“لا أخطر على الإسلام من أن تشوه معانيه وأنت تلبس رداءه وهذا ما فعله الإخوان المسلمون” كان هذا جزء بسيطًا من خطاب حافظ الأسد 1982 بعد قتل قرابة 40 ألف مواطن سوري في 30 يوماً وتسوية أحياء كاملة في مدينة حماه بالأرض، المدينة التي كانت أحداثها بداية لإعلان دولة والرعب وسلطة النار والحديد التي جعلت سورية مزرعة لحاكمها، فأصبحت تسمى سوريا الأسد نسبة إلى قائدها الخالد والذي مات بعد ثلاثين عاماً من الحكم! في هذه الأثناء كان هناك شاب يدرس الطب في بريطانيا عاد إلى بلاد الجمهورية ليحكمها بالوراثة عن أبيه بعد تعديل دستوري على مقاسه تم في ربع ساعة، ظنه الكثيرون مجرد صبي غير متمرس ووصفه الإسرائيليون بالعجينة غير المخبوزة، فكل صفات القيادة التي زرعها حافظ بابنه الأكبر باسل والذي مات عام 1994 في حادث سير غامض لم يرها أحد في بشار لكن إحدى عشرة سنة من الانتظار كانت كافية للدرس الكبير والكبير جداً، بعدها بدأ الزرع يأتي أُكله بعد انفجار الشعب السوري في ثورة سلمية عارمة لتتحول من سلمية إلى مسلحة بفعل بطش السلطة وينشق الجيش على نفسه وتتحول البلاد بأسرها إلى ساحة حرب مفتوحة ويخسر الأسد خلال عامين ثمانين بالمئة من جغرافيا البلاد، وبدا أن مصير معمر القذافي ينتظر بشار الأسد لكن الحظ والظروف وقليلاً من الدهاء حول كل شيء فجأة لصالح الوريث القاتل ليصمد وتترسخ له السلطة مجدداً ليكون الحاكم العربي الوحيد في الثورات العربية الذي لم يُقتل أو يهرُب أو يُسجن، وهنا السؤال العريض كيف صمد بشار الأسد؟ ولمعرفة الجواب على هذا السؤال لابد أن نعرف العلويين وتماسك الخوف الذي اعتراهم، فالطائفة العلوية تمثل عشرة بالمئة من مجموع عدد سكان سوريا لكنهم يمسكون زمام الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية، وأظهر الربيع العربي أنهم معبؤون أيديولوجيًا وعقائديا للموت دفاعا عن عرش الأسد ونظامه، الذي أقنعهم بأن إضعافه يعني تعرضهم لجحيم انتقامٍ طائفيٍ على يد الغالبية السنية، وزرع في عقولهم أن ثمن المقاومة هو أقل بكثير من ثمن الاستسلام، لهذا تطوع شباب الطائفة المقدر عددهم بربع مليون شخص للقتال ضمن صفوف الجيش من جهة أو ضمن تشكيلات فرعية غير رسمية مثل الدفاع الوطني وما يعرف اصطلاحاً “الشبيحة” وخسر العلويون من خلال هذه التشكيلات ثلث شبابهم في السنوات الخمس الأولى من الحرب.
كان الأسد الابن يعمل على مبدأ لن يسقط النظام عسكرياً حتى لو اُغتيل وزير الدفاع ونائبه ورئيس خلية الأزمة وثلة من كبار القيادات العسكرية إذا لم تسقط العاصمة، التي بقيت بعيدة عن ضجيج الحرب، وهذا ما ادركه الأسد جيداً، لذلك أحكم قبضته الأمنية والعسكرية على العاصمة دمشق المحاصرة أصلا من معسكرات الجيش وقوى الأمن، بل وتمكن من السيطرة على أغلب مراكز المدن السورية الأخرى بمقراتها السيادية كافة، ولم تخرج سوى مدينتين عن سيطرته بالكامل، وبذلك بقي الأسد ممثل الدولة الشرعي، وأخذ مناوئيه باتجاه السيطرة على الأرياف والضواحي، كانت هذه خطة عبقرية بالكامل فبشار عرف تماماً أن السيطرة على غير مراكز المدن لا تعني شيئاً في معادلة الواقع السياسي والعسكري، ومع الوقت قسم هذه المناطق وهادن مدينة وحاصر وجوع أختها، وتدريجياً يمكن أن يستعيد كل شيء، وبما أن عاصمته بخير فنظامه بخير.
في الضفة المقابلة لبشار ظهرت معارضة سياسية ضعيفة هزيلة وهذا يعود لأسباب موضوعية من أهمها أن حافظ الأسد ومنذ عام 1982 منع الأحزاب إلا المنضوية تحت عباءة حزب البعث الحاكم فيما يعرف بالجبهة الوطنية التقدمية ، وبعد انطلاق الثورة كان لابد من تشكل كيانات سياسية تمثل الشعب السوري مثل المجلس الوطني الذي أسس عام 2011، ثم الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة عام 2012، وهيئة التفاوض السورية عام 2017، هذه الكيانات فشلت فشلاً ذريعاً في تنظيم المقاتلين والحراك الثوري وتوحيدهم والسيطرة عليهم بل أخفقت حتى في السيطرة على أنفسهم، ففي عام 2014 انشق نصف أعضاء الائتلاف عنه وانقسمت هيئة التفاوض على نفسها، وبالمحصلة فشلت المعارضة السياسية في تقديم بديل واقعي للأسد، بينما كان المقاتلون في الداخل يقدمون أنموذج فريد للخلاف فيما بينهم عنوانه الاقتتال.
لقد كانت الفصائلية هي الداء الذي لم تشف منه الثورة حتى الآن فالجميع يريد اقتسام الكعكة قبل الحصول عليها وكثرة القادة هي أكثر المشاكل التي عصفت بالثورة السورية منهم المتشددون التابعون للقاعدة، والسلفيون، والإخوان المسلمون ومن لف لفهم، والعلمانيون المدعومون من أميركا والغرب، فصائل بالمئات لكل منها مشروع سياسي مستقل أو بلا أي مشروع تقتتل بشكل شبه يومي.