خلال هذا العام، سيتعين على جميع دول العالم مواجهة عدد كبير من التحديات القديمة والجديدة على حدٍّ سواء، مع الأخذ بعين الاعتبار أن بعضها لن يكون خاصاً ببلد معين، بل سيحمل طابعاً إقليمياً أو حتى عالمياً. وروسيا ليست استثناءً.
لا تزال جائحة فيروس «كورونا» من بين الأوائل في قائمة هذه التحديات، إن لم تكن تترأسها، مع جميع تبعاتها، مثل الخسائر المالية والاقتصادية الناجمة عنها، والعبء الكبير على نظام الرعاية الصحية، والخلل الذي أصاب النظام التقليدي للعلاقات الاقتصادية الخارجية وحتى الإنسانية منها (إذ إنه من غير المرجح أن تعوّض بالكامل الاتصالات التي نلاحظها اليوم عبر الإنترنت اللقاءات المباشرة وجهاً لوجه)، والانقطاعات في السلاسل التكنولوجية لدورات الإنتاج.
أصبحت روسيا أول دولة في العالم تطوِّر لقاحاً فعالاً ضد «COVID-19» وسرعان ما بدأت عملية التطعيم الجماعي للسكان. لكنّ الأمر سيستغرق وقتاً حتى يتم تطعيم الغالبية العظمى من سكان البلاد وتأتي بنتائجها التطعيمات الجماعية. بالإضافة إلى ذلك، نظراً للتغيرات العالمية في البيئة المحيطة بالإنسان والأزمة الواضحة في العلاقة بين الإنسان والطبيعة، يعتقد العديد من الخبراء أنه حتى مع تراجع «COVID-19» من الممكن التنبؤ بظهور المزيد والمزيد من الفيروسات، وبالتالي جائحات جديدة. في الوقت نفسه، يأخذ بعض الخبراء على نفسهم الجرأة في افتراض تلك المناطق من العالم التي يمكن أن تصبح مصدراً لظهور هذه الفيروسات (على سبيل المثال، يتحدثون عن أفريقيا). بيد أنه، يمكن القول وبثقة إن الخبرة المكتسبة لدى روسيا ستمكّنها من التعامل مع هذا التهديد.
التحدي الآخر لروسيا هو استمرار ضغوط العقوبات عليها من عدد من الدوائر الغربية، خصوصاً النخبة الأميركية، بهدف إضعاف إمكانياتها المالية والاقتصادية ومنع تنفيذ عدد من الخطط التي ينبغي أن يكون المستفيد من إنجازها، بالإضافة إليها، الدول الغربية نفسها وبالدرجة الأولى الدول الأوروبية. يكفي أن نذكر المحاولات اليائسة للولايات المتحدة لمنع استكمال وتشغيل خط أنابيب الغاز «السيل الشمالي 2» (الذي تستكمله شركة «Nord Stream 2» التابعة لشركة «غازبروم»). كما هو معروف، فإن ميزانية الدفاع الأميركية الجديدة، التي وافق عليها مجلسا الكونغرس مؤخراً، تتضمن عدداً كبيراً من العقوبات الجديدة، بما في ذلك ضد الشركات التي تموّل وتزوّد بالمعدات تحديث السفن أو تجهيزها وتوفير خدمات التأمين والتراخيص اللازمة لاستئناف العمل. وتعليقاً على ذلك، وصف نائب رئيس إدارة شؤون الرئاسة والسكرتير الصحافي للرئيس الروسي، ديمتري بيسكوف، القرار بأنه «عملية سطو سافرة لرعاة البقر». في الواقع، يريد المشرعون الأميركيون حقاً أن يشتري الأوروبيون الغاز الأميركي المسال بدلاً من غاز خطوط الأنابيب الروسية، بسعر أعلى بنسبة 20% من سعر الغاز الروسي. وهذا يثير امتعاضاً حاداً لدى الأوروبيين، خصوصاً ألمانيا، التي يحاولون حرمانها من حق اتخاذ قرار سيادي يتماشى مع مصالحها الوطنية. تتضمن الميزانية الأميركية أيضاً قيوداً على الشركات التي تنفّذ مشروع «السيل التركي» وعقوبات ضد تركيا بسبب شرائها منظومة الدفاع الجوي «S-400».
قبل أيام قليلة فقط وفي هذه السنة بالتحديد، أعلنت شركة «DNV GL» النرويجية قرارها رفض المشاركة في منح ترخيص لخط أنابيب الغاز بسبب مخاوف من الوقوع تحت طائلة العقوبات الأميركية. لا عجب في ذلك، إذ حذر الخبراء الروس، ولا سيما إيغور يوشكوف، المحلل في الصندوق الروسي للأمن الاقتصادي، من أنه لا ينبغي لروسيا الاعتماد على الشركات الأوروبية، التي قد تخشى انتهاك الحظر المباشر، في فحص ومنح ترخيص لخط أنابيب الغاز، ويجب على شركة روسية أن تتولى هذا العمل. من الواضح أن خط أنابيب الغاز بشكل أو بآخر سيُكمل بناؤه. الشيء الوحيد الذي يمكن أن يحققه هذا السطو هو إبطاء عملية البناء.
سأذكر تحدياً آخر يقف أمام روسيا. تُبذل، في سياق التنافس الجيوسياسي المتصاعد في العالم، محاولات لإشعال الخلافات الحدودية بين حلفاء موسكو وشركائها وبين روسيا وبعض الدول المجاورة لها أيضاً من أجل الضغط عليها، لإجبارها على اتباع سياسة خارجية تعود بالنفع على منافسيها ولمنع تحسين علاقاتها مع القوى الإقليمية، بما في ذلك في الشرق الأوسط. يكفي أن نذكر محاولات تأجيج المشاعر الانتقامية في أوكرانيا فيما يتعلق بشبه جزيرة القرم، على الرغم من أن أي سياسي عاقل يفهم أن قضية ملكية شبه جزيرة القرم قد أغلقتها موسكو نهائياً، وأي محاولات للضغط عليها في هذا الصدد لا معنى لها. من الممكن أن نذكر في هذا السياق الادعاءات ضد موسكو، التي أعلن عنها بشكل غير متوقع رئيس البرلمان الإستوني هين بيلواس، حول ملكية جزء من الضفة اليمنى لنهر نارفا في مقاطعة لينينغراد، حيث بنى القيصر الروسي إيفان الثالث في عام 1492 قلعة إيفانغورود لصد القوات الليفونية والسويدية، وكذلك ملكية منطقة بيتشورا، المدرجة في مقاطعة بسكوف. قرر الإستونيون اعتبار معاهدة «تارتو» لعام 1920 سارية المفعول (بالمناسبة، روسيا السوفيتية كانت أول من اعترف باستقلال إستونيا)، والتي بموجبها تم نقل هذه الأراضي إلى إستونيا في ظروف صعبة مرت بها روسيا، ولكن في عام 1944 أُعيدت هذه الأراضي إلى الاتحاد الروسي (في إطار الاتحاد السوفيتي)، وفقدت معاهدة «تارتو» صلاحيتها. في عام 2014 وقّعت روسيا اتفاقية جديدة مع إستونيا بشأن حدود الدولة وتعيين حدود المساحات البحرية في خليجي نارفا وفنلندا في بحر البلطيق (ولم تُذكر معاهدة تارتو في هذه الاتفاقية)، والتي لم يتم التصديق عليها بعد. من غير المرجح أن الرغبة في تقديم مطالبات لروسيا محكوم عليها بالفشل سوف تخدم علاقات حُسن الجوار بين روسيا وإستونيا التي تعود بالفائدة على سكان الدولتين. مثل هذا التحدي غير قادر على إحداث أي ضرر كبير لروسيا نفسها.
كما يتخذ خصوم روسيا خطوات لتسميم علاقاتها مع تركيا أيضاً، بما في ذلك التعاون المعقّد بينهما على المسار السوري. ومع ذلك، يبقى هذا التعاون مستمراً بشكل عام، على الرغم من الاختلافات القائمة في المواقف، بما في ذلك ضمن إطار عملية آستانة بين المشاركين الثلاثة: روسيا وتركيا وإيران. كما توجد خلافات أيضاً حول قضية ناغورني قره باغ. ولكن، كما يقترح على سبيل المثال، على الموقع الإلكتروني للمجلس الروسي للشؤون الدولية، الخبير عادل تشاغري (إذ يترأس هذا المجلس وزير الخارجية السابق وسكرتير مجلس الأمن الروسي الأسبق إيغور إيفانوف)، وفقاً للاستراتيجية الجديدة للعلاقات الثنائية بين موسكو وأنقرة، والتي يمكن تعريفها على أنها استراتيجية «تجزئة»، تم تطوير نموذج تعاون حيث يتم فيه «وضع الاختلافات السياسية جانباً، والتركيز على التعاون في مجالي الاقتصاد والطاقة». عمل هذا النموذج إلى حين حادثة إسقاط الطائرة الروسية في سوريا عام 2015، وبعد ذلك، وفقاً لتقييم المؤلف، تم استبدال نموذج جديد به، يعتمد على قنوات حوار مفتوحة ويركز بالفعل على الخلافات السياسية. يمكن انتقاد الاستنتاج حول استبدال نموذج التعاون، لأنه لم يكن هناك مثل هذا الخط الفاصل الملحوظ بين مراحل العلاقة، وكان في الصدارة دائماً، كما يبدو لي، تحقيق أقصى قدر ممكن من المصالح الوطنية، مع مراعاة مصالح الشريك وشرط الالتزام «بقواعد اللعبة» المعمول بها، وإعطاء الأولوية لتجنب الصدام المسلح.
أما فيما يخص إيران، فتختلف معها روسيا في مسألة دور إسرائيل في الصراع السوري، التي تُجري موسكو حواراً معها، مما يجعل روسيا تحافظ على موقع الوسيط الفعال الذي يقف على مسافة واحدة من جميع الأطراف الإقليمية. من جهة أخرى يقترح خبراء إيرانيون يشاركون في مناظرات ونقاشات مع الروس، إشراك الأوروبيين والصين في عملية آستانة.
بالمناسبة، تمت في فعالية النقاش الختامية للمجلس الروسي للشؤون الدولية 2020 خلال «الإفطار» التحليلي في 26 ديسمبر (كانون الأول)، مناقشة مشكلة يمكن أن تمثل، افتراضياً، أحد التحديات الجديدة التي يمكن أن تتطور إذا لم يتم العثور على الحل المطلوب، ألا وهي مشكلة نفوذ روسيا في فضاء ما بعد الاتحاد السوفياتي. لكن بشكل عام، من خلال سرد أمثلة فقط عن التحديات وليس جميعها، يمكن ملاحظة أن تفاؤلاً معتدلاً يسود في تقييمات الخبراء الروس.
المصدر: الشرق الأوسط