الحديث عن الرواية السورية يعني الحديث عن الروائيات والروائيين السورييّن، لأنه لم يكن هناك -كما نعلم- تحليل للرواية السورية عموما. كما أن الرواية السورية كانت ابنة لزمانها ومكانها والهوية الفكرية والسياسية -المضمرة- للروائية أو الروائي اللذين يكتبون رواياتهم. كما أرى أن كتابة الرواية -عموما- تعبّر عن الطابع الشخصي لكاتبها، صحيح أنّ هناك معايير اكاديمية للرواية عالميا ومحليا، لكن ذلك لم يصل إلى مرحلة أن يوضع مسطرة نموذجية، يقال على أثرها أن هذا العمل رواية أم لا. خاصة عندما حصل في العقود الأخيرة تداخل بين التقنيات السينمائيّة والمشهديّة داخل العمل الروائي، في عصر أصبحت فيه الصورة طاغية مثل الكلمة وأكثر. كما أصبحت تقنيات السرد الروائي متنوعة. أولها السرد المتتابع عبر الزمن، الملاحق للتغيرات الحياتية لشخصيات الرواية ضمن حيّزهم الحياتي، مع تفاعلاتهم النفسية والمجتمعية، ضمن سياق تطور العمل الروائي بحيث يصل إلى ذروتها على كل مستويات الحدث الروائي، وختامها كعمل مكتمل يوصلها كنص مستقل. كما حصلت تغيرات كثيرة في تقنيات السرد، مثل الخطف خلفا السينمائي والبداية من نهاية الحدث “الرواية” والعودة بعد ذلك إلى السرد المتتابع. كما هناك السرد بطريقة التداخل بين المعاش الواقعي والعمق النفسي والفكري والوجداني عند أشخاص الرواية. بحيث يعيشون في زمانهم المباشر وفي زمانهم النفسي الغير منضبط زمانا ومكانا وموضوعا، إلّا ما يمليه المسار المعد مسبقا من الروائية أو الروائي. كما هناك نوع السرد النفسي الذاتي وتداعياته. وهناك الخبرات الذاتية التي عاشها بعض الروائيات والروائيّن، وهي شهادات ذاتية وتحويلها لعمل روائي، خاصة تجربة الاعتقال السياسي على الصعيد السوري.
لكل ذلك أرى أن الرواية السورية منذ بواكيرها محكومة بالطابع الذاتي للروائية والروائي الذي يكتب. ولأجل ذلك سأسلط الضوء على تجارب روائية كنماذج، لعلها تقدم صورة مقبولة عن واقع الرواية السورية في العقدين الأخيرين.
فوّاز حداد: ذاكرة روائية لسورية الحديثة.
نشر فوّاز حداد روايته الأولى “موزاييك دمشق ١٩٣٩” عام ١٩٩١م، نشر هذا العام روايته تفسير اللاشيء. اصدر اربعة عشر رواية، ومجموعة قصصية واحدة، بمعدل رواية كل سنتين تقريبا.
أهم ما يميّز كتابة فوّاز حداد أنها تعبر عن الواقع الإجتماعي السياسي الحياتي، المصاحب لحالة ابطاله الذين يحضرون بكل قوة، فهم الحدث؛ حياتهم وعواطفهم وهمومهم وما يعيشوا، من خلال ذلك يكون واقعهم الإجتماعي العام حاضرا وبذات القوة. بحيث تستطيع الرواية أن تقدّم لنا موضوعها، اشخاص وحياة ومسار وتطور، حب وعمل وعلاقات وهموم وآمال..الخ. كما تعتمد رواياته أسلوب المتكلم من داخل الحالة التي يعيشها أشخاص الرواية، بحيث تعطي للعمل الروائي صفة البوح والحميمية مع القارئ، هذا يجعل الرواية سلسة ومتقبلة وتلقى متابعة ورواجا. تنتهي الرواية وقد قدّمت صورة واضحة شبه كاملة لأبطالها وزمانها ومكانها وظروفها الاجتماعية والسياسية العامة، دون إقحام إو مباشرة أو تحيّز.
هذا عن تقنية الكتابة الروائية عند فوّاز حداد. أما الموضوعات التي تقاربها رواياته، فهي تركز في كل رواية على مرحلة من تاريخ سورية، مع كل المعطيات المجتمعية والعالمية المصاحبة لها. كما أنه يبقى دوما على مسافة موضوعية ونقدية -قدر الإمكان- من الحالة السياسية السورية، مع ما يحتاج عمله من تورية لتمرير ما يريد من مواقف تجاه النظام السوري. خاصة وأننا في سورية حكمنا عبر حوالي ستين عاما من استبداد حزب البعث مع ما صاحبه من قمع وظلم وفساد ونهب وخوف، منها خمسين عاما تحت حكم حافظ الأسد وابنه بشار.
سنتحدث عن روايات فواز حداد في مرحلتين:
الأولى: ما كتبه قبل الربيع السوري عام ٢٠١١م، التي قاربت الواقع السياسي السوري؛ حيث تحدث في رواية مشهد عابر بعمق عن بنية النظام السوري العسكري الأمني الطائفي وفساده، التي نشرها عام ٢٠٠٧م. كان فواز حداد ابن دمشق يعيش حياة مغمورة، ويرفض الأضواء الإعلامية، بحيث لم تستطع الأجهزة الأمنية أن تصل اليه وتحاسبه. اعتبروه روائيا يكتب باسم مستعار، لذلك تم منع رواياته داخل سورية، وهذا ساهم بترويجها وبيعها كروايات ممنوعة لكثير من المثقفين والمعارضين السياسيين المتعطشين لموقف نقدي من النظام القمعي الذي يعيشون تحت بطشه. تحدث في بعضها الآخر عن الحدث السياسي الأهم المجاور لسورية، مثل الإحتلال الأمريكي للعراق وتبعيّاته على كل المستويات في روايتيه؛ جنود الله وخطوط النار.
الثانية: وهي رواياته التي كتبها بعد الربيع السوري عام ٢٠١١م. كانت روايته السوريون الأعداء عام ٢٠١٤م. إعلانا صريحا عن موقفه النقدي من النظام السوري و فعله القمعي العنفي بسورية وشعبها عبر معالجته الموضوع الأهم في وجدان السوريّن؛ إنها أحداث السبعينيات والثمانينات في الصراع بين النظام والقوى السياسية المعارضة له وخاصة العنف المسلح تجاه الطليعة المقاتلة والإخوان المسلمين، ونتائجها الكارثية على سورية وخاصة مجزرة حماة عام ١٩٨١ وما بعد، وصولا إلى بدايات الربيع السوري والثورة.
ثم أصدر روايته الأخرى الشاعر وجامع الهوامش عام ٢٠١٧م. الذي ركز فيها على واقع النظام السوري وبنيته الطائفية وآليات الهيمنة والسطرة فيها، بالقوة والمكتسبات والتجييش الديني والطائفي. كذلك تابعت الرواية سرد تطورات الواقع السوري بعد سنوات على الربيع السوري، والنتائج الكارثية لفعل النظام وحلفائه وفعل القوى المتطرفة الوليدة؛ النصرة وداعش ودخول السوريين في حالة مأساوية.
ثم اصدر روايته تفسير اللاشيء عام ٢٠٢٠م، والتي استمر فيها بتحليل البنية المجتمعية السورية مركزا على المثقفين السوريين، تنوعهم وتذبذب مواقفهم، خلفياتهم الفكرية والمجتمعية، وموقفهم العدمي تجاه الربيع السوري، وأنهم كانوا متخلفين عن الشعب والحدث السوري الأهم في العقد الأخير وهو ثورة الحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية.
وهكذا نرى متابعة فواز حداد الواقع السوري وارتباطاته مع محيطه والعالم بوتيرة واستمرارية .
ابتسام تريسي: الخوض عميقا في البنية المجتمعية السورية.
ابتسام تريسي ابنة ادلب من جيل الستينات من اسرة معارضة، حصلت على الشهادة الجامعية بالأدب العربي، لم تجد لها فرصة عمل في التعليم. توجهت الى الكتابة الروائية، بدأت انتاجها الروائي بدء من عام ٢٠٠٤م في عملين متكاملين تحت عنوان جبل السماق “سوق الحدادين”، وجبل السماق “الخروج الى التيه”. أرّخت فيهما لتاريخ إدلب السورية وريفها عبر قرن من الزمان تقريبا. عبر ربطها سورية بمحيطها إقليميا وعالميا. ثم نشرت رواية ذاكرة الرماد عام ٢٠٠٦م واتبعتها رواية المعراج ٢٠٠٨م، الروايتين تتابعان القضية الفلسطينية من خلال أبطالها الفلسطينيين حياتهم في فلسطين قبل النكبة وبعدها وبعد هزيمة حزيران ١٩٦٧م، وفي اللجوء للبلاد العربية ومنهم من وصل الى اللاذقية. انها متابعة لواقع القضية الفلسطينية بصيغة روائية. ثم نشرت روايتها عين الشمس عام ٢٠١٠م، تحدثت فيها عن البنية المجتمعية والسياسية في سورية، فعل النظام المستبد القمعي وأحداث الثمانينات. كما نشرت روايتها غواية الماء عام ٢٠١١م، عادت فيها الى التحدث عن الوضع العربي من خلال التحدث عبر شخصيات روايتها عن فلسطين ومأساتها، العراق قبل وبعد الاحتلال الأمريكي، الجزائر التي مرّت بتجربة ديمقراطية أجهضها النظام هناك.
كان باكورة نشر ابتسام تريسي عن الربيع السوري روايتها مدن اليمام ٢٠١٤م، التي تحدثت فيها عن نفسها ومشاركة ابنها مع غيره من ناشطي الثورة السورية في سنواته الأولى. ثم نشرت روايتها لمار ٢٠١٥م، تحدثت فيها عن البنية العائلية والطائفية للنظام ودوره التخريبي في الدولة والمجتمع السوري. ثم نشرت روايتها الشارع ٢٤شمالا تحدثت عن الربيع السوري منطلقة من مدينة اللاذقية وما مرّ عليها في عصر النظام السوري عبر نصف قرن. ثم نشرت روايتها لعنة الكاديوم، التي تحدث فيها تطورات الثورة السورية وفعل النظام الوحشي، والتدخلات الخارجية وولادة المجموعات المتطرفة داعش وغيرها، أدوار الكل التخريبية، إنعاكس عملهم الوحشي على الشعب السوري. ثم نشرت رواية سلّم الى السماء عام ٢٠٢٠م، تحدثت به عن التبعيات بعيدة المدى لما حصل للشعب السوري، عبر نماذج منهم، غربتهم قبل الثورة من ظلم النظام، تشردهم بعد ذلك هربا من قتل وعنف وبطش النظام، الى دول العالم.
يتميز أسلوب ابتسام تريسي في كتابتها الروائية في سلاسة اللغة وفي القدرة على الخلط بين الخاص والعام، الذاتي والموضوعي عند شخصيات روايتها. كما تتميز بتمكنها من الموضوعات التي تطالها في روايتها بحيث تجعل القارئ يمتلئ معرفيا ومتعة في متابعة أعمالها الروائية. كما تؤكد عبر انتاجها المتواصل عن ارتباطها الصميم بالعمل الروائي والمتابعة المتأنية للشأن السوري ومحيطه العربي والعالمي.
روزا ياسين حسن: الفتاة العلوية التي تفضح النظام العائلي الطائفي المجرم.
روزا ياسين حسن بدأت نشرها الروائي عام ٢٠٠٥م، من جيل السبعينات، تكتب بشفافية مطلقة، متحررة من أي التباس طائفي او مجتمعي، تكتب وعينها على مصداقيتها في موضوعها، لغتها سلسلة، تغوص عميقا في موضوعاتها، وهي متمكنة مما تتابعه دوما. كتبت قبل الربيع السوري رواية حارس الهواء عام ٢٠٠٥م، متحدثة عن النظام القمعي والاعتقال السياسي ومنعكساته على حياة المعتقلين على الواقع الإجتماعي السوري. كذلك رواية بروفا عام ٢٠١١م، لم تخرج بموضوعها عن رواية حارس الهواء. كما نشرت بعد الربيع السوري روايتها الذين مسْهم السحر عام ٢٠١٦م، متحدثة عن الربيع السوري؛ التظاهر، المطالبة بالحقوق، فعل النظام الوحشي وتجييش الطائفة العلوية والنتائج الكارثية لفعل النظام على الشعب السوري.
روائيات وروائيين اللحظة التاريخي الفارقة للربيع السوري عام ٢٠١١م وما بعد.
كان من نتائج الربيع السوري ولادة جيل جديد من الروائيات والروائيين السوريين الذين كتبوا عن هذه اللحظة التاريخية الفارقة.
منهم: واحة الراهب الفنانة التي كتبت ثلاث أعمال روائية تطال واقع النظام الطائفي القمعي والثورة السورية وهي : مذكرات روح منحوسة والجنون طليقا وحاجز لكفن. وكلها نشرت بعد عام ٢٠١٧م. تحدثت فيهم بشفافية وعمق وموضوعية، فضحت فعل النظام المجرم ومشروعية الثورة.
منهم رواد العوام الذي كتب: “البث التجريبي لجهنم” بطريقة التداعيات الذهنية لحيات بطلها الهارب الى لبنان ثم إلى أوروبا، متحدثا عن الواقع قبل الثورة وأثناءها وفعل النظام، تداعيات ذلك على الشعب الموت والهروب والبحث عن ملجأ آمن في أي مكان في العالم. و روايته الثانية غريق جنة الإغريق تطال ذات الموضوع وهروب السوريين من الموت الى اقطار العالم، بحثا عن فرص حياة أفضل.
ما قدمناه هنا عن الرواية السورية في عقدين يعتبر عينات نموذجية عن الرواية السورية، مع التأكيد أن هناك العشرات من الروائيات والروائيين السوريين منهم: سمر يزبك، مصطفى خليفة، نجاة عبد الصمد، وائل الزهراوي، خالد خليفة، منهل السراج، خليل صويلح، مها حسن، مازن عرفة، ديمة ونوس، ايهاب عبد ربه، نغم حيدر، ماجد مرشد، ريما فليحان، ابراهيم الجبين، سميرة مسالمة، عبد الرحمن مطر، زهراء عبد الله، لينا هويان الحسن..الخ. الذين استحقوا أن يطالهم التنوير والإحاطة.
يحتاج هكذا موضوع الى احاطة أكبر وهناك أعمال كثيرة مهمة يتوجب الخوض فيها بشكل معقول مثال تقاطع نيران لسمر يزبك والموت عمل شاق لخالد خليفة وآخرون كثر .
شكرا على الاضاءة قرأت السوريون الأعداء والشارع 24 شمالا وتقاطع نيران والموت عمل شاق وكلها تحكي عن المرحلة التي مازلنا نعيشها