مشكلات كثيرة واجهت تمرّد الحرية، وأدّت إلى ما نراه من عجز نخبه عن ترجمته إلى أفكار جامعة، يرد بواسطتها على التحدّيات التي واجهته، وحالت دون ترقيته إلى ثورة، ودون حشد طاقات السوريين شعباً واحداً وموّحداً، وسمحت بانحداره إلى مسارٍ نافٍ لهويته، قوّض قدرته على تحقيق ما طالب به: “الحرية للشعب السوري الواحد”.
أفادت الأسدية من افتقار التمرّد إلى أفكار جامعة، وواجهته باعتماد الطائفية سلاحاً في حربها عليه، وأسهمت بنشاط في ملاقاتها بتهويماتٍ مذهبيةٍ أمسكت شيئاً فشيئاً بساحتي الأيديولوجيا والسلاح، فكان من الطبيعي أن يتراجع الوعي المدني والسلمي، ومبدأ الحرية ذاته، حامل هذا الوعي الذي تبلورت، في إطاره، بدايات رؤية وطنية/ ديمقراطية تحمل بديلاً للاستبداد. لكن صعود الطائفية والمذهبية سرعان ما استهدف مفهومي الحرية وقرينها الوطني الذي استهدف السلطة وأشخاصها، وما غرسته في المجال العام من فهمٍ للوطنية تمحور حولها، على الرغم من عدائها للشعب.
لم ينتج اقتران الحرية بالوطنية أفكاراً جامعة، ولا خلاف على دورها في توحيد الشعب واستكمال مهام الثورة. أما الأسباب، فالتقت عندها مواقف النظام المعادية للحرية وحملتها، مع مواقف حملة سلاح معادين بدورهم لها، ومواقف الذين رفضوا قراءة خياراتهم الحزبية بدلالة الفكرة الوطنية التي أخضعوها لقراءاتٍ حزبيةٍ، ضيقةٍ، قامت على التنافس الإقصائي مع الآخرين، وعلى وضع الإسلاميين في مواجهة الديمقراطيين، والديمقراطيين في مواجهة الإسلاميين، لاعتقاد الطرفين أن الأسدية آيلة إلى سقوطٍ عاجلٍ أو آجل، عبر تدخل خارجي حتمي، وأن مصلحة كل حزبٍ تكمن في انفراده قدر الإمكان بالسلطة الجديدة. هذا النهج، تم استبدال ما كان التخلي عنه يتطلبه من الانتماء إلى أفكارٍ وبرامج جامعةٍ بإعلاناتٍ كلاميةٍ لا تُسمن ولا تغني، عمّها غالباً الخلاف والاختلاف، بما تمسّك به كل طرفٍ من مواقف أراد فرضها على غيره، عمّقت الحزبية بأضيق معانيها، فلا عجب أن فشلت في ربط ساحتي السياسة والسلاح بأي منها، وقوّضت قدرة “مؤسسات المعارضة” على بلورة ما هو مطلوب من مبادئ وأفكار جامعة، يلتزم بها الجميع، وخصوصاً حمَلة السلاح منهم.
ماذا يبقى من تمرّد ثوري احتجزه عدوه الأسدي، وقوّضته جهاتٌ ادّعت تمثيله، بينما حالت حرب الأول، كما حال عجز الثانية، دون إنضاجه عبر ترقيته وتزويده بأفكارٍ لحمتُها وسُداها الحرية وعودة الوطن إلى أهله، وإيقاف سورية على قدميها بدل رأسها، بعد عقودٍ أنزلت الأسدية بها خلالها قدراً من الدمار، استهدف قدرة شعبها على النهوض، وتولى الشأن العام بما هو شأنه الخاص، وطي صفحة كارثية بدأت بإهداء الجولان لإسرائيل، عبر بيانٍ إذاعي أصدره حافظ الأسد عام 1967، واكتملت بشن حربٍ، مضمرةٍ تارّة ومعلنة أخرى، على الداخل السوري، عدو النظام الوحيد.
بالعجز عن ترجمة الحرية إلى برامج وخطط ثورية جامعة، وبنجاح الأسدية في تحويل تمرّد الشعب ضدها إلى اقتتال طائفي، رعته بحرصٍ وعناية، مذهبي من جانب من قوّضوا طابع التمرّد الثوري، سادت أفكار تفكيكية مفتوحة على الإرهاب، ووقع تبدّل خطيرٌ في اصطفافات السوريين فرّقهم إلى جهاتٍ متعادية، أطّره تعاون جهاتٍ متناحرة، معظمها أجنبي، على احتلال التمرّد من داخله ولإفراغه من هويته الأصلية، وإلقاء الرعب في قلوب قطاعاتٍ شعبيةٍ كان كسبها يتوقف على تطوير أفكار الحرية الجامعة، وانفرادها بالوعي العام، عوض العداء لها، الذي جمع الأسدية بأعدادٍ متزايدةٍ من حملة السلاح.
رهاننا اليوم: هل يمكننا بلورة ونشر برامج ثورية وأفكار جامعة يتبنّاها السوريون، فتضخّ دماً جديداً في شرايين نهوض وطني/ ثوري، يستند على رفضهم الجماعي الأسدية، وتمسّكهم بمشروعٍ يعلمون أنه لن تقوم لهم قائمة، إنْ هم تخلوا عنه، لأي سبب؟
المصدر: العربي الجديد