فُوجِئ بعضُ سُكانِ دمشق في إحدى أمسيات رمضان 2011 بسللٍ مُغطاة، تحتوي علب فول وحمص، وكيساً من حبّات التمر. لم يعرف سُكان منطقة المزرعة والمالكي والطلياني مَن وضعها لهم على أبواب بيوتهم.
أحدُهم.. وضع السلّة، قرع الجرس.. ورحل.
المُفاجأة.. كانت موجودةً أسفلَ مُكوّناتِ السَلّة: منشورات تُطالب بإسقاط النظام، وأخرى.. تتحدث عن الدولة الديمقراطية المدنية!.
في مكان آخر من دمشق، وقبل شهرين؛ أو أقلّ من واقعة السِلَال، كان وفدٌ فنيٌّ تشكيليّ دوليّ يزور سوريا، للمُشاركة في مُلتقى للتشكيل والنحت في قلعة دمشق. يومَ الخِتَام، وقبل مُغادرة المُشاركين لدمشق، عائدين إلى بلادهم، فُوجئوا بوجود عُلَبِ حلوياتٍ دمشقية شهيرة، تنتظر كلاً منهم، هديةً من طلاب كليّة الفنون الجميلة، كما كتب عليها، وكانت المفاجأة حين خطر لضيفٍ روسيٍ، أن يستمتعَ بطعم الحلويات، وهو في المطار، في انتظار طيّارته المُتأخرة بعد مغادرة الجميع، فوجد أسفل البقلاوة الشامية “سي دي” ورسالة مكتوبة بالانكليزية والروسية، تطلب من الفنان المُشارك، أن يشاهد محتويات “السي دي” لدى عودته إلى بلاده، وأن ينقل ما يُشاهده إلى الناس إن تمكّن.
كان “السي دي” يُوثق المظاهرات السلمية، التي كانت تُجابَهُ بالرصاص القاتل منذ أول دقيقة. عُرفَ، لاحقاً، أن في العلبة المُخصّصة لكلّ مُشاركٍ كانت الرسالة نفسها باللغة الانكليزية وبلغة المُشارك مُرفقةً بالسي دي نفسه.
كانت الحادثتان.. اثنتين من عشرات الطرق، التي استخدمها شباب دمشق وصباياها في مرحلة نضالهم السلميّ المدني. لن ينسى سُكّان دمشق الآف طابات “البينغ بونغط المخطوط عليها جملة: “عاشت سورية ويسقط الأسد” والتي كانت تنزلق عليهم من أعلى قمّةٍ في قاسيون. لن ينسوا ضوءَ اللايزر الشهير في إحدى الليالي المُعتمة، وهو يكتب على جبل قاسيون العالي كلمة: “إرحل”.
ولن ينسوا المِنطاد الهلوجيني الذي كان حين انفجر فوق القصر الجمهوري تماماً.. يُلقي آلاف المنشورات المٌندّدة بجرائم الأسد، والمُطالبة برحيله.
لن ينسى أحدٌ بَحرَاتِ دمشق الشهيرة ومياهها مصبوغةً باللون الأحمر، في إشارةٍ إلى أن الأسد أغرق سورية بالدم. لن ينسى الدمشقيّون صوتَ إبراهيم القاشوش، وهو يصدح فجأةً في كلّ الأماكن المزدحمة، مُسبّباً هلعاً واستنفاراً لدى الأمن المُنتشر، وغِبطةً مُستترة لدى الناس.
كان الشباب والصبايا يُخفُونَ آلات تسجيلٍ صغيرة، ويُشغلونها عن بعدٍ بإحدى أغنيات القاشوش.
وسيبقى اللونان: الأبيض والبنفسجيّ علامتين من علائم “زمن الثورة الجميل” حين كانت تتمُّ الدعوات إلى ارتداءِ أحدِهِمَا، والنزول إلى شوارع دمشق، في حركة احتجاجيةٍ حضارية، كانت تنتهي باعتقالِ كلِّ مَن يلبس الأبيض أو البنفسجي مُصادفةً أيضاً، أو عن سابقِ قصد.
سيبقى، أيضاً، مشهدُ مقاعد عربات النقل العامة، وهي مُغطاةٌ بلُصَاقاتٍ داعمةٍ للثورة، ومُناهِضَةٍ للأسد، في ذاكرةِ مُعظم سُكّان دمشق، مثلما ستبقى في ذاكرتهم حيطان دمشق التي امتلأت بالغرافيتي المُؤيد للثورة. كذلك مشهدُ مُجسّم الأسد مشنوقاً ومُتدلياً من أعلى “جسر الرئيس حافظ الأسد” في وسط دمشق إلى الأسفل.
تفاصيل يومية كثيرة في النضال المدنيّ، وتحويل المُظاهرات إلى حفلاتِ فرحٍ وغناءٍ ورقصٍ ودبكة، في مُكابرةٍ على الألم والحزن والقهر على من كانت تفقدهم سوريا من شبابها كلّ لحظة.
لم يصدف في التاريخ البشري أن بقيت ثورةٌ أشهراً طويلةً بكلّ هذا الجمال، بينما تُقابَلُ بكلّ ما يُمكِن من إجرام.
لم يصدُف أن تنكَّرَ العالم هكذا، بغَربِهِ وبشرقِه، لتفاصيل ثورةٍ مُبتكرةٍ وخلّاقةٍ ومُضحيّة، مثل الثورة السورية، وفي قلب عاصمتها: دمشق.
هذه الثورة الراقية، والنبيلة حدَّ الألم، والتي عَمِلَ الجميعُ على قتلها وتشويهها، مثلما عَمِلُوا على قتلِ أبنائها وتشويههم.
هي الثورة السورية، التي لم يَعُد أحدٌ يذكرها، بعد أن صار الدم هو الذاكرة السورية الوحيدة، وبعد أن تواطأ الجميعُ على طمس كلِّ ذلك الجمال، لكي لا يبقى منه أثر، يُحيِي حنيناً ما.. إلى ذلك الزمن النبيل.
المصدر: موقع: المُدُن