
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد.
السيد رئيس الجمهورية هذا الحديث موجه إليكم شخصيا، وما كنت أرغب في هذا التخصيص، لكن بحكم منصبكم وبحكم المسؤولية والمكانة التي رضيتها لنفسك، وقننها الإعلان الدستوري، فقد أصبح كل شيء مرتبط بشخصكم وقراركم وقناعاتكم.
في عمق تفكيري فإن هذا الوضع، وهذه المسؤولية تحملكم ما لا يجوز لفرد واحد أن يتحمله، لكنكم رضيت بذلك، ولأني شخصيا أجهل آليات صناعة القرار داخل “سلطة الحكم” التي تقفون على رأسها فإني أسمح لنفسي أن أقول إنكم رضيتم بهذه المسؤولية وسعيتم إليها.
وأوجدتم لها أساسا تشريعيا من خلال “الإعلان الدستوري”.
وبكل التقدير والمودة أشعر أنك ظلمت نفسك بتحميلها هذا الحجم والمدى من المسؤولية، لكنك وقد فعلت، أصبح أي حديث إلى غيرك مضيعة للوقت، وليس لدى العقلاء من هذا الشعب فائض من الوقت لإهداره.
السيد رئيس الجمهورية.
انطلق قبل أيام مشوار تشكيل “مجلس الشعب”، وهو مجلس في كل تفاصيله ومراحل تكوينه يعبر عن إرادة “السلطة القائمة”، وليس عن إرادة شعبية حقيقية، وليس معنى قولي إنه يعبر عن إرادة السلطة القائمة أنه لا يعبر جزئيا أو كليا عن الإرادة الشعبية، لكنه يعني بدقة أنه لم يأت من خلال الإرادة الشعبية، لا الثلثين الذي سيجري اختيارهم بعد “مؤتمرات التشاور المنتقاة”، ولا الثلث الذي ستقوم بحكم منصبك باختياره، الكل هنا جاء باختياركم شخصيا، مباشرة أو بشكل غير مباشر. والمشروعية في وجودهم جميعا مستمد منكم شخصيا. ومشروعية ما سينتج عن ذلك “المجلس” مرتبط بإرادتكم لوحدكم.
وقد تتطابق إرادتكم مع إرادة المجلس وقد لا تتطابق، لكن شرعية ما سيصدر وينفذ مرتبط بإرادتكم وموافقتكم.
هذه حقيقة ماثلة للعيان:
** لا يغطيها ذلك النصر المشهود الذي حرر الوطن والشعب من النظام الأسدي الذي توافق السوريون على وصف له تضمن في الحد الأدنى أنه نظام “طائفي، مستبد، فاسد، وإرهابي قاتل”.
** كما لا يغطيها مشاهد السعادة والغبطة التي اجتاحت السوريين وهم يرونك “رئيسا منهم”، يشبههم في معظم مظاهر شخصيته، وسلوكه، وما يظهر من طبائعه، حتى صارت مقولة “الشرع واحد منا” تتردد بحق واقتناع على ألسنة معظم السوريين.
** كما لا تغطيها هذه الحنكة الدبلوماسية والسياسية المشهودة التي أظهرتها على مدى الأشهر الماضية. والتي أعادت لسوريا مكانتها عربيا ودوليا، وأخرجتها أو كادت من جحيم العقوبات والحصار الذي دفعها إليه النظام البائد عبر سلوكه الإجرامي لعقود طويلة، فلم تصبه، وأصابت المواطن السوري في كل مظاهر حياته وأسسها من الغذاء إلى الصحة إلى التعليم إلى الماء والكهرباء. الخ.
من أجل هذه الحقيقة الماثلة للعيان والتي حصرت المسؤولية بشخصكم الكريم، صار التوجه بكل طلب يمس حياة السوريين ومستقبلهم يجب أن يوجه إليكم شخصيا، بل لا يجوز أن يوجه لغيركم، ليس لأنه “لا يوجد غيركم في سدة الحكم والقرار”، وإنما لأننا لا نرى غيركم، ولأن الوثائق عززت إحساسنا بأنك أنت وحدك المسؤول، وأنك أنت وحدك القادر بحكم “القانون” على التصرف.
وقبل أن أحدد المطلوب في هذه الرسالة التي أخصصها للشأن السوري الداخلي فقط، لا بد أن أصارحك بأني – وأنا أقدر مكانتك ودورك وتميزك – لا أؤمن بأنك “فرد يحكم”، ولا أؤمن بأن من حولك من مساعدين هم مجرد مساعدين، وإنما قناعتي الراسخة أنك تقف على رأس “حزب حاكم”، أخذ اسم ” الإدارة السياسية”، وهي المنتشرة والموزعة في كل مراكز التحكم الإدارية والأمنية والسياسية في المحافظات السورية، وأنه إلى هذه الهيئة يعود تحديد كل ما يخرج عنكم من قرارات وتوجيهات ووثائق.
وأنها هي التي قدمت الصياغة المعتمدة للإعلان الدستوري، ولمشروع تشكيل مجلس الشعب وهي التي تمارس اليوم الدور الأرحب في إدارة عملية تشكيل المجلس التشريعي المؤقت و..الخ.
ولقد كان من الأوجب أن يتم التوجه بأي مناقشة أو طلب إلى هذه الهيئة مباشرة أو من خلال شخصك الكريم، لكنكم آثرتم، وآثرت هي أن يبقى هذا “التشكيل الحزبي” في الظل، وأن تكون أنت وحدك في العلن.
السيد رئيس الجمهورية.
لأنني ممن يؤمن – وكثير مثلي أيضا – أن انتكاسة الثورة كارثي على سوريا شعبا وأرضا ووجودا، وبالتالي فإن فشل الثورة يجب أن يكون ممنوعا.
وممن يؤمن بأن نجاح الثورة في الوصول إلى أهدافها المعلنة يتطلب بذل كل الجهد لتحقيقه، فإنه مطلوب منكم، منكم شخصيا، وبحكم صلاحيتكم ومسؤوليتكم، ومن أجل مستقبل آمن لسوريا:
١- أن تذهب إلى تعديل الإعلان الدستوري بما يصحح ما فيه من خلل، فيتخلص هذا الإعلان من كل ما فيه من استئثار لرئيس الجمهورية بالسلطة، السلطة السياسية، والتشريعية والقضائية، وتحكمه فيها، واستمدادها المشروعية من شخصه دون حدود، وإلى آخر مدى، وعلى نحو قد لا نرى له شبيها.
إن القضية هنا ليست في أن سوريا ليس فيها حكومة “مجلس وزراء”، وإنما أن سوريا ليس فيها مؤسسة أو مرجعية شرعية قاطعة غير شخص رئيس الجمهورية، ومن هنا تظهر فرادة وضعها. وهذا أمر شديد الخطورة على كل انجاز ثوري في سوريا.
٢- أن يصدر توكيد حقيقي بالالتزام بالنهج الديموقراطي بوضوح. فالحديث الذي يتكرر بين الحين والحين عن التشاركية فيه محاولة للابتعاد عن مصطلح “الديموقراطية”، وما في هذا المصطلح من مفاهيم وقيم.
والديموقراطية تعني التعدد الحزبي والسياسي، ومشروعية المعارضة، وتداول السلطة، والفصل بين السلطات، وخضوع الجميع لسلطة القانون. وشفافية المعلومات، وخصوصا ما مس الاقتصاد والمعاهدات والصفقات، وحرية الصحافة.
وبدون الالتزام بهذا المفهوم يصبح الحديث عن الحرية حديث من غير جدوى.
٣- ضرورة الإعلان الواضح والقطعي والملزم بدور ومكانة منظمات المجتمع المدني في صيانة الحريات في المجتمع، وفي تثقيفه، وفي الرقابة الضميرية على شؤون المجتمع، وفي رعاية القطاعات الأضعف فيه، وأن تمكن هذه المنظمات – التي يعتبر وجودها مؤشر على نضج المجتمع – من الحماية الاجتماعية لها ولنشاطاتها من خلال توفير التمويل الاجتماعي اللازم لنشاطها، ومن خلال تقديم المؤسسات الحكومية الثقافية والمهنية والضريبية الدعم لها ولنشاطاتها ولدورها الاجتماعي. ومن خلال تحصينها ضد تدخل القوى الخارجية في أعمالها ونشاطاتها.
٤ – لقد مضى نحو سبعة أشهر على سقوط النظام الأسدي، وهي فترة كانت كافية ليرى الناس أثر هذا الانجاز على حياتهم المادية اليومية، على معيشتهم: طعامهم. شرابهم. خدمات الماء والكهرباء والمواصلات، على السكن، والعلاج الصحي، على المدارس والتعليم، على الطرقات والمرور والتلوث والنظافة…الخ.
وإذا سألت من حولك عن هذه المسائل فقد تتلقى إجابات عديدة، لكن أرجو ألا تصدق أن الناس إزاء في هذه المسائل بخير، واستبشار.
إن الحرية التي استشعروها وعاشوا في رحابها مع سقوط النظام البائد، وشعروا من خلالها أن أيديهم طالت النجوم والقمر، لم تترجم بعد إلى تغيير حقيقي في حياتهم المادية اليومية.
إن وحش التضخم والغلاء بات يلتهم الفقراء ومحدودي الدخل، والمنتظرين لرواتبهم مطلع كل شهر.
وكل حديث عن الصبر والانتظار والفرج القادم لا يجدي نفعا عند هذا القطاع من السوريين، وهم الأغلبية التي قد تصل نسبتها إلى ثمانين بالمئة من أبناء شعبنا. وهؤلاء هم الذين قامت الثورة على دمائهم وحياة أبنائهم وحيواتهم، وهم لا يملكون ترف الانتظار، وما في جعبتهم من رصيد للصبر والتحمل ينفد بسرعة. وقد خاب أملهم بوعود أطلقت قبل شهور عدة زيادة الرواتب بنسب تصل الى ٤٠٠% . وهم ما زالوا ينتظرون.
إن هؤلاء البائسين يسمعون ويتابعون ما ينقله الإعلام عن اتفاقات ومشاريع بمئات المليارات من الدولار توقع، وتعد السوريين في المستقبل، ب” جنات النعيم”، ويسمعون عن إقامة “برج ترامب” في عاصمة بلادهم بتكلفة قد تصل إلى ٢٠٠ مليون دولار.
لكن من هؤلاء يملك القدرة على الصبر، والفرصة للوصول زمن تلك الجنات!.
إن الناس تطلب من الدولة أن تؤمن لهم الحياة الكريمة بتجلياتها الخمسة: الأمن، العمل، العلم، الصحة، والسكن. وأن توظف ثروات المجتمع المتعددة المظاهر والتوصيفات لتحقيق هذا الهدف، والذي من شأن تأمينه أن يوجد المجتمع الآمن والمستقر والمتقدم.
وهؤلاء الناس البسطاء الذين نشير إليهم لا يطلبون المستحيل لكنهم يطلبون أن تلتزم السلطة بالتقدم المستمر على طريق توفير أسس كرامتهم في الحياة، ولو اقتصر هذا التقدم على خطوة واحدة في كل يوم. ولو تحقق السير بهذه الخطوات من اليوم الأول لكنا اليوم قد قطعنا مشوارا مهما على طريق الحياة الكريمة للإنسان السوري.
٥ – وتعتبر مظاهر الارتباك والفوضى مما يخيم بوضوح على الحياة العامة في سوريا من حركة المرور، والطرقات، إلى التعقيدات التي تكتنف الدوائر الحكومية بدءا من وزارة العدل والمحاكم “قصور العدل”، إلى دوائر المالية، إلى السجل العدلي، والبحث الجنائي، ومطلوب منكم بحكم مسؤوليتكم وليس من أي وزير – فكلهم مسؤول أمامكم – أن تتولوا علاج هذا الارتباك، وأن تتصدوا لهذه الفوضى.
من غير المفهوم لماذا تم حل قطاع شرطة المرور!
ولماذا أبعد الكثير من الموظفين عن أعمالهم التي هي بطبيعتها مجرد خدمة عامة، وقطعت عنهم رواتبهم. ولماذا ما زال على الموضوعين في قوائم المطلوبين من النظام السابق مراجعة الأمن قبل مغادرتهم بلدهم، ولماذا حالة النظافة العامة متردية بهذا الشكل…. ولماذا .. ولماذا.
هذا كله على علاقة مباشرة بحياة الناس العاديين، الناس الذين جاءت الثورة على أكتافهم.
أما الآخرون الذين نرى آثارهم وآثار فحشهم في مجتمع اليوم، فقد تكون كل هذه الفوضى وهذا الارتباك مفيدا لهم، بل قد يكونوا من المساهمين في صنعه، والمستفيدين من وجوده.
٦- من مسؤولية رئيس الجمهورية أن يسعى لإخراج الناس من حالة الضياع تجاه مفهوم وآلية العدالة الانتقالية، وملف المغيبين قسرا.
إن هذا الملف بشقيه يكتنفه الغموض، ويلفه الضباب، وما من أحد من الناس يعلم من الذين تم إلقاء القبض عليهم من مجرمي النظام السابق، ومن تمت مصالحتهم، وما أسس هذه المصالحات، وأين الثروات التي نهبوها، وما مصير المغيبين قسرا، وما هي آلية إغلاق هذا الملف.
نحن نسمع بين الحين والآخر عن تصفية بعض رؤوس الإجرام من قبل جهات مجهولة، وهذا متوقع وسيمضي في اتجاه الزيادة، وسيختلط الأمر فيه بين تعقب المجرمين، وبين جرائم التصفية المتبادلة، والناس لايدرون من أمرهم شيئا.
ثم إننا لنسمع بين الحين والحين عن تعديات على مقامات، وتجاوزات باسم الثورة، وبدعوى تتبع الفلول، وهذا كله أثر من آثار غياب الشفافية وغياب الوضوح إزاء قضيتي العدالة الانتقالية، وملف المغيبين.
هذا وضع لا يجوز استمراره، ويجب التصدي له بحزم وعزم.
٧- وما يزيد من حيرة الشارع السوري أن شيئا عمليا حاسما لم يتحقق بعد بشأن وحدة الأرض، ووحدة المجتمع السوري، فما زالت الجغرافيا السورية غير موحدة، وما زال الانقسام المذهبي والطائفي والعرقي طاغ في لغة الخطاب السائد. وهو خطاب نتائجه جد سلبية على وحدة سوريا، ولا تزال قوى الأمر الواقع تبسط سيطرتها على شطر من البلاد، ومن ثرواتها، ونخشى أن يفسر “طول نفس وصبر القيادة السورية” في معالجة هذا الملف بالضعف، وبقبولها تقديم تنازلاتها لتلك القوى الانفصالية والطائفية التي تواجهها بقوة السلاح.
هذه متطلبات رئيسية سياسية وحياتية واجتماعية يتطلبها الداخل السوري من السيد رئيس الجمهورية، ولأني لا أرى السيد رئيس الجمهورية مجرد رئيس فرد يحكم، وإنما رئيس يحكم من خلال حزب قائم، وإن لم يكن معلن، فإني افترض أن رجالات “الإدارة السياسية” حريصون على وضع الرئيس في الصورة الحقيقية لما يجري.
ولذلك يصبح طلبنا من السيد رئيس الجمهورية أن يتدخل حق وواجب علينا كمواطنين، بل هو فريضة لا يجوز أن نتخلف عن القيام بها.
ويصبح على رئيسنا أن يتجاوب مع هذا الطلب، بشتى مظاهر التجاوب، فهذا دوره وهذا واجبه.
حلب ٢٢ / ٦ / ٢٠٢٥