قبل خمسين عاما، وتحديداً في 13 تشرين الثاني من عام 1970، استولى حافظ الأسد على السلطة من بين الفرقاء المتنافسين في حزب البعث الحاكم، وأطلق على نظامه الجديد اسم: الحركة التصحيحية، ليمثل انقلاب الأسد هزيمة لليسار وصعوداً للمعتدلين في الحزب.
إلا أن قلة قليلة من الناس رأت في سيطرة ذلك الضابط الناقم واستحواذه على السلطة، بعد سلسلة طويلة من الانقلابات المماثلة في البلاد التي أصبحت غير مستقرة، بداية لأطول فترة من الحكم العائلي المتواصل للبلاد في تاريخ سوريا المعاصر.
وعندما خلف بشار الأسد أباه بعد موته في حزيران 2000، أصبحت سوريا استثناءً، إذ هنالك عدد قليل من الجمهوريات، يقل عن ستة، تم فيها تسليم السلطة من الأب إلى الابن مباشرة كما حدث في سوريا، ومن بين تلك الجمهوريات، هنالك ثلاث دول فقط في العالم حكم فيها الأب والابن البلاد من موقع الرئاسة لمدة نصف قرن وأكثر دون أي انقطاع، وعلى رأسها توغو والغابون، وسوريا.
إذ في كل تلك الحالات الثلاث، نجد الأبناء الذين ورثوا الرئاسة قد وصلوا إلى سدة الحكم عبر انتخابات متعددة ومشبوهة، وهؤلاء مايزالون في الحكم حتى لحظة كتابة هذه السطور.
إن الاستمرارية الاستثنائية لنظام الأسد جديرة بالاهتمام والملاحظة، كما أنها تطرح سؤالاً يتصل بالاضطرابات التي سادت خلال العقد الماضي، وهو: ما الذي أنجزه وحققه حكم آل الأسد على مدى خمسين عاما بدقة؟ إذ عندما وصل بشار الأسد إلى الحكم وهو في الرابعة والثلاثين من عمره، بعدما مهد لذلك مجلس الشعب المطواع الذي سارع لتعديل الدستور ليصغر الحد الأدنى لعمر الرئيس، يمكن القول بأنه ورث بلاداً تعاني من ركود كبير. وبالرغم من أن كثيرين أشادوا بفطنة والده من الناحيتين الاستراتيجية والدبلوماسية، إلا أن حافظاً عندما توفي في حزيران 2000، لم يكن قد حقق أكثر من قيامه بالإشراف على بلد يبتعد عن المسار المرسوم له.
كما فشل أيضاً في تحقيق طموحه الذي حلم بتحقيقه طيلة حياته وهو تأكيد دور سوريا المركزي في القضايا الإقليمية، فلقد أثبت القول المأثور المتناقل على لسان هنري كيسنجر: “لا يمكنك أن تخوض حرباً في الشرق الأوسط دون مصر، ولا يمكنك أن تحقق السلام بدون سوريا” بأنه خاطئ وذلك عند توقيع اتفاقية كامب ديفيد في عام 1979.
إذ في ذلك العام أضيفت سوريا إلى القائمة الأميركية التي ظهرت حينها والتي تضم الدول الممولة للإرهاب (وسوريا هي الدولة الوحيدة التي ظلت في تلك القائمة حتى اليوم)، وهكذا لم يعد بوسع حافظ أن يلعب أي دور حاسم بوصفه مخرباً، وذلك مع انحسار أهمية القضية الفلسطينية، كما أن غزواته التي أخذ يمارسها بين الفينة والأخرى ضمن الدبلوماسية العربية-الإسرائيلية لم تحقق هي أيضاً أي تقدم ملحوظ.
وبعدما أضاع عقداً من الزمان على تلك الأمور، انهار الاتحاد السوفييتي، فبدأ مركز ثقل الدبلوماسية في المنطقة يتجه نحو الشرق وتحديداً إلى دول الخليج العربي، وهكذا انتهى الأمر بسوريا على هوامش السياسة الإقليمية.
ومع نهاية ولايته الثانية، وقبل وفاة حافظ بأشهر قليلة، كان بيل كلينتون آخر رئيس أميركي يستثمر دبلوماسياً في جهود الوساطة من أجل السلام بين سوريا وإسرائيل، لكنه فشل هو أيضاً، فقد استنفد حافظ الأسد عبر الصبر الاستراتيجي الذي يتبجح بممارسته قوى خصومه، إلا أن ذلك لم يضف شيئاً لمصالح سوريا، كما لم يضمن لها استعادة مرتفعات الجولان، إذ أصبح ذلك الحلم الوطني بعيد المنال أكثر من أي وقت مضى.
وهكذا أصبح الإرث الذي وصل لبشار على المستوى الداخلي يمور فوق أرض متقلقلة، ففي الوقت الذي نجت فيه البلاد من أزمة اقتصادية خانقة في أواسط ثمانينيات القرن الماضي، دخلت سوريا القرن الواحد والعشرين باقتصاد يحتضر وبيروقراطية غير مجدية، وقطاع عام ضعيف ومضعضع ومترهل وبقطاع تعليمي وصحي متراجع، ونسب بطالة تعتبر الأعلى على مستوى العالم.
غير أن القطاع الأمني ازدهر في ظل حافظ، وذلك بفضل الاحتلال السوري للبنان مع ضمان نجاة النظام عبر ممارسة القمع الوحشي ضد تمرد حركة الإخوان المسلمين ما بين عامي 1979-1982، والذي بلغ ذروته في مجزرة حماة الشنيعة التي وقعت في شباط من عام 1982.
وبكل المقاييس، يمكن القول أن حافظ الأسد لم يكترث بالمسائل الاقتصادية، إذ ورد عنه أنه وصف الاقتصاد بأنه موضوع مخصص للحمير. أما بشار فلم يتمكن من تقليد أبيه في عدم مبالاته، فحافظ، شأنه في ذلك شأن غيره من الديكتاتوريين، كان يعتبر الميزانية العامة لسوريا أداة لبقاء النظام، ولهذا خصص الموارد والفرص – وبينها فرصة الاستفادة من الفساد المستشري- لدعم الشبكات الموالية له عبر تفضيل شخصيات من داخل النظام، لكن ذلك الوضع تجاوز هؤلاء ليشمل شرائح واسعة من النخبة التجارية الدمشقية.
هذا وترتكز الحركة التصحيحية التي أتى بها حافظ على تفكيك جزئي للسياسات الاقتصادية المتطرفة التي تبناها سلفه صلاح جديد. إلا أن الأسد الأب حافظ على المساومة الاستبدادية لسوريا، حيث قدم للسوريين أمناً اقتصادياً متهتكاً، مقابل هدوء سياسي، ويمثل ذلك شكلاً من أشكال التبعية القسرية التي حافظت على السلم الاجتماعي الهش.
كما أن الإصلاحات الاقتصادية المتواضعة التي قامت خلال العقد الأخير من حكم الأسد الأب لم تكن كافية لإخراج سوريا من سباتها الاقتصادي، بل فتحت تلك الاصلاحات آفاقاً جديدة للكسب غير المشروع بين أوساط المقربين من النظام ورجال الأعمال المرتبطين به.
وعندما وصل بشار إلى سدة الرئاسة في تموز 2000، كان الناتج المحلي الإجمالي لسوريا قد تعافى أخيراً من المستويات التي وصل إليها في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي. وخلال العقد التالي، بدا الاقتصاد وكأنه في حالة ازدهار، حيث تضاعفت حصة المواطن من إجمالي الناتج المحلي بين عامي 2000-2010، مع تحول البلاد إلى ما وصفه المسؤولون باقتصاد السوق الاجتماعي.
إلا أن النظام أخذ يقود سوريا نحو حافة الانهيار، بعيداً عن تلك المظاهر الخادعة. ففي الوقت الذي ركز فيه العالم على الساحة السياسية، أي ربيع دمشق خلال حكم بشار (ويقصد بذلك الانفتاح السياسي الذي امتد لفترة قصيرة ما بين عامي 2000-2001)، ثم تخلصه من كل منافسيه ومعارضيه في الداخل، وسياسة الباب المفتوح مع الجهاديين الذين توجهوا إلى العراق، ودوره في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري، وما أعقبه من إخراج مذل لسوريا من لبنان، كانت الكـلفة الاجتماعية والاقتصادية لحالات الاختلال الوظيفي الممنهج والعميق آخذة بالازدياد.
وبالرغم من الجهود التي بذلها بشار لتحديث وتطوير الاستبداد في سوريا، إلا أن الغالبية العظمى من السوريين ظلت محرومة النمو الاقتصادي على أعلى مستوى. لذا، وخلال العقد الأول من حكمه، ازداد الفقر والبطالة، لاسيما بين أوساط الشباب. وفي عام 2006، ضربت موجة جفاف قاسية المناطق الزراعية في سوريا، وتعاظمت أضرارها بسبب سوء الإدارة والفساد.
وعلى مدار السنين القليلة التي أعقبت ذلك، اضطر آلاف المزارعين الصغار إلى ترك أراضيهم والتحول إلى نازحين بسبب البيئة حيث استقر هؤلاء في ضواحي دمشق والمدن الكبرى مثل درعا جنوب سوريا. في حين ازداد جشع أعوان النظام بقيادة أفراد من عائلة الأسد، وعلى رأسهم رامي مخلوف، حيث سيطر هؤلاء على مجتمع الأعمال في البلاد وحولوه إلى قطاع داعم للنظام، إذ يذكر أن مخلوف كان يسيطر على حوالي 65% من اقتصاد سوريا.
ومن جانبه بدا بشار مؤمناً بأن ولاءه لمن يدافعون عن فكرة العروبة والمقاومة، بالرغم من كونها مجرد أقوال بعيدة عن الأفعال، يكفي لعزل نظامه عن موجة الاحتجاجات التي اجتاحت المنطقة في أواخر عام 2010. لكنه كان مخطئاً، إذ مع حلول شهر آذار من العام 2011، وبوجود نماذج مثل ما حدث في مصر وتونس وليبيا أذكت طموحات السوريين، تمكن السوريون من كسر حاجز الخوف عندما توحدت أصواتهم في صوت يعبر عنهم جميعاً، فانضم الجميع إلى الاحتجاجات والمظاهرات المنادية بالعدالة الاقتصادية والاجتماعية وإنهاء حكم نظام الأسد. بيد أن النظام عند مواجهته لتحدٍ غير مسبوق، والذي تمثل بسحب الإجماع عليه وإسقاط شرعيته على يد ملايين السوريين من عامة الشعب، رد بالعنف، الأمر الذي وضع البلاد في مسار لا بد أن ينتهي بحرب أهلية.
واليوم، وبعد مرور عقد على النزاع، ما يزال الأسد يتربع فوق الدمار الذي لحق ببلاده، إلا أن ما أبقاه هناك ليس التدخل الروسي والإيراني فحسب. ثم إن مقتضيات بقائه خلفت أثراً مرعباً على البلاد، حيث أصبح الاقتصاد مدمراً، والنسيج الاجتماعي ممزقاً، وظهر جيل كامل تربى على العنف، وعلى التعصب الطائفي والتطرف. كما أن الحرب أطلقت العنان لشهوة النظام لارتكاب الجرائم، مما عزز وحشيته وفساده بشكل أكبر. وأصبح المتربحون من الحرب وأمراؤها يتبجحون بامتيازاتهم بوصفهم يمثلون النخبة السياسية الجديدة لسوريا، وهكذا أخذ هؤلاء يحصدون ثمار دعمهم لآل الأسد طيلة العقد الماضي.
وفي الوقت الذي يدرس فيه السوريون عملية انتقال محفوفة بالمخاطر إلى مرحلة ما بعد النزاع، مع احتمال فرض نوع من السلم الاستبدادي، يبقى أفضل ما يعبر عن الإرث الطويل لحكم آل الأسد هو تلك الوقائع الثنائية المنفصلة تماماً عن بعضها. فصور بشار المنتصر، وأولاد مخلوف بسياراتهم الفارهة وطائرتهم الخاصة، وصورة أسماء الأسد وهي ترتدي بنطال جينز صمم خصيصاً من أجلها أثناء تقديم التعازي للأرامل، أخذت تظهر جنباً إلى جنب مع صور مختلفة تمام الاختلاف عن طوابير طويلة من الأكفان البيضاء، وطوابير الخبز، والأطفال الذين ينبشون القمامة، والقوارب التي تغص بالسوريين وهم يبحثون عن مستقبل مجهول المعالم بعدما تحولوا إلى لاجئين.
لقد كانت الثورة السورية بمثابة استفتاء على إرث عائلة الأسد، فكانت بذلك أشد وطأة من أي حكم قد يصدره أي أحد من خارج البلاد. إلا أن هزيمتها وقعت بعد دفع ثمن باهظ، إذ أصبح أمامنا مشاريع لإعادة إعمار البلاد وإصلاح البنية الاجتماعية تحتاج إلى أجيال وأجيال حتى يتم تنفيذها، وتلك تحديات لا يملك النظام بمفرده الإمكانات التي تمكنه من تلبيتها وتحقيقها، مما قد يزعزع سيطرته على البلاد. إلا أن آل الأسد ومؤيديهم المخلصين لا يعترفون بإمكانية حدوث كل ذلك. إذ في عام 2028، وفي حال بقي الأسد في السلطة، فلا بد له أن يصطدم بحدود ولايته الرئاسية التي تم تحديدها في عام 2012. وتحسباً لتلك اللحظة، تقوم الأسرة حالياً بتهيئة ابنه الأكبر، حافظ بشار الأسد، ليعتلي عرش الرئاسة حينها، وذلك لأن آل الأسد لم يكتفوا من سوريا بعد، وهنا لا نملك إلا أن نقول: واأسفاه على الشعب السوري!
المصدر: موقع تلفزيون سوريا