أوراق من ملف البرنامج النووي الإيراني

د. مخلص الصيادي

1ـ الورقة الأولى: عملية الاغتيال 
الجمعة 27 / 11 / 2020 تم اغتيال العالم النووي الايراني محسن فخري زادة، وكشفت ظروف الاغتيال عن اختراق أمني كبير في النظام الايراني سمح بتنفيذ هذه العملية وبأن تنفذ على النحو الذي تم فيه، حيث استخدمت تقنية التحكم عن بعد بالاسلحة والتفجيرات إذ لم يتوفر في ساحة التنفيذ اي عنصر بشري. وذكرت المعلومات المسربة أن عشرات الأشخاص ساهموا في هذه العملية، إضافة الى إعتراف المخابرات الإيرانية بأن معلومات توفرت لديها عن مخطط استهداف هذا العالم، وبأنها اتخذت إجراءاتها، لكن مع ذلك نجحت عملية الاغتيال.
ومحسن مختار زادة هو خامس عالم نووي يتم اغتياله منذ العام 2012 فقد اغتيل من قبل مسعود محمدي، ومجيد شهرياري، وداريوش رضائي نجاد، ومصطفى أحمدي روش، لكنه يعتبر الأهم من بين هؤلاء جميعا، ويسمى “أبو المشروع النووي الإيراني”.
وفي ما عدا “اسرائيل” فقد أعربت جميع الأطراف عن استهجانها لعملية الاغتيال، حتى الدول والأطراف التي سُعدت بهذه العملية فإنها أعربت عن رفضها واستهجانها.
وتخوفت دول عديدة من رد الفعل الإيراني، كما تخوفت من أثر هذا الاغتيال وما يمكن أن يصاحبه من ردة فعل على عملية إعادة تفعيل الاتفاق النووي الأممي في عهد الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن، حتى إن محللين ذهبوا إلى أن توقيت عملية الاغتيال يستهدف وضع العراقيل أمام توجه بايدن للعودة إلى الاتفاق النووي الذي انسحبت منه الولايات الامريكية بقرار من الرئيس دونالد ترامب.
وحين اتهمت إيران رسميا “اسرائيل” بأنها وراء عملية الاغتيال فإنها لم تبتعد عن الحقيقة وذهبت في الاتجاه الصحيح.
لكن قبل أن نمضي في استطلاع جوانب الملف النووي الإيراني لا بد من الإشارة إلى أن أسلوب “الاغتيال” أسلوب مأخوذ به من قبل العديد من الدول والجهات باعتباره أداة “سوداء” لتحقيق بعض الأغراض، وللتخلص من شخصيات يعتبر التخلص منها هدف مهم بذاته، أو ممر مهم يوصل إلى الهدف المقصود، واستخدمت هذه الأداة من قبل دول عديدة على رأسها الولايات المتحدة وروسيا، ويتقدم الكيان الاسرائيلي جميع الدول في استخدام هذه الأداة في أغراض شتى، وقد سقط العديد من قادة العمل الفلسطيني صرعى برصاص الغدر الإسرائيلي. وتعتبر إيران من الدول التي تستخدم هذه الوسيلة بكثرة ضد خصومها من الإيرانيين ومن غير الإيرانيين، وتشير التقارير إلى أن عددا وافرا من العلماء العراقيين قتلوا برصاص المخابرات الإيرانية وعملائها بعد الاحتلال الأمريكي للعراق في عمليات ممنهجة لتصفية البنية العلمية للدولة العراقية.
وجاءت عمليات التصفية للعلماء العراقيين هذه بالتشارك مع الموساد الإسرائيلي، وقد أشارت وثيقة من وثائق ويكيليكس إلى التعاون بين رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي “وهو ربيب إيران الأهم في العراق” والموساد الإسرائيلي  في تصفية نحو 350 عالما نوويا عراقيا ممن رفضوا التعاون مع إيران أو مع الأمريكيين  وفضلوا البقاء في العراق.

2ـ  الورقة الثانية: أسئلة الاغتيال، محاولة للفهم
عملية إغتيال العالم الإيراني محسن فخري زادة  تفتح الباب على تساؤلات عدة لا بد أنها موضوعة الآن أمام المراقبين والمهتمين في تفسير وفهم عملية الاغتيال:
** هل نفذت العملية من أجل وقف البرنامج النووي الإيراني من خلال تصفية العلماء والمسؤولين عن هذا البرنامج.
** هل نفذت العملية من أجل إعاقة تقدم هذا البرنامج؟، إذ أن وقتا لا بد أن يمر قبل أن يتقدم عالم جديد ليحل محل هذا العالم. والإعاقة كسب للوقت بانتظار حدوث متغير جديد.
** هل قصد من الاغتيال، ـ وإظهار القدرة على الوصول إلى أي هدف ـ إيقاعُ اليأس في صفوف الإيرانيين من القدرة على حماية علمائهم؟، وهم عنصر رئيس في بناء هذا البرنامج، وبالتالي إيقاع الفوضى والشك في صفوف أجهزتهم الأمنية.
** هل قصد من الاغتيال تحييد شخصية مركزية في بنية البرنامج النووي الإيراني لإفساح المجال لشخصية جديدة لهم صلة بها، وبالتالي فإن الاغتيال يوفر لقناة لهم موقعا متقدما في هذا البرنامج؟.
** هل عملية الاغتيال تستهدف جر إيران إلى عمل يدفع المنطقة إلى حرب واسعة النطاق تعيد خلط الأوراق، وتفتح المنطقة على احتمالات عديدة من شأنها كلها أن تزيد حالة الفوضى والخراب فيها، وتضعها أكثر تحت الهيمنة الاسرائيلية الأمريكية، وكثير من قرارات تصرفات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في ايامه الأخيرة ، والحشود العسكرية الجارية في منطقة الخليج العربي يمكن أن تصنف في هذا الباب.
الاجابة على هذه الأسئلة، وأخرى تتصل بها، قد توفر رؤية أفضل وأوسع مدى ليس لعملية الاغتيال فحسب، وإنما أيضا لزاوية نظر كل من طهران والمجتمع الدولي لطبيعة هذا الملف، وتمكننا الإجابةُ على تلك التساؤلات من التنبؤ بحدود رد فعل إيران على عملية الاغتيال.

3ـ الورقة الثالثة : إيران النووية
أرجح أن المتبصرين في مسار الملف النووي الإيراني يدركون أن القدم النووية الايرانية تخطت بنجاح الألغام الأرضية التي يمكن أن تقطعها، وبالتالي اجتازت مرحلة قدرة خصومها على  وقف تقدمها النووي، فقد باتت إيران تملك برنامجا نوويا مهما، وهي قادرة على تطويره بسرعة في اتجاه تملك السلاح النووي.
وهذا الأمر هذا ليس جديدا، بل إن الاتفاق الأممي الخاص بالبرنامج النووي الإيراني في جوهره لا يستبعد ذلك، وإنما يعمل على تأخير الوصول إليه.
في 8 مايو 2018 أعلن الرئيس ترامب انسحاب بلاده من الاتفاق النووي مع إيران، وبهذه المناسبة أوردت BBC  في 9 مايو تقريرا حول أهم بنود الاتفاق النووي الإيراني وكان مما جاء فيه
“وقدر الخبراء الأمريكيون آنذاك أنه إذا قررت إيران الإسراع في انتاج قنبلة  فسيستغرق الأمر من شهرين إلى ثلاثة أشهر حتى يكون لدى إيران ما يكفي من اليورانيوم المخصب بنسبة 90% لبناء سلاح نووي، وكانت إدارة أوباما قالت إن الاتفاق النووي سيزيل العناصر الرئيسية التي ستحتاجها إيران لصنع قنبلة، وسيؤدي إلى زيادة الوقت الذي تحتاجه لإنتاج سلاح نووي إلى عام أو أكثر، …. كما وافقت إيران على استمرار حظر الأسلحة الذي فرضته الأمم المتحدة عليها لمدة خمس سنوات، مع إمكانية اختصار المدة إذا اقتنعت الوكالة الدولية للطاقة الذرية بأن برنامجها سلمي بالكامل، كما سيبقى حظر الأمم المتحدة على استيراد تكنولوجيا الصورايخ الباليستية ساريا لمدة تصل إلى ثماني سنوات”.
وقدم الاتفاق لإيران حزمة من المحفزات والمزايا المادية والفنية والعلمية على صعد عديدة، ويعتقد أصحاب ذلك الاتفاق الأممي أن مجمل هذه المزايا  تضع أمام  القيادة الإيرانية حزمة إغراء تسمح ب”اندماج إيران بالمجتمع الدولي”، كما ويذهب اعتقادهم إلى أن من شأن هذه الحزمة أن تقنع القيادة الإيرانية  بأن هذا السبيل أكثر أمنا لها، وأكثر منفعة لسلطتها، وأكثر تقدما لإيران الدولة والمجتمع.
ويقينا فإن القيادة الإيرانية تدرك تماما أنه ما من  دولة من الدول ذات الشأن في النظام الدولي تريد إسقاط النظام الإيراني:
**  إما لأن هذه الدول ترى في هذا النظام فائدة لإبقاء المنطقة في حالة من الفوضى التي تحيط بها راهنا.
** وإما لأنها تدرك بأن تكلفة إسقاط هذا النظام إيرانيا وإقليميا ودوليا  مما لا يمكن تحملها.
لذلك من الصعب أن يحصل المتابع والمهتم على تصريح أو موقف لقادة هذه الدول يحمل معنى إسقاط النظام الإيراني، وإنما الجهد منصب على ضبط إيران على الإيقاع الذي يريدون، وجعلها تمارس دورها في إطار رؤيتهم لهذه المنطقة في هذه المرحلة، أي أن “إيران القوية في الحدود المضبوطة” حاجة للنظام الدولي الراهن، وبالتالي فإن الصراع الإيراني الغربي الذي نتابعه  يستهدف تحديد مدى هذه القوة وحدود تأثيرها.
ويعتقد أطراف النظام الدولي أنه بالإمكان إيجاد “أرض مشتركة” بين التطلعين الإيراني والدولي، طبعا هناك تباين بين أطراف هذا النظام الدولي غير الموحد لحدود وتخوم هذه الأرض المشتركة، لكن الذي يتفهم عقلية “ولاية الفقيه” يدرك تماما أن “الأرضية المشتركة” مجرد فرضية لا تملك حظوظا حقيقية على أرض الواقع.
كانت الأرضية المشتركة بين الطرفين ممكنة زمن شاه إيران الذي تطلع للعب دور شرطي المنطقة تحت المظلة الأمريكية، لكن نظام “ولاية الفقيه” مختلف جدا، وهو نظام يحمل مشروعه الخاص.
إن إيران “ولاية الفقيه” يمتد بصرها، إلى مختلف “مناطق الشيعة” في العالم، ليكونوا مجالا حيويا لها، كما يمتد بصرها إلى مختلف مناطق المسلمين “السنة” في العالم، وهي تراهم قطيعا شذ ـ منذ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ـ عن الطريق ، ومن واجبها إعادتهم إليه.
هذا يعني ان استهدافات نظام “ولاية الفقيه” الإيراني تبدأ من نحو ربع مليار شيعي على أقصى تقدير إلى أكثر من مليار ونصف المليار مسلم، ويغطي هذا المجال الحيوي جغرافية العالم الإسلامي كله.
هذا “الحلم” بطبيعته التاريخية والإيديولوجية  أكبر من أن تتفهمه أو تستوعب أبعاده مختلف أطراف النظام الدولي، ومع ذلك فلا حرج من اعتبارهم يدركون أبعاد هذا “الحلم”، لكنهم يعلمون يقينا أنه مجرد “حلم” لاحظً له واقعيا، وهو في الوقت نفسه يملك قدرات هائلة على تفتيت ” العالم العربي والإسلامي”، وهذا هدف معتبر جدا عند مختلف أطراف النظام الدولي، لذلك هم يغضون الطرف عن مخاطره.
وإيران الراهنة تضع نظرية “ولاية الفقيه” في الحكم تحت “الوصاية الفارسية”، أي أن العصبية القومية الفارسية التي تتحكم بكل مكونات المجتمع الإيراني ـ وهي مكونات عديدة متنوعة عرقيا ومذهبيا ـ هي التي تتحكم بتجسيد مفهوم “ولاية الفقيه”، وهي التي يَرجع إليها توفير الأمن والقوة والسلاح والثروة لهذا المشروع.
في إيران التي يقترب عدد سكانها في أحدث تقدير من 80  مليون نسمة، يوجد أكثر من ثلاثين قومية يشكل الفرس والأقليات من أصل آري  63% من عدد سكانها، أي أقل من خمسين مليون نسمة،  فيما الترك والأذريون يمثلون 20% من السكان، والعرب 8%، والأكراد 6%، البلوش 2%.
ونظام “ولاية الفقيه” يفترض في نفسه تمثيل كل الشيعة في إيران ( وكثير منهم لا يؤمنون بهذه النظرية)، ويفترض هذا النظام في نفسه تمثيل كل الشيعة في العالم وعدد هؤلاء يتجاوز 200 مليون نسمة، ثم إنه يفترض في نفسه مسؤولية استعادة مليار وربع المليار مسلم سني إلى ما يعتبره حظيرة الإسلام الصحيح التي تمثلها “ولاية الفقيه”.
وهو يرى أن اتجاه الاختراق الحقيقي لهذه النظرية خارج إيران هي “المنطقة العربية والمجتمع العربي”، وليس المقصود هنا النظم العربية القائمة، وإنما قبل ذلك وبعده وأهم منه المجتمعات العربية، البنية الاجتماعية في هذا الوطن، الوحدة الوطنية في بلدانه، فكرة الانتماء الوطني والقومي في هذه المجتمعات، وفكرة العروبة والانتماء القومي العربي، أي أن ولاية الفقيه كما تستهدف الإسلام السني، تستهدف العروبة وحواملها الاجتماعية والسياسية والدينية.

إن تفتيت هذه المجتمعات هو الطريق الإيراني لوضع اليد عليها، ولاختراقها مذهبيا وفكريا قبل إتباعها سياسيا وأمنيا، وهذه سياسة خطرة جدا، ونحن نرى أثرها واضحا في سوريا والعراق واليمن ولبنان، وفي أقطار عربية أخرى يمكن بتدقيق النظر تحديد الكثير منها.

4ـ  الورقة الرابعة: شيء من فقه السلاح النووي
وأرجح أيضا أن المتبصرين من قادة الدول المعنية يدركون بشكل جيد أن “الأمن” الذي يوفره السلاح النووي لمالكه لا يستطيع أن يوفره أي سلاح أو بديل آخر، وأكثر من يدرك ذلك وبشكل جازم هم قادة الدولة الإيرانية، خصوصا وأن هؤلاء لا يفكرون من زاوية حماية “الدولة والمجتمع الإيراني” فحسب، وإنما كذلك من زاوية حماية “المشروع الإيراني” الممتد إلى آفاق أوسع مما يظنه كثيرون.
السلاح النووي هو العمود الفقري في القوة التي يحتاجها مشروع “دولة ولاية الفقيه”،  فامتلاك هذا السلاح أهم من امتلاك أي شيء آخر بالنسبة لهذا المشروع، والبرنامج النووي الايراني الراهن هو السبيل إلى ذلك. إنه الأمان بأن أحدا من “الخارج” لن يقرب هذه الدولة/ المشروع.
ولعل المثل الكوري الشمالي مقنع بما فيه الكفاية بأن هذا السلاح هو الرادع الحقيقي لأي هجوم خارجي، فرغم عوامل جيوسياسية مؤثرة فإنه لولا هذه السلاح لكان نظام بيونغ يانغ قد تم كنسه منذ زمن بعيد.
ومن الناحية العملية فإن على أي دولة تتطلع إلى امتلاك برنامج نووي مستقل وفعال أن توفر لهذا البرنامج أربع قواعد أو أسس يستطيع تفاعلها المتوازن أن يعبد الطريق لبناء هذا البرنامج:
أ ـ لا بد أن تكون لديها القدرة المادية الكافية لتغطية تكاليف واحتياجات هذا البرنامج، والبرنامج النووي العسكري بطبيعته يتضمن توفير مادة اليورانيوم، وعمليات التخصيب وانتاج “القنبلة”، وتأمين تخزينها، وكذلك انتاج وسائط نقل هذا القنبلة إلى هدفها “وهي هنا الصواريخ أساسا”، ولأن هذا السلاح شديد الخطورة فإن  امتلاكه يستلزم توفر أجهزة توجيه وسيطرة دقيقة وفعالة، وهذا كله مكلف ماديا، ويحتاج إلى تطوير تقني متصاعد، وبالتالي تمويل مستمر ومتزايد.
ب ـ  ولا بد للدولة التي تتطلع إلى ذلك أن يكون لديها قاعدة تقدم علمي وتقني توفر احتياجات المشروع من العلماء في مختلف الاختصاصات ذات الصلة، وهي اختصاصات مفتوحة في الكثير من الجامعات ومراكز الأبحاث في العديد من الدول لكنها موضوعة دائما تحت مجهر المراقبة، وذلك لوجود صلة علمية وتقنية ثابتة بين الاستخدام السلمي للطاقة النووية ( وهو مباح دوليا)، وبين الاستخدام العسكري للطاقة النووية، وهو خاضع لرقابة دولية صارمة، وتحرسه معاهدة حظر الانتشار النووي.
ج ـ  لا بد أن تكون هناك إرادة سياسية حازمة في الدولة المعنية حتى تتجه إلى المشروع النووي بجناحيه السلمي والعسكري، وأن تكون هذه الإرادة محاطة بإجماع أو شبه إجماع وطني بحيث لا تكون مجرد نزوة حاكم، أو جزءا من برنامح في سباق انتخابي.
وهذا لا يتوفر إلا إذا كانت الدولة المعنية تملك مشروعا سياسيا خاصا بها، سواء كان صلب هذا المشروع مواجهة أخطار مؤكدة، أو تطلع للتمدد في نطاق مجال حيوي تعتقد أنه يلبي طموحها.
د ـ  ثم وبسبب التعقيدات الدولية الخاصة بالمسألة النووية لا بد من توفر ” الظرف الدولي المناسب” لانطلاق هذا المشروع، وتوفر مثل هذا الظرف يعتبر شرطا لازما لنجاح أي دولة في الولوج إلى الميدان النووي، وتشير مصادر عدة أن بدايات البرنامج النووي الإيراني الحالي كان في مطلع الألفية الراهنة، حينما كان النظام الدولي بقيادة الولايات المتحدة منشغل بغزو أفغانستان (أكتوبر 2001)،  ومن ثم بغزو العراق (مارس 2003)، وكانت روسيا  التي ورثت الاتحاد السوفياتي ما زالت في حالة انعدام وزن، وكانت روسيا التي ورثت الاتحاد السوفياتي قد بدأت بالكاد مشوارها لاستعادة توازنها بعد مرحلة الرئيس بوريس يلتسين 1991 ـ 1999 التي كادت أن تؤدي إلى إسقاط روسيا من عرش الدولة العظمى، وقد تسلم الرئيس فلاديمير بوتين  مسؤولياته (عام 2000) .
وقدمت الظروف التي  رافقت الغزوين فرصة مناسبة لإطلاق إيران مشروعها النووي، بعد أن كان الخميني قد جمد البرنامج النووي الذي كانت إيران تمتلكه زمن الشاه، مستندا إلى موقف فقهي يحرم إنتاج أو استخدام السلاح النووي، وبقي مجمدا حتى جاء الظرف الجديد وكان الخميني قد رحل في يونيو 1989 واستلم خامنئي مقعد “ولاية الفقيه” خلفا له.
ومن الواضح أنه قد توفرت  لنظام “ولاية الفقيه” الأسس الأربعة اللازمة لولادة المشروع النووي الخاص به، وإضافة إلى تلك الأسس فقد توفر لإيران خام اليورانيوم في عدة مناجم، وبأماكن متعددة ومتفرقة فيها، وبأكثر من حاجة مشروعها، وبالتالي فإنها باتت متحررة من ضغوط وظروف استيراد هذا الخام  الاستراتيجي من الخارج.

5ـ  الورقة الخامسة: السلاح النووي في الذاكرة الإنسانية
لا شك أن السلاح النووي هو السلاح الأول في رزمة أسلحة الدمار الشامل، وهو الأخطر لشدة فاعليته وسرعتها، وامتداد آثاره في الزمان والمكان، ولأنه يدمر الحياة بمختلف أشكالها، ويشوه جينات الإنسان، حتى الأرض والصخر والتربة والمياه الجوفية لا تعود صالحة للإقامة فوقها أو استغلال خيراتها لعشرات السنين على أقل تقدير.
ولهذه الطبيعة فإن الإسلام يحرم هذا السلاح وأمثاله، لتعارضه مع  فكرة الاستخلاف والتسخير، وهي فكرة مركزية في ديننا الحنيف قائمة على قاعدة إعمار الأرض والحفاظ عليها صالحة ومنتجة على الدوام، وتسخير ما فيها لتغطية احتياجات الانسان وضرورات تقدمه جيلا بعد جيل.
لكن الدول لا تتعامل بقيم الأديان، وإنما باحتياجات الصراع وأهدافه التي ترسمها القوى المسيطرة في كل بلد. وما نتحدث عنه هنا سلاح خطير وحاسم لم تعرف البشرية له مشابه أو نظير.
ليست هناك دولة أو مجموعة دول أو منظمة أومؤسسة دولية يمكن أن تكون مؤتمنة على هذا السلاح، ولن يتوفر ذلك أبدا، لأن من شأن مثل هذه الفرضية إن تحققت أن تسقط هذا السلاح من الحسبان، ولعل العمل الأممي على تحريم وتدمير هذا السلاح، والجهود المبذولة في هذا السبيل يبدو ـ رغم مثاليته ـ واقعي أكثر من البحث عمن تأتمنه البشرية عليه. لذلك فإن على البشرية أن تبحث عن سبيل حقيقي وواقعي لإبطال هذا السلاح وسحبه من لتداول نهائيا.
تاريخيا كانت الولايات المتحدة أول دولة في العالم تمتلك السلاح النووي، وحينما كان هذا السلاح بيدها لوحدها استخدمته مرتين، لكن بعد أن خرج عن الاحتكار الأمريكي توقفت فرص استخدامه، وصار توازن الرعب هو المانع من اللجوء إلى هذا السلاح، كما صار هو المحدد لمدى أي صراع عسكري، أو أزمة دولية.
في 6 / 8 / 1945  ألقى سلاح الجو الأمريكي أول قنبلة نووية على مدينة هيروشيما اليابانية، وبعدها بتسعة أيام أي في 15 اغسطس  ألقى القنبلة الثانية على مدينة ناغازاكي اليابانية أيضا، وقد قتل في المدينتين ما لا يقل عن 220 ألف نسمة.
قد يظن البعض أن استخدام السلاح النووي في تدمير المدينتين اليابانيتين جاء لهدف إنهاء الحرب العالمية الثانية، لكن الحقيقة التي لا مراء فيها أن هذه الحرب كانت قد انتهت عمليا قبل اللجوء إلى هذا السلاح، وما بقي منها كان مجرد جيوب وتوابع لا تستلزم مثل هذا العمل الفظيع.
** ألمانيا الدولة الرئيسية المسؤولة عن هذه الحرب استسلمت في 8 / 5 / 1945 ، وذلك بعد أن انتحر هتلر في 29 / 4 / 1945، ودخلت جيوش الحلفاء العاصمة  برلين في 2 / 5 / 1945.
** واليابانيون كانوا قد فقدوا كل قدرة لهم بحرية أو برية على القتال وباتوا يناوشون في الساعات الأخيرة.
** وكانت إيطاليا وهي ثالث دول المحور قد خرجت من الحرب مبكرا، وألقي القبض على بينيتو موسوليني وأعدم شنقا في 28 / 4 / 1945  في مدينة ميلانو.
ومع ذلك قامت الولايات المتحدة باستخدام هذا السلاح.
والحق أن قصف هيروشيما وناغازاكي بالسلاح النووي كان إعلانا بولادة دولة عظمى وحيدة قادرة على إخضاع العالم كله، وتملك الوسائل لذلك، وهي عازمة على تحقيق ذلك.
قنبلة هيروشيما كانت لإظهار فظاعة هذا السلاح، وقنبلة ناغازاكي كانت لتأكيد إدراك واشنطن لهذه الفظاعة  وعزمها  على استخدامه المرة تلو الأخرى.أي أن إرهاب العالم كان هدفا من أهداف استخدام قنبلة ناغازاكي.
في 29 / 8 / 1949 فجر الاتحاد السوفييتي قنبلته النووية الأولى، وامتلك بذلك هذا السلاح المدمر، وتسرب “السر النووي” من مراكزه الأمريكية إلى القطب الدولي الجديد فسرع ذلك في امتلاك السوفييت هذا السلاح، وحين تأكد كسر احتكار السلاح النووي بطلت فعاليته، أي تحيًد تأثيره كعنصر يستخدم في ساحة المعارك العسكرية، وبات يمثل حاجزا يمنع تطور أي معارك في أي مكان في العالم.
في العام 1950 وحتى العالم 1953 اشتعلت الحرب الكورية، وتحولت هذه الحرب إلى حرب إقليمية بطابع أممي، وكانت الصين ومن ثم الاتحاد السوفييتي في جانب، والولايات المتحدة وقوات أممية في الجانب الآخر، وتشير الوثائق أنه في العام 1951 حين اشتدت المعارك، قدم الجنرال “دوجلاس ماكارثر” قائد القوات الأمريكية في هذه الحرب اقتراحا إلى الرئيس الأمريكي هاري ترومان يقضي بقصف الصين في إقليم منشوريا المحاذي لشمال كوريا ـ حيث تمر الإمدادات الصينية ـ بخمسين قنبلة ذرية، لإنهاء هذه الحرب، لكن الاقتراح رفض بل ونجم عنه إبعاد هذا القائد العسكري الذي كان يعتبر في الولايات المتحدة رمزا وطنيا.
لقد باتت الإدارة الأمريكية في ذلك الحين واعية تماما لمعنى انتهاء احتكار واشنطن للسلاح النووي، ولما يترتب على استخدامه مجددا من أخطار عليها.
ما بين 15 و 19 ابريل 1961 حاولت المخابرات المركزية الامريكية ترتيب غزو لكوبا عبر خليج الخنازير يقوم به عملاء كوبيون دربتهم  الوكالة بهدف قلب نظام حكم الرئيس فيديل كاسترو.
المحاولة التي شاركت بها الطائرات الامريكية بكثافة فشلت فشلا ذريعا، وانكشفت أبعادها، وتأكد مشاركة القوات الأمريكية فيها، وسجلت دوليا كمحاولة غزو أمريكية لكوبا.
وفي اكتوبر 1962 رصدت الولايات المتحدة وصول صواريخ نووية إلى جزيرة كوبا، أي إلى محاذاة البر الأمريكي، ما دفع قادة واشنطن إلى التهديد بقصف الاتحاد السوفياتي نوويا، وتحركت الصواريخ النووية في القواعد العسكرية الأمريكية في ألمانيا وتركيا، فما كان من روسيا إلا أن قررت سحب صواريخها، وانتهت هذه الأزمة ” النووية” خلال اسبوعين،  وتم توقيع اتفاق بأن لا تغزو الولايات المتحدة جزيرة كوبا، كما تم إقامة خط اتصل نووي ساخن بين موسكو وواشنطن  لمواجهة أي أزمة نووية تالية.وأظهرت هذه  الأزمة أن خروج “السلاح النووي” عن الاحتكار الأمريكي صار أدعى لترسيخ السلام وضبط الأمن العالمي.
وفي الصراع الهندي الباكستاني حقق امتلاك الدولتين هذا السلاح توازنا منع تجاوز الصراع العسكري بينهما حدا معينا، ووفر دائما فرصة لضبط الوضع.
الآن هناك ناد دولي نووي اعترفت به معاهدة الحد من الانتشار النووي يضم كلا من الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الامن،( الولايات المتحدة، روسيا، الصين، المملكة المتحدة، فرنسا)،  وهناك أربع دول نووية خارج هذا النادي، استطاعت جميعها أن تمتلك هذا السلاح،
وحسب تقرير ورد في موقع هيئة الاذاعة البريطانية BBC  في فبراير 2018 فإن الاحصاءات تشير إلى وجود نحو 15 ألف سلاح نووي في الدول التسع، منها 1800 في حالة تاهب قصوى ويمكن إطلاقها في أية لحظة، نصيب روسيا منها 7 آلاف، والولايات المتحدة 6800، وفرنسا 300 ، والصين 270 ، وبريطانيا 215، وباكستان 140، والهند 120، والكيان الصهيوني 80، وكوريا الشمالية  20.
المخاطر الهائلة للسلاح النووي حركت بشكل مبكر دول العالم للبحث عن طريقة للتصدي لهذا السلاح، وشهدت الساحة الدولية والأمم المتحدة جولات من المباحثات المكثفة والمتواصلة تطلعا لضبط هذا السلاح، كخطوة على طريق إنهاء وجوده، لكن كون الدول الخمسة دائمة العضوية في مجلس الأمن تملك القرار الأممي فقد تعثر الوصول الى اتفاق بهذا الشأن، وحين افتتح التوقيع على معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية في سبتمبر 1996 كانت الدول الخمس الكبرى قد اجرت 2047 تجربة نووية تحت الأرض وفوق الأرض وتحت الماء وفي الغلاف الجوي، ورغم توقيع الدول الخمس دائمة العضوية على معاهدة حظر استخدام السلاح النووي في 24 سبتمبر 1996 فإنها لم تصادق عليها بعد، وتتضمن هذه المعاهدة ـ التي تحتوي على ثغرات وغموض في جوانب عدة منها ـ حظر الاستخدام والتطوير والانتاج والاختبار والتخزين.
وفي يوليو 2017 وافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة على اتفاقية الحظر بواقع 122 دولة، ووقعت 84 دولة عليها، وبتوقيع هندوراس مؤخرا على المعاهدة وصل عدد الدول المصادقة خمسين دولة بما يؤذن ـ وفق نظام الأمم المتحدة ـ بدخول المعاهدة حيز التنفيذ بعد 90 يوما أي في يناير 2021.
ورغم أهمية هذه المعاهدة فإن جديتها لا تتحقق إلا بالتزام الدول الخمس النووية الكبرى، وهو التزام لم نر بعد أثرا له، ولا يبدوا أننا سنرى ذلك، والمرجح أن تكون هذه المعاهدة سبيلا لضبط الوجود النووي بأيدي الدول “الخمس الكبار”، ومن يستطيع من الدول الأخرى أن يتسلل إلى هذا النادي النووي سواء تم الاعتراف به رسميا أم لم يتم.

6ـ  الورقة السادسة : نحن والبرنامج النووي الإيراني
إيران تريد أن تكون الدولة العاشرة في امتلاك  السلاح النووي، وبرنامجها الراهن، ونسب تخصيب اليورانيوم، وعدد أجهزة التخصيب، وتطوير سلاحها الصاروخي، كل هذا يشير إلى تصميم القيادة الايرانية على بلوغ هذا الهدف، أو بشكل أكثر دقة على بلوغ هدف القدرة على إنتاج هذا السلاح، أما إنتاجه فعليا فهذا يتوقف على التطورات التي تحيط بها الملف وعلى التطورات التي تحيط بالدولة الإيرانية ككل.
في مطلع ديسمبر 2020 وعقب اغتيال العالم النووي الإيراني أقر مجلس صيانة الدستور في طهران تشريعا يلزم الحكومة باستنئناف التخصيب إلى نسبة 20%، وكان الاتفاق النووي الموقع عام 2015 حدد نسبة التخصيب ب 3,67%. وسبق للوكالة الدولية للطاقة الذرية أن أكدت في 12 نوفمبر 2020 أن إيران تملك الآن أكثر من 12 ضعفا من كمية اليورانيوم المخصب المسموح به بموجب ذلك الاتفاق .
وفي 22 نوفمبر أعلن ممثل إيران في الوكالة الدولية  كاظم غريب أبادي أن بلاده دخلت مرحلة جديدة من تخصيب اليورانيوم في محطة نطنز النووية ( وهي أكبر محطات التخصيب النووية في إيران)،  وأضاف أن بلاده بدأت في ضخ غاز UF6  في أجهزة الطرد المركزي مؤخرا، في آخر مرحلة للتخصيب وفصل اليورانيوم 238 عن اليورانيوم 235.
كل هذا يثبت الاستنتاج الأول بأن إيران تخطت المرحلة التي يمكن فيها إيقاف برنامجها النووي، وأن تحديد أبعاد هذا البرنامج بات في يدها، ورهن قرارها، وأنها تملك في كل وقت أن تمضي فيه ومعه إلى النهايات التي تريد.
وعند هذا المستوى من الرؤية والتقدير لا بد من طرح سؤال دقيق وحاسم إزاء هذا الملف، والسؤال يمكن صياغته على النحو التالي:
هذا البرنامج النووي الإيراني الممتد من التخصيب العالي حتى بلوع السلاح النووي ـ الذي يؤمن ويحفظ إيران من أي هجوم خارجي ـ ، يهدد من؟ ……موجه ضد من؟.
فيما عدا تأمين النفس من هجوم خارجي، فإن هذا السلاح لا يهدد الدول العربية إلا من خلال الأخطار التي يمثلها على البيئة، وإلا من خلال الإرهاب الذي يمثله امتلاك جار إقليمي ذو مشروع، ومطامع، لسلاح نووي. إذ لا حاجة فعلية لاستخدام هذا السلاح في أي صراع يمكن أن يحدث بين إيران والدول العربية ذات الشان.
وعدوانية النظام الإيراني المشهودة على الجوار العربي قائمة ومتحققة، قبل وجود هذا البرنامج النووي، بل وحتى قبل وجود نظام الملالي، فجزر الإمارات الثلاث محتلة منذ نظام الشاه، وكذلك إقليم الأحواز/ عربستان المطل على الخليج العربي والمحتل منذ العام 1936. والتدخل الإيراني الطائفي والدامي في سوريا واليمن والبحرين والعراق ماثل للعيان، والدور الذي يقوم به حزب الله في لبنان ونماذجه المستنسخة  في اليمن والعراق لم يكن بحاجة إلى سلاح نووي. وأي تصور لوقوع حرب نووية بين إيران والكيان الصهيوني الذي يملك سلاحا نوويا تصور فيه الكثير من الخيال والغباء بآن.
إذن هذا البرنامج /السلاح النووي الإيراني يهدد من؟.
الحق أن هذا البرنامج النووي بآفاقه التسليحية إنما يستهدف ـ بعد حماية النفس من أي هجوم خارجي ـ تحقيق التوازن في التنافس مع “الكيان الصهيوني” للسيطرة على المنطقة العربية، ومن ثم في تحقيق حلم “ولاية الفقيه ” في التمدد والسيطرة على العالم الاسلامي.
أي أن هذه المنطقة العربية هي ملعب إيران “ولاية الفقيه”، كما هي ملعب “اسرائيل والمشروع الصهيوني” الذي نعرف جميعنا أبعاده، وهي ساحة التنافس بينهما. والفارق بين إيران والكيان الصهيوني واضح ولا يصح ولا يجوزعدم إدراك هذا الفارق، أو عدم أخذه في الحسبان، ذلك أن إيران ـ كما تركيا ـ جزء طبيعي ومكون من مكونات المنطقة، ويجمعها مع المحيط العربي والإسلامي الجغرافيا السياسية، والتاريخ، والأرضية العقدية، وأن الصراع الراهن هو صراع مع نظام الملالي القائم في إيران، أي مع نظام طائفي مستبد، وليس مع إيران الشعب والمجتمع والحضور التاريخي والحضاري، بينما الكيان الصهيوني “كيان غاصب عنصري عدواني”، وبالتالي فالموقف منه هوموقف من كيان وليس من نظام وسلطة.
هذا فارق موضوعي بين طرفين يتنافسان على أرضنا وثرواتنا ووجودنا، وايضا على تاريخنا وكياننا الحضاري، وبسبب هذا التنافس يمكن أن يحدث احتكاك بين “إيران والكيان الصهيوني” وسيحدث، ويمكن أن يحدث صراعا، لكن كل تطور بينهما مضبوط بضوابط المصلحة، وبقوانين التنافس وليس الصراع، وبضوابط توازن القوة التي سيوفرها هذا النوع من الأسلحة، وليس بعيدا ولا غريبا أن يجد المتنافسَين سبيلا لاتفاق يوفر مصلحة مقبولة لكليهما.
في ظل هذا الوضع كيف يمكن للنظام العربي أن يتصرف؟.
كيف يمكن إبطال المفعول السلبي للبرنامج ومن ثم السلاح  النووي الايراني على النظام العربي؟.
كيف يمكن أن يحقق العرب أمنهم القومي تجاه البرنامج النووي الإيراني، بعد أن فشلوا أن يحققوا ذلك تجاه السلاح النووي الاسرائيلي؟.
السؤال معقد والبحث عن إجابة له صعب لأن الحديث عن وجود ” أمن قومي عربي” بات حديثا غير مطروح أمام أصحاب القرار في الدول العربية.
ومع ذلك فإن أسهل وأيسر طريق للتصدي عربيا للبرنامج النووي الإيراني، هو أن يصبح لدى العرب برنامجا نوويا حقيقيا مستقلا ومتكاملا.
ليس شرطا أن يوفر هذا البرنامج “السلاح النووي”، لكن من الضروري أن ُيمَكن هذا البرنامج العرب من امتلاك هذا السلاح في الوقت الذي يصبحون في حاجة إليه.
في المحيط العربي والإسلامي وفي هذه المرحلة بالذات ـ دون البحث في تجارب ومراحل سابقة ـ  هناك أربع دول تملك كل الشروط الموضوعية لامتلاك برنامج نووي حقيقي مستقل ومتكامل، وهذه الدول هي تركيا، ومصر، والسعودية، والجزائر.
وإذا قصرنا النظر على الدول العربية فإن الدول الثلاث تملك القدرة المادية والتقنية والفنية والمواد الأولية للمضي في مثل هذا المشروع، وإذا ما نظر إلى الأمر من منظور “الأمن القومي العربي” فإن بعض النقص في عنصر من عناصر هذا المشروع عند واحدة من الدول الثلاث يعوضه توفر هذا العنصر في دولة أخرى: القدرة المالية، والقدرة والإمكانات التقنية، المواد الخام، الخبرة المتراكمة.
بل إن الظرف الدولي العام الراهن يقدم فرصة مهمة للمجموع العربي لاقتحام هذا الميدان، وهنا لا يبقى إلا توفر الإرادة السياسية، ومجددا يجب التأكيد أن الإرادة السياسية المقصودة هنا ليست إرادة حاكم أو نظام، وإنما إرادة شعبية جماعية قادرة على توفير الدعم الذي يحتاجه مثل هذا المشروع في مواجهة الضغوط الخارجية المتعددة.
إن وجود مثل هذا البرنامج عربيا هو وحده الذي يبطل ليس فقط أخطار البرنامج النووي الإيراني على المحيط العربي، ويضع حدا للتهديدات الإيرانية، وإنما ايضا يبطل أخطار البرنامج والسلاح النووي الإسرائيلي على المحيط العربي، وبالتالي يجعل تصرفات وقرارات مختلف القوى الفاعلة في هذا المحيط،  ـ العدوة والصديقة على حد سواء ـ أكثر عقلانية وأرشد أفعالا وأرجح توازنا مما عليه الوضع الآن، حيث يبدو تلاعب هذه القوى الخارجية بمقدرات منطقتنا العربية ماض دون أن توضع مصالح هذه الأمة وشعوبها في أي حساب.
إن تصور امتلاك برنامج نووي عربي قائم على قاعدة رئيسية ما زالت مفقودة تتمثل في  إعادة الاعتبار إلى مفهوم” الأمن القومي العربي”، وهو مفهوم غادره النظام العربي منذ كامب ديفيد، وكلما تقدم الزمن يزداد النظام العربي ابتعادا عن موجبات هذا الأمن، وبالتالي يزداد ضياعا وإهدارا لطاقات الأمة وثرواتها، وخضوعا للقوى الخارجية، وانكشافا أمام كل عوامل الاختراق والتخريب في بنية المجتمع العربي ومكوناته.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى