لا أدّعي أنني أعرف كل العوامل التي أدت إلى انفجار الثورة التونسية، بين الأزمة الاقتصادية – الاجتماعية وتداعياتها، وبين سياسات التهميش وإقصاء الشباب عن المشاركة في صناعة السياسات الوطنية الكبرى، وبين بطالة أصحاب الشهادات الجامعية، وبين غياب الحريات الديمقراطية، ولكن من المؤكد أنّ مشكلات الفقر والبطالة وقصور العقد الاجتماعي كانت البيئة الحاضنة للثورة.
لا بدَّ من الاعتراف بأنّ الثورة الشعبية التونسية، بالرغم من بعض المظاهر غير الحضارية التي رافقتها، قدمت مثالاً عن دولة وشعب ووعي وثقافة هي أقرب إلى المدنية الحديثة. فلم تتحول إلى مجازر مروّعة، وربما يعود ذلك، في جزء جوهري منه، إلى انتظام غالبية الشباب التونسي في جمعيات مدنية، قد تكون شللية أحياناً، جرى تخصيبها سياسياً في لحظة تاريخية حساسة. مما يشير إلى أنّ انسداد أفق الإصلاح السياسي لا يمنع من تحوّل التنظيمات الشبابية المدنية إلى أدوات تعبئة سياسية عالية الكفاءة.
إنّ أروع وأهم ما في الثورة التونسية هو أنها كانت سلمية، وهي بذلك خلقت أنموذجاً مهماً، يفترض فيه ألا ينسحب لفوضى لاحقة، تضيع منه كل المكاسب التي تحققت. وينبغي الانتباه أيضاً إلى أنّ الحراك الشعبي التونسي كان أقل تسييساً، وأكثر تطلباً، بما يتعلق بالمسائل الحياتية. ولكنه أسقط الخوف بامتياز، وهذا ليس أمراً فردياً، بل حالة جماعية تلبست التونسيين وتغذت بمشاعرهم الجماعية ومواقفهم.
وهكذا، فإنّ المطالبة بالتغيير اكتسبت مصداقية لم يسبق لها مثيل، فرغم أنّ الثورة بدأت بمطالب اجتماعية غير سياسية، فإنها في العمق كانت سياسية بامتياز، بل أنّ الرسالة الأكثر بروزاً كانت في تقديم أولوية التغيير السياسي على كل الأولويات. حين اكتشف المواطن، الذي كان يشعر بأنّ لا حول له ولا قوة في مواجهة الدولة الأمنية التسلطية، أنّ القوة الفعلية تكمن بين يديه.
لقد أثبتت الثورة التونسية أنّ قضايا البطالة والفقر والجوع والعدالة الاجتماعية لها صدى أكبر وأكثر فعالية في تفعيل الحراك الشعبي، وأكدت مدى أهمية العدالة الاجتماعية كمسألة سياسية أساسية لا مجال لإهمالها، حيث كانت ثورة على السياسات الاقتصادية وفساد الأسرة الحاكمة اللتين تسببتا بنشر المزيد من الفقر والبطالة.
لقد أثبتت ثورة الحرية والكرامة أنّ المسألة ذات التأثير البالغ على التنمية الشاملة تتمثل في عدم الفصل التعسفي بين السياسة والاقتصاد، بما يمكّن المواطنين التونسيين من المشاركة في صياغة مستقبل وطنهم والمفاضلة، بحرية ووعي واستقلالية، بين الخيارات التنموية المتاحة وطرق ووسائل بلوغها، وبالتالي إجراء مفاضلة صحيحة بين الأعباء والمردودية المتوقعة لكل من هذه الخيارات.
واليوم، في الذكرى العاشرة للثورة، من حق الشعب التونسي، وقد حقق التغيير السياسي الذي يريده، أن يتطلع إلى المستقبل حتى يتمكن من تحقيق طموحه في إعادة بناء دولته الوطنية الحديثة، مما يستوجب التوصل إلى توافق وطني حول سبل إخراج البلاد من أزمتها الاقتصادية – الاجتماعية الراهنة، وبما يضمن احترام إرادة الشعب التونسي وطموحاته في الحرية والكرامة والعدالة والتنمية المتوازنة بين الجهات.
إنّ الأهم من الثورة هو أن يكون هناك حسابات دقيقة لنتائجها، وألا تكون دماء الشهداء مجرد مطايا للطامعين والمغامرين من أي جهة سياسية أو اجتماعية. المهم هو الحذر من أن تنحرف أو تنجرف هذه الثورة عن مسارها الطبيعي، حتى يُكتب لها النجاح وتمنع ظهور ديكتاتوري آخر، حيث أنّ نهاية الديكتاتور شيء ونهاية النظام الديكتاتوري شيء آخر. فالحذر كل الحذر من خطابات المزايدة السياسية، فالتونسيون أمام فرصة تاريخية لا يجوز التفريط فيها.
لقد اقتضت تجارب الانتقال الديمقراطي تحلّي قيادات القوى السياسية والاجتماعية بقدر كبير من النضج السياسي والسمو الأخلاقي وقيم التسامح والتجاوز والتركيز على المستقبل بدل الغرق في متاهات الماضي والخصومات الشخصية والحزبية، التي يمكن أن تضيّع على الشعب فرصته التاريخية ودماء الشباب الذين ضحّوا بأرواحهم من أجل بناء دولة الحق والقانون.
لقد آن الأوان في تونس أن ندرك أنّ إنجاز التحوّل الديمقراطي يتطلب احتضان مطلب العدالة الاجتماعية، إذ لا معنى للديمقراطية ولا لحقوق الإنسان دون التمتع بالحرية الأولى وهي التحرر من الفاقة والجوع والمرض والجهل، في كافة الجهات التونسية.
إنّ قابلية دولة الحق والقانون لاستعادة دورها التقدمي في الجمهورية التونسية الثانية لا تزال قائمة ومطلوبة، وما يزيد من فرص النجاح أن يحضر المجتمع المدني بمختلف فئاته وفعالياته، ليمارس دوره في حماية قيم ومؤسسات هذه الجمهورية المنشودة.
إنّ بعض ما يقوله الدرس التونسي هو أنّ من يريد الاستقرار فلا يجب أن يستهين بوعي الشعب، ولا يجب أن يسمح بتراكم مشاعر السخط والإحباط لديه.
ولا مناصَّ من الاعتراف أنّ الخيار الوحيد الناجع، لوأد أية انتكاسة محتملة لثورة الحرية والكرامة، هو تقوية حضور المجتمع المدني بكافة هيئاته كي يقول كلمته لصالح وحدة المجتمع ولتحفيز روح التفاهم والتعاون بين مختلف الأطراف ولتأكيد الثقة بالدولة ومؤسساتها ودورها العمومي كخير ضامن لمسار تطور تونس وتقدمها.
المصدر: الحوار المتمدن