فكان هذا له أثر عظيم في إحياء الرّوح المنهكة والإبقاء على الهمّة صلبةً قويّة، وسرعة جبر الإرادة بعد كسرها بالهزيمة الثّقيلة.
إنَّ الذين لا يتقنون إدارة الهزيمة حينما تحلّ بهم لن يستطيعوا إدارة النّصر عند تحقيقه.
وإنَّ الذين يتعاملون مع الهزيمة بعشوائيّة وارتجالٍ، لن يحقّقوا النّصر الحقيقيّ، وإنْ تحقَّق لهم النّصر في صورته الأولى فسرعان ما يفقدونه بارتجالهم المعهود وعشوائيّتهم المتأصّلة.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا